الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حياة الآخرين يصر على إنسانية الإنسان

حياة الآخرين يصر على إنسانية الإنسان
16 مارس 2008 03:08
تخطو السينما الألمانية يوما بعد يوم خطوات واسعة باتجاه صناعة أفلام حديثة ومختلفة تتجاوز حدودها الأوروبية إلى كل مكان في العالم على أيدي مخرجين وكتاب سيناريو جدد أبهروا العالم بأفلامهم في السنوات الثلاث الأخيرة· فقد شاهد العالم قبل سنة من الآن فيلم العطر المأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه ''شاهده في أوروبا وحدها أكثر من خمسة ملايين مشاهد'' وقبل سنة من الآن أيضا أطل علينا المخرج الألماني فلوريان دونرسمارك بفيلمه الباهر ''حياة الآخرين'' الذي ما زال يعرض حتى هذه اللحظة بعد أن نال الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي في العام الماضي· يصور الفيلم قصة مستلهمة من ألمانيا الشرقية قبل سقوط جدار برلين بسنوات قليلة ويتحدث عن حياة كاتب يوضع تحت المراقبة من قبل المخابرات· غير أن الضابط المكلف بمراقبة هذا الكاتب يتأثر بطريقة حياة الكاتب كما لو انه يكتشف حياته من جديد وفي النهاية يقرر أن يقدم تقارير كاذبة إلى مدرائه من اجل حماية الكاتب وحماية صديقته التي يقوم بابتزازها وزير الثقافة ويجبرها على ممارسة الجنس معه· القصة واقعية وربما مأخوذة من أرشيف دائرة المخابرات في ألمانيا الشرقية لأن سيناريو الفيلم البديع خلا من أصغر الثغرات وكان محسوبا بدقة متناهية مثل أي عملية مخابراتية· يبدو رجل المخابرات المكلف بمراقبة الكاتب، الممثل الكبير ''اورلش موهي'' وحشا في صرامته الوظيفية وآلة مبرمجة في أداء واجبه ولا يعرف من الحياة سوى العمل والبيت الخالي من أي شيء يذكر بوجود إنسان يعيش في هذا المحيط· لكن هذا الوحش كما هو حال انكيدو في ملحمة كلكامش يروض من خلال البغي التي تعيد له إنسانيته المدفونة تحت طبقات عميقة في اللاوعي· فبعد أن يتابع رجل المخابرات هذا أثناء مراقبته لحظات حميمة بين الكاتب وصديقته الممثلة المسرحية ''مارتينا غديك'' يكتشف أنه لم يعرف امرأة طيلة حياته، لكن حين يتعرف على امرأة أخرى ويعاشرها للمرة الأولى تبدأ حياته تتخذ مسارا مغايرا تماما، ثم يقوم بتناول الكحول ويكتشف في تلك اللحظات أن في داخله إنسانا حيا وجيدا فوق ذلك· أما الانقلاب الحقيقي فيحدث عندما يستمع إلى قطعة موسيقية رائعة موقعة على آلة البيانو فتنحدر دموعه بصمت كما لو أنه نادم على سني حياته التي قضاها في تدمير حياة الآخرين· هنا تحدث الانعطافة الأولى في الفيلم دون أن يخرج عن مساره· يرينا الفيلم بطبيعة الحال الطريقة التي تعمل بها أجهزة المخابرات في العالم، لكن في هذا الفيلم نرى جهاز مخابرات من نوع خاص لأنه جهاز لدولة فاشية قائمة على ايديولوجيا متعصبة وتابعة لحزب واحد أوحد، بحيث تتحول هذه الايديولوجيا من فكر إلى دين ينبغي على الجميع عبادة الأخ الأكبر فيه دون سؤال أو نقاش· هذا من جانب، أما الجانب الآخر فالفيلم يرينا كيف يتحول المواطن في هذا البلد إلى متهم ينبغي أن يثبت براءته كل يوم· أما السخرية المبطنة التي نجح كاتب السيناريو في إبرازها فسوف نجدها في اللغة التي يستخدمها المحققون مع المشتبه بهم، إذ غالبا ما يبدأون حوارهم بكلمة ''حضرتك أو أيها السيد'' لكن ما يحدث بعد ذلك شيء آخر تماما· الممثل القدير سباستيان كوك الذي رأيناه في فيلم ''كتاب اسود'' للمخرج الهولندي فرهاخن يقوم بدور الكاتب في هذا الفيلم بعفويته التي تعد سمة ثابتة في أدائه المتميز· يعيش هذا المثقف مثل غيره من مثقفي الشطر الشرقي من ألمانيا حالة من الإحباط والخوف لأنه معرض في كل عمل أدبي يقدمه إلى المساءلة من قبل الأجهزة الأمنية التي منعت احد أصدقائه من الكتابة والنشر مما دفعه إلى الانتحار· هذا الحدث المؤلم يدفعه إلى البحث عن آلة طابعة من أجل كتابة مقال عن الوضع الرهيب في البلد وتهريبه إلى الشطر الغربي من ألمانيا لينشر في صحفها حيث سيحدث المقال ضجة كبيرة· الانعطافة الثانية في الفيلم والتي ستزيد من توتر القصة تبدأ من شك المدراء بطبيعة التقارير التي يقدمها الضابط المكلف بالمراقبة· وعلى ضوء هذا الشك يجري اعتقال صديقة الكاتب وتهديدها من أجل الاعتراف حول كاتب المقالة ومكان الآلة الطابعة· الأكثر من ذلك أن على الضابط الذي يراقب الكاتب أن يقوم باستجواب المرأة لحنكته الشديدة في هذا المجال وعليه في هذه الحالة أن يضرب عصفورين بحجر· العصفور الأول أن عليه أن ينقذ نفسه باستخدام صرامة كافية في التحقيق لكي يثبت للمدراء انه مازال يعمل معهم، والآخر أن يقنع المرأة وعن طريق اللغة أيضا بعدم الاعتراف· ولأن المرأة تنهار وتعترف يغادر مكتبه بسرعة ودون علم أحد ويذهب إلى بيت الكاتب ويخفي الآلة الطابعة في سيارته قبل مجيء الدورية وبذلك ينقذ الكاتب· لكن صديقة الكاتب تنتحر تحت وطأة الشعور بالذنب وهذه وسيلة فنية وتقنية استخدمها المخرج ليدلل للمشاهد على أن هذه الأعمال ينبغي أن ينتج عنها ضحايا في النهاية
المصدر: أمستردام
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©