الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

متقاعدون.. في مصيدة الفراغ

متقاعدون.. في مصيدة الفراغ
25 ديسمبر 2012
لم تكن حياة الستيني يونس عبد العزيز قبل التقاعد، كما هي بعده، بحسب أفراد أسرته، الذين أكدوا أن هناك تغييرات فسيولوجية ونفسية واجتماعية عدة، طرأت عليه منذ اليوم الأول لتقاعده ومكوثه في البيت، محذرين من أن التعامل الخاطئ مع المتقاعد، وعدم فهم نفسياته، قد يربك وضع الأسر. وخلصت العديد من الآراء الاجتماعية إلى أن المتقاعد يحتاج إلى أسلوب خاص جداً، للتعامل معه، حتى لا يشعر أنه أصبح بلا فائدة، أو أنه عالة على أفراد أسرته، بعد سنوات عدة من العمل والجد والاجتهاد. يصف جمعة يوسف حالة والده قبل التقاعد بأنه كان شخصاً هادئاً وحنوناً على إخوته الصغار، وكان النظام أساس حياته في كل شيء، لكن انقلبت الحال وتغيرت سلوكياته مائة بالمائة، مستطرداً: «بعد التقاعد أصبح متفرغاً للجميع، حتى الحديقة المنزلية التي كان لا يعيرها أي اهتمام، باتت شغله الأول عندما يستيقظ من نومه. وحتى الآن الأمور طيبة، لكن أن يصل الأمر ليقوم بتصليح كل شيء في المنزل، ويعتبر نفسه صاحب خبرة في ذلك، فإن النتيجة أنه كلما يقوم بإصلاح شيء يصيبه بالعطل، بدلاً من إصلاحه، حتى وصل الأمر به إلى مساعدة الجيران في حالة تعطل أي أجهزة لديهم، في محاولة منه لقتل وقت الفراغ». مشيراً إلى تغير حالة الهدوء التي كان يتصف بها والده، إلى حالة غضب، حيث أصبح يغضب من أتفه الأشياء، ولا يعجبه شيئاً، ولا يقبل الانتقاد أو التعليق، ولم يعد يهتم بإخواني الصغار، أو يسأل عنهم. نظرة بعيدة بينما تصرفات الستيني جاسم عبدالله سرور كما ترويها لنا زوجته (أم أحمد) ليست مختلفة عن والد جمعة، حيث تقول: «زوجي يعتبر أحد الرجال المعروفين في الفريج، وله رأي سديد ونظرة بعيدة المدى، والجميع يستشيرونه في كل صغيرة وكبيرة ويأخذون برأيه، ومشاغله الكثيرة قبل التقاعد كانت ما بين العمل والمزرعة والزيارات والصلاة في المسجد، لكن بعد التقاعد الوضع اختلف كلياً، حيث أصبح لا يعيرنا أي اهتمام ولا يأخذ بآرائنا، منطوياً على نفسه، ولا يحب المناقشة مع أحد، يتمسك كثيراً برأيه، ويرى أننا جميعاً على خطأ، بعكس ما كان عليه قبل التقاعد، كما أنه أصبح عصبياً أكثر من اللازم، ولا يقبل الانتقاد أو التعليق، وينتقد ملابسنا كثيراً ولا يعجبه ما نرتديه، أما تصرفاته خارج المنزل، فلم تزل كما كانت، يعتد برأيه، لكن لا يتعصب له، وإذا خرج لتلبية دعوة، أو ذهب لأحد المجالس، يعود منه منشرح الصدر على عكس ذلك عندما يكون موجوداً في المنزل». هموم متقاعد وفي المقابل، تحكي (أم خالد) تجربة زوجها المتقاعد: «أصبح لا يغادر المطبخ، حيث يقوم بالطبخ لمن في المنزل، وهذا الأمر جعلني أفقد جانباً كبيراً من دوري، كما تولد لدي اكتئاب من تدخله الكثير في كل شيء، حتى خروجي وملبسي، ما جعلني ألجأ إلى تناول الأدوية المضادة للاكتئاب». وأضافت: «قد يقول البعض إن هذا أمر مبالغ فيه، لكني أؤكد أن من يعيش مع أي رجل متقاعد مثل حالة زوجي سيشعر بذلك، فمشكلة الشخص المتقاعد تكمن في أنه يعاني فراغاً بسبب وجوده الدائم في المنزل، حيث لم يكن متعوداً على الحياة بهذه الطريقة، كما أنه حين يصبح موجوداً طوال الوقت، ويتدخل في جميع أمور أفراد الأسرة، يسبب ذلك بعض التوتر». بدورها تشتكي المطلقة جميلة إبراهيم التي تعيش مع ابنتها (12 عاماً) عند والدها، من أن والدها بعد تقاعده أصبح يتسبب في مشاكل بالمنزل، وتُعاني منها هي وابنتها، فبعد تقاعد والدها، أصبح يُدقق على خروجها وأبسط سلوكياتها، وكذلك ابنتها التي أصبحت محط مراقبة الجد، حيث ينتقد تصرفاتها وسلوكياتها. وتتابع جميلة: «في أحيان كثيرة أحاول الجلوس فترة أطول داخل غرفتي أو أذهب عند خالتي لقضاء اليوم بأكمله هناك، حتى يمر الوقت وأرجع بعض ذلك إلى المنزل، وطبعا أجد الوالد في انتظاري، ويسمعني الكثير من الكلام الجارح ويتهمني بعدم جلوسي معه أو اهتمامي بشؤونه، حيث زاد هذا الأمر وظهر على السطح بعد وصول الوالد إلى سن التقاعد، الذي أثر على نفسيته وسلوكياته». وقت الفراغ وتروي صفية مبارك حالة زوجها، فمنذ أن تقاعد عن العمل قبل سنتين، وهي في مشاكل مستمرة ومتواصلة من بداية اليوم إلى نهايته، وذلك بسبب وقت الفراغ، حيث إنه تعود على العمل، وأصبح الآن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في المنزل. وتتابع بصوت شجي: «لم أتخيل في يوم من الأيام أن حياتنا الأسرية ستكون صعبة إلى هذا الحد، وكثيراً ما كنت أنتقد صديقاتي اللاتي تقاعد أزواجهن عن العمل بسبب كثرة شكواهن، إلى أن عايشت التجربة، ومن ثم أدركت أن تلك المبالغات في حديثهن ما هي إلا النذر القليل مما أعانيه، فقد انقلبت الحياة في المنزل رأساً على عقب». انتقادات متواصلة وتشاطرها الحديث (أم فاطمة)، بقولها: «بعد إحالة زوجي للتقاعد، أصبح يتدخل في أمور كثيرة لم يكن في السابق يعيرها أدنى اهتمام، فقد أخذ يغير في ديكورات المنزل وكأنه مصمم ديكور، والأصعب أن هذا التغيير كان إلى الأسوأ، وكثيرا ما ينتقد لبسي، ويتدخل في طريقة لعب الأطفال، وينتقد حتى طريقة مشيهم وجلوسهم، ويختار لهم البرامج التلفزيونية التي لا يرغبون فيها، كل هذا وعبارات النقد والتقصير واللوم تطاردني من مكان إلى آخر، وتشير بحسرة وألم إلى أنها قاطعت معظم صديقاتها لتكون بجانبه، حتى لا يشعر بالملل، حتى الهوايات المفضلة بالنسبة لها تخلت عنها مثل رياضة المشي والتسوق». والتقاعد يعتبره البعض نهاية الحياة، لكن الوضع عند المتقاعد الستيني نور محمود بدران مختلف، فقد أحيل إلى التقاعد بعد 30 سنة من العمل، ومنذ ذلك اليوم يلازم غرفته وبيته ولا شغل له سوى النوم والعزلة والصراخ، وفي الوقت الذي كان لا بد أن يعوض فيه كل لحظة قضاها بعيداً عن أسرته، صار حبيس غرفته. ويقول: «أحب عملي وشعرت لحظة التقاعد أني فقدت قيمتي وهيبتي، لقد تأثرت كثيراً بعد أن أحلت إلى التقاعد، فأنا لا أستطيع أن أبقى من دون عمل، وعلى الرغم من أن أبنائي اقترحوا علي بعض الأشغال التي تملأ فراغي، إلا أني رفضت ذلك العرض». خليل حسين ستيني متقاعد آخر، لا يختلف كثيراً عن الشخص الأول، غير أن هذا الشخص يتناول الكثير من القهوة ويدخن كثيراً، ومع تقاعده أصبح تقريباً لا يخرج من المنزل ويقضي الوقت في غرفة النوم، حيث تقول زوجته: «يدخن كثيراً ويشرب قهوة بشكل كبير، وبالطبع هذا جعله يعيش في عزلة، وذلك بسبب رائحة التدخين، التي أصبحت غير محتملة بالنسبة لي ولأبنائي، مشيرة إلى أنه أصبح يتناول أدوية مضادة للاكتئاب، نظراً لأنه شعر ببعض التغير في مزاجه». وبصوت ممزوج بالألم والحسرة، تحدث المتقاعد الستيني أحمد عبد العزيز: «كنت موظفاً، فقد أفنيت شبابي في العمل، تسعة وثلاثون عاماً سعيت جاهداً لتطوير مؤسستي، وكنت موظفاً مثالياً بشهادة جميع زملائي، لكن وجدت نفسي في خريف عمري، حيث تمت إحالتي إلى التقاعد، أعلم أن هذه سنة الحياة، والأجيال الشابة دماء جديدة تضخ في شرايين المجتمع، بيد أن بداخلي تكمن طاقة جبارة، فأنا ما زلت قادراً على العطاء». مرحلة الشخص الذي على مرحلة قريبة من التقاعد، ويعرف أن موعد تقاعده قريب، عليه أن يقوم بوضع خطة لمرحلة ما بعد التقاعد، حيث أوضح استشاري الطب النفسي بجناح العلوم السلوكية بمدينة الشيخ خليفة الطبية الدكتور علاء حويل، أهمية كيفية تقضية أوقاته وتوفيق أوضاعه المالية، لا أن يتقاعد الشخص ويبقى طوال الوقت يراقب سلوكيات أفراد عائلته ويكدر صفو حياة الأسرة بتصرفاته وسلوكياته، فهذا أمر يجلب عليه العديد من المشاكل النفسية والاجتماعية، لذا يجب على الموظف الذي يتقاعد أن يتهيأ نفسياً لهذه المرحلة ويناقش الأمر مع جميع أفراد العائلة، خاصة زوجته وأبنائه الكبار الذين يعيشون معه، وكيفية التعامل مع حياته الجديدة بعد أن أصبح لا يعمل، وكيفية إشغال وقت الفراغ الكبير الذي أصبح يعاني منه. ويضيف: «دور الأسرة مهم وحاسم، حيث يجب أن تكون المناقشة بين أفراد أسرة المتقاعد صريحة، ويدلي كل شخص برأيه بوضوح مع رب المنزل، وهذا سيكون عاملاً مهماً في تحديد الكيفية التي سيسير عليها كل من في المنزل، كما يجب أن يهتم الرجل المتقاعد ببعض الأنشطة الرياضية والاجتماعية والصحية، وأن يشجعه جميع من في المنزل على القيام بها». اكتئاب ويواصل الدكتور علاء حويل حديثه: «بعض الأشخاص ينظر إلى هذه المرحلة «التقاعد»، نظرة سـلبية ويشـعر بأنها نهاية الحياة، هذه النوعــية من الأشـخاص معرضة للإحـباط والاكتئاب الذي قد يتحـــوّل إلى اكتئاب مرضي يحتاج إلى علاج عيادي، ســواء كان بالأدوية المضـادة للاكتئاب أو العلاجات النفسية». وأوضح أن البعض الآخر يتحول إلى مراقب ومرابط في المنزل يرصد حركات الجميع وينشغل بكل أمور البيت، وقد يصل الأمر به أن يتدخل في كل ما يدور في المنزل، وهذا الأمر يُضايق الأهل في المنزل، خاصة ربة المنزل التي لم تعتد على ذلك قبل تقاعد الزوج، بالإضافة إلى بقية أفراد الأسرة الذين لم يعتادوا على مثل هذا السلوك من أبيهم الذي يتدخّل في كل كبيرة وصغيرة». التغير في السلوكيات أوضح استشاري الطب النفسي بجناح العلوم السلوكية بمدينة الشيخ خليفة الطبية الدكتور علاء حويل، أن الأمر قد يصل إلى أن يدخل المتقاعد إلى المطبخ ويتدخّل في طريقة الطهي ويطلب تغييره، أو يتدخل في مشاكل العاملات في المنزل، ويتدخل في نوع الطعام الذي يجب أن يأكله الجميع، والشيء الآخر أنه يريد من الجميع عدم ترك المنزل، حتى لا يتركونه بمفرده، وهذا التغير في السلوكيات الذي يحدث في المنزل بعد تقاعد الوالد، يسبب ربكة، فالبعض يجاري الوالد، بينما يشعر آخرون بالضجر والعبء الثقيل، الذي يعكر صفو حياتهم، مشيراً إلى أن التقاعد عن العمل ليس وحده هو من يجعل الزوج أو الزوجة يعيش اضـطرابات نفسية، بل أيضاً المرحلة العمرية لها دور في سن التقاعد، والتي تصاحبها تغيرات نفسية تكون في الغالبية العظمى عبارة عن اضطرابات عصبية، وحساسية مفرطة، وتقلب في المزاج. مشروع جيد قبل أن يحال عمران النعيمي إلى التقاعد، فكر كثيراً بما سيفعله، فتوصل إلى ضرورة استغلال المال الذي ادخره، مع ما قدم له من مستحقات نهاية العمل، في فتح مشروع جديد، يكسب منه قوت يومه ويقضي أوقات فراغه. ويضيف: «عملت كثيراً وأحس أن لدي دوراً كبيراً تجاه أسرتي بعد التقاعد، إذ يجب أن أقدم لهم ما لم أستطع تقديمه حينما كنت موظفاً، خاصة أني أشعر أن العمل سرق من عمري الكثير، ولا أصدق أن أولادي كبروا وصرت جداً بهذه السرعة». محل تجاري يفكر الستيني عبيد سعيد في أن ينفذ مشروعاً ما، لكن لم يحدّد إلى الآن ما هو، وكيف يبدو، حيث يقول بابتسامة: «أرى أن افتتاح محل تجاري لبيع أدوات الصيد هو الحل المناسب لفترة ما بعد التقاعد، فعلى الرغم من خبرتي في الصيد، إلا أنه هو الحل الوحيد للترويح عن النفس، والهروب من البيت، بسبب حالة الاكتئاب، التي أشعر بها بعد تقاعدي عن العمل والجلوس في المنزل فترة طويلة». ويضيف: «التفرغ للعمل الخاص، هو أفضل ما يميز المتقاعد، فهو يشغل بالمشروع ويبتعد عن حالة القلق والتوتر التي يعيشها، كما أن أسرته قد تشعر بالراحة». التطوع في العمل الخيري رسمت زوجة الستيني عبدالله إسماعيل خطوة لزوجها بعد تقاعده لتخرجه من حالة عدم الرضا، حيث ســـمعت الكثير مــن صـــــديقاتها عن حالة الاكتئاب التي يعيشها المتقاعد، وتصرفاته التي تتغـــير بدرجة كبيرة، خاصة تجاه أقرب الناس إليه. وقالت: «حتى لا أمر بظروف صديقاتي ولا أشعر بالضيق والضجر من ملازمة زوجي للبيت، وحتى لا يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في المنزل، وجدت أن التطوع في عمل الخير من خلال مشاركته في الجمعيات التطوعية، هو أفضل طريقة لإخراجه من الإحباط وفقدان الثقة بنفسه، لافتة إلى أنه انخرط بالفعل في هذا العمل، ما أسهم في رفع معنوياته وساعده في أن ينشغل بما هو أهم من متابعة شؤون البيت والتدخل في كل أموره».
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©