الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أماكن ضيّقــة

أماكن ضيّقــة
19 يوليو 2007 02:45
حين تعارفا، مدّت يدها مصافحة فرفع حاجبيه مردداً اسمها: آه ·· هدى· إنه اسم ابنتي أيضاً· منذ الوهلة الأولى شعرت بملوحة لاذعة وبشيء من العدوانية إزاء الرجل الضخم الجثة والمحفور وجهه بجدري قديم· عندما حلّ في الغرفة التي بالكاد تتسع لشخصين سألها وزميلها بشكل سريع، مثل محقق متمرس، عن طبيعة المواد التي يعملان عليها وعن إنجازاتهما الشخصية وعن تواصل القرّاء، ولدى عودتها إلى البيت همّت بأن تخبر زوجها عن رئيس القسم الجديد، الذي حضر بعد أسابيع من خلو المكان وتناوبها وزميلها العمل على تحرير القسم الثقافي بالمجلة، وعن انطباعها الأول الذي يكاد يكون حدساً، لكنها عدلت عن رأيها عندما رأته يرمق الساعة بمجرد دخولها· هو لا يهمه عملها على أية حال، قالت لنفسها، فلماذا عليها أن تلقي حجراً لن يجدي في تحريك سطح البحيرة الراكد· هو أيضاً لا يتحدث عن عمله في البيت، أو بشكل أصح، توقف عن الحديث عن عمله منذ ذلك اليوم الذي اختلفا فيه حول الوقت الذي يسرقه العمل من حياتهما· ذكرته بأن هذا كان شرطها قبل الزواج وأنه وافق برحابة صدر وأكّد أنه سيحترم قرارها إذا كان يريحها· كان يكذب، وأن تكتشف ذلك بعد مرور عام على زواجهما لا يعني أن تهدم هذا الكيان الصغير، بل عليها أن تمنحه المدة الكافية للتقبل· هكذا اقنعت نفسها، وواصلت الذهاب إلى المجلة· بعد أسبوعين وجدت نفسها في أحد الحوارات التي يسميها رئيس القسم ''صحّية''، بينما تعتبرها استفزازية، بشأن أحد النصوص القصصية التي قرأتها وأجازتها للنشر· سألها: هل أعجبتك القصة ؟ - نعم، وجدتها جيدة· قال باستخفاف بعد أن وقف والأوراق في يده: هل مرّت عليك مقولة تشيخوف مرة ؟ ذلك الذي قال إنه إذا أعلمنا الكاتب، في بداية قصته، أن هناك بندقية معلقة في الغرفة، فإن على القصة ألا تنتهي دون استخدام هذه البندقية· في هذه الأقصوصة ذات الورقات الخمس، هناك عشرات الأشياء المعلّقة للزينة فقط· إنها لا تهم القصّة في شيء· استفزتها ملاحظته، فقالت بعد أن رشفت من فنجان القهوة: لكن فروست في المقابل قال إن على الكاتب أن يكتب كما لو كان لاعب تنس دون شبكة· لوى شفتيه وبدا لها وكأنه هزّ رأسه: فروست شاعر يا ابنتي· هل تكتبين الشعر؟ أزعجها سؤاله المباغت، وأزعجها خطابه الدائم لها بابنتي· أحست أنه العملاق الذي يقف مخاطباً طفلاً ضئيلاً بطرف إصبعه· - أحياناً، عندما أريد أن أشعر بالانعتاق من الحياة أفعل! رفع حاجبيه مرّة أخرى ثم أكمل سؤاله: - تكتبين الشعر الحديث ؟ - لا يوجد شعر قديم وآخر حديث، كما أفهم، يا أستاذ· هناك شعر أو لا شعر· سمعت هسيس ضحكة وبعدها قال بانجليزية تشدّد على حرف الراء "Umm That's interesting! " وضع القصّة جانباً، وجلس يفتش في المواد الأخرى التي وصلت على بريد المجلّة، فيما انشغلت هي بتأمل مسامات وجهه الغريب ورأسه الكبير المكلّل بالبياض· وعندما غادرت كانت تشعر بضآلة لم تستطع الانتصار عليها· لدى عودتها للبيت كانت الخادمة قد وضعت الغداء، وكان زوجها قد بدأ يأكل وإلى جانبه الريموت كنترول، حتى يسهل عليه عملية هضم الأكل والأخبار في وقت واحد، كما يقول· لم يعر دخولها اهتماماً، فانفجرت في وجهه· - هل تعاقبني لأنني أعمل مثلك ؟ نفض يديه عن الطعام وغادر المكان إلى غرفته، تاركاً إياها واقفة أمام وجه ''بوش'' على الشاشة· قالت في سرّها، إن ما يجري في العالم ليس أسوأ من الحرب الصامتة بينها وبين زوجها· لحقت به إلى الغرفة وطلبت منه أن يجلسا للتفاهم، بل كادت ترجوه ذلك· أعاد الكلام نفسه حول رأيه في عملها والضغوط التي تحملها معها إلى البيت· - كل الأعمال تجلب ضغوطها معها إلى البيت· المجلّة ليست استثناءً· - إذاً توقّفي وانظري إلى نفسك في المرآة· فكرّت بينها وبين نفسها عن علاقة المرآة في عملها، وعمّا إذا كان الأمر يتعلّق بهيأتها أم بشكل حياتهما الزوجية التي استنزفت كل جمالياتها وبريقها وألوانها في الأشهر الأولى، ولم يبق شيء يمكنهما الحديث عنه أو الضحك عليه، لكنها خشيت أن تقول ذلك فيعتقد أنها غبية لأنها لم تفهم قصده من وراء الملاحظة· سألته لتصرف اللوم عن نفسها إليه : - هل كلفت نفسك عناء قراءة ما كتبته الأسبوع الماضي لتعرف أهمية ما أحاول قوله لقرّاء مازالوا يحدّقون في الكتابات الكلاسيكية ويقرأون ما تمنحهم إياه الأسطر التي أمامهم فحسب· أشار إلى الكتب الموضوعة على الطاولة المجاورة للسرير، وكانت على فمه التواءة الاستخفاف ذاتها التي يتقّمصها رئيس القسم: هل تقرأين كل هذه الكتب من أجل استخدام تلك المصطلحات التي امتلأ بها مقالك الأخير؟ أتعتقدين أنك بهذه الطريقة تشجعين الناس على الخروج من دائرة أمّيتهم الكلاسيكية كما تسمينها ؟ أدهشها أنه قرأ المقال، وأنه نظر له بتلك السطحية المقيتة· وشعرت بأن الحديث معه ليس مجدياً، وأنه من الأفضل أن تأكل أي شيء بسرعة ثم تغفو قليلاً كي تستطيع مراجعة التحقيق الذي جلبته معها إلى البيت· عندما استيقظت لم يكن زوجها في البيت· قلبت أوراق التحقيق ثم اتصلت برئيس القسم وأخبرته أنها متعبة وأن عليه أن لا يتوقع منها شيئاً· - لكن العمل يجب ألاّ يتوقّف على مزاجك يا ابنتي· - قلت إنني متعبة· التعب يختلف عن المزاج ·· سمعت صمتاً على الجانب الآخر، تخيلته فيه يهزّ رأسه الكبير ساخراً منها، فأردفت بعصبية ودون أن تفكر في كلامها: ثم إنني لست ابنتك يا أستاذ· قالت ذلك، ووضعت السماعة· *قاصة من الامارات
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©