الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إبراهيم المصري·· باحث عن الشعراء عند رصيف القتلى

إبراهيم المصري·· باحث عن الشعراء عند رصيف القتلى
21 يوليو 2007 02:33
في مقدمة كتاب ''رصيف القتلى'' للشاعر ابراهيم المصري نجد وصفاً لمجمل رؤية الواقع من زاوية نظر شاعرة حيث ترد العبارة الآتية: ''إنها يوميات ملتهبة لشاعر يتحول بعينين مفتوحتين وعقل متحفز مستطلعاً فاجعة الحرب من الزوايا الأكثر إيلاماً: الإنسان ومصيره''· تلك هي رؤيا الشاعر في قصيدته أو في نصه النثري· ما يعنينا من تلك الرؤية هو الجانب الإبداعي الذي يرصده إبراهيم المصري بوصفه شاعراً للواقع الثقافي العراقي في مشاهداته التي سجلها في كتابه ''رصيف القتلى'' الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت ''''320 صفحة من القطع المتوسط· تتداخل بصيرة الشاعر وهي تلتقط العالم بين الثقافي- السياسي- الاجتماعي لتخلق بانوراما كاملة لمشهد مأساوي من المؤكد أن إبراهيم المصري ربما أحال جزءاً منه أو تسلل الكثير منه الى شعره· هنا نقول إن ما يعنينا هو الجانب الثقافي من التقاطاته للمشهد العراقي زمن الحرب مع غنى ما تناوله من عذابات الإنسان ومصيره الذي يؤرق الشاعر تحديداً· تتألق الحاسة الشعرية منذ اللحظة الأولى ''الطريق الى بغداد'' لتتسيد المشهد العام عبر بيت الجواهري: ''حيث سفحك عن بعد فحييني / يا دجلة الخير، يا أم البساتين'' وإذ غاب أحياناً يردد الشاعر من ذاكرته بيتاً لبدر شاكر السياب من قصيدته ''أنشودة المطر'' (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر / أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر)· تسيد الشعر هنا يصف إبراهيم المصري - هو نفسه - ظاهرة تسيد الشعر عند الشاعر في جدلية علاقة الشعرية بالواقع حين يقول ''ربما كنت أفتش عن حماية نفسية في الشعر منذ أن أخبرت أنني سوف أذهب الى العراق ضمن فريق عمل'' ثم يقول ''ذاهب إذن أنا إلى·· العراق·· الذي كنت أعرفه من خلال تاريحه ومن خلال مبدعيه وشعرائه وكتابه'' ويتحول بيت الجواهري الى ''لازمة'' تتكرر في صفحات الكتاب الأولى 5 مرات حتى يشغل المتلقي بتفسير دلالات هذا التكرار الذي يريد منه إبراهيم المصري التأكيد أن من يستقبله وهو يدخل بغداد الجواهري أو الشاعر المحتفي بشاعر·· نعم هو ذاك الذي يطمح إليه الشاعر المصري الذي يجد عبر بيت الجواهري المألوف لديه ما يقضي على، بل يطمش دهشته في اكتشاف عوالم لم يرها من قبل·· الشاعر يعانق الشاعر حتى لو لم يلتقيا إلا عبر الكلمات التي تعيد نسق الحياة حتى لو اختلطت وتعقدت سبلها ونتائجها·· إنه لا يعنى إلا بما يقبع في الذاكرة لهذا عندما يغيب الجواهري ينهض ''السياب'' وكأن الشاعر ينوب عن الآخر، لا لشيء إلا لكونهما يمثلان روح إبراهيم المصري الذي لم يستطع أن يغادر منطقة الشعر حتى لو ذهب خارج حدودها· ومن المفارقة - وهذا ما يعنينا في هذا النص المشهدي الطويل - أن الشعر والغناء يعبر أحدهما عن الآخر لديه حيث يستشهد إبراهيم المصري بكلمات أغنية عراقية (مالي شغل بالسوق مريت اشوفك / عطشان حفنه سنين واروى على شوفك) وكأنه باستشهاده هذا يجدد النص معبراً عن ذاته التي هي عطشى لتروى حين ترى وجه من يحبه·· أي روح شفيفة تلك التي حملت شاعراً كي يدخل بها بلاط من يحبه·· إنها أرض أحلامه الشعرية الأولى حيث يستعيد كل تاريخه الشعري الذي تشكل من قراءات الولادة الأولى لمكونه الشعري والذي سينهض حتماً من أردان الشعر - لا محالة - حين يدخل دمشق أو القاهرة أيضاً·· تلك هي الحاسة التي لا يشعر بها إلا الشاعر لأن المكون الأول سوف يستعيد حضوره حتماً· واقعية المشهد بعد أن ينتقل الشاعر / الصحفي من رصد عوالم كثيرة·· واقعية المشهد ليتحول الى سرد فيه من الوصف الكثير بما يمكن تسميته بالوحدات السردية الواصفة نلتقط من رؤية ابراهيم المصري ما يرد اقتباساً يبهر المتلقي (حينما يهطل المطر / وأنت الى جانبي / لا أحتاج الى مظلة) شاعر كردي شاب·· ليشير عبر الشعر الى عالم الجبل في شمال العراق· هنا يتحقق المفهوم الذي بحثنا عنه في هذا النص السردي الطويل ونقول إن الشعر لدى إبراهيم المصري يستدعي لواقع وليس العكس، بل يحفز الشاعر على أن تكون مجساته أكثر رقة وأدق صواباً· لا ينسى إبراهيم المصري أن يسجل في مشهدين سرديين ماذا حصل لنسخته من رواية ''الدون الهادئ'' لشولوخوف حينما كان يبحث عن كتاب ''كترا ربّا'' الكتاب المقدس للصائبة المندائيين وكيف استعارها من الصحافية ''أطوار بهجت''··التي يصفها (أطوار تكتب الشعر، وهل ثمة عراقي خارج الشعر؟) ولم يستخدم إبراهيم المصري عبارة ''وهل ثمة عراقي خارج الشعر'' إلا ليدلل على احتواء الشعر للذات العراقية حيث لم يقل ''وهل ثمة عراقي لا يكتب الشعر'' لكان قد وقع في إشكالية غير معقولة· تلك هي دقة إبراهيم المصري الذي جعل الشعر تذوقاً وقولاً وإبداعاً في ذات واحدة ولم يخرج بها الى اللامعقول· المقاهي الأدبية في فصل ''مثقفون'' يذهب بنا إبراهيم المصري الى المقاهي الأدبية حيث ''مقهى الشابندر'' في شارع المتنبي· هي روح الشاعر التي تبحث عن روح المكان الشعري·· ليتذكر من خلالها مقهى ''البستان'' في القاهرة و''الكريستال'' في الاسكندرية يلتقي بـ ''عقيل علي'' الشاعر القتيل الذي التحف رصيف القتلى عندما فاضت روحه على قارعة الطريق ليتبعه عشرات المبدعين من القصاصين، والشعراء، والكتاب· ذلك ما سجله إبراهيم المصري عن مشاهداته الإبداعية على جميع الصعد الثقافية، الحياة اليومية، الاجتماعية، ليقرأ المشهد من كل جوانبه إلا أننا اقتنصنا ما يعني مشاهداته للثقافة والإبداع· فكان مبدعاً بين مبدعين وصاحب عين مبصرة بين من أدمت عيونهم رؤية الواقع المرير·· واقع يسقط فيه كل يوم شاعر أو روائي أو مفكر على رصيف القتلى الذي بدأ يئن هو الآخر من وجع الموت· إبراهيم المصري دخل نصه شاعراً وخرج منه شاعراً فيكفيه أنه خلق نصاً إبداعياً مزج السرد المتألق بالروح الشاعرة حتى وإن لم يكتب شعراً·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©