الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
اقتصاد

طعام الطرقات يهز التاريخ في اليابان

طعام الطرقات يهز التاريخ في اليابان
22 يوليو 2007 00:25
أن يصل أحد اليابانيين إلى حد القول: ''حاولت في إحدى المرات أن أتناول الطعام على الطريق، فانتابني شعور كما لو أنّ عليّ أن أظهر عارياً أمام الملأ''· العادات في الأرخبيل صارمة، لكن الأجيال الجديدة تكسر ذلك التابو وتنخرط في ثقافة الصخب ··· والتحرّر· الطريف أن تُطرَح الآن، وعبر وسائل الإعلام، مسألة تناول الطعام على الطرقات، لاسيما الفاست فود· أكثر من 40 في المئة ممن أعمارهم تتراوح ما بين العشرين والتسعة والثلاثين عاماً يعتبرون أنّ ذلك ''مخجل''، مع أن اليابان عرفت ثلاث حقب محورية كان الأكل على الطريق خلالها معروفاً·· ''أورينت برس'' تعرض في التحقيق التالي للجدل الياباني الدائر: لماذا يفتح الناس أفواههم ؟ إذا طرحت هذا السؤال على الكاهن البوذي ''هوا شون لانغ''، فلسوف يجيبك في الحال: ''لكي ينطقوا بالذهب''، وهو لا يقصد بالطبع أن يتحدثوا عن آخر ما تقوله الشاشات في وول ستريت أو طوكيو أو بكين، وإنما القصد هو القول المقتضب والعالي الثمن· لم يقل: إنّ الناس يفتحون أفواههم لكي يتناولوا الطعام· هذه مسألة ثانوية، وميكانيكية، ولا علاقة لها بالتميّز النوعي للكائن البشري، وإن كان الأوروبيون قد حوّلوا هذه العملية إلى طقس احتفالي تحيط به كل مظاهر البذخ والرفاه التي ما لبثت أن انتقلت إلى مجتمعات أخرى·· آداب الطعام· كلمة طالما تتردد· الشوكة والسكين، على أن تكون حركة الفم هادئة، حتى وإن قيل: إن بعض ملوك انجلترا كانوا يأكلون كما المطاحن، أو بالأحرى كما جعجعة المطاحن أمام ضيوفهم في القاعات الفاخرة التي عني الفرنسيون بها كثيراً، كما عنوا بالأدوات والأطباق، حتى أن الأثرياء في بعض البلدان الأوروبية كانوا يطلبون من الرسّامين الكبار أن يرسموا لهم على الأطباق، وهناك صحن رسم عليه ''ليونار دوفنشي''، صاحب ''الموناليزا''، لكن جانباً منه تحطم في حادثة حملت ''دوفنشي'' على إلقاء الصحن بهدف تحطيمه لأن الرسم لم يعجبه· والآن، هناك دور لتصميم الأزياء مثل ''فيرساتشي'' وغيرها، تصميم الأطباق والملاعق والشوك وغيرها، فالأناقة لا تتجزأ، وهي لا تتوقف البتة عند غرفة أو غرف الطعام الفاخرة، والتي حملت الكاتب الفرنسي الساخر ''فولتير'' على القول: ''هل يذهب الناس إلى مائدة صاحب الجلالة لكي يملأوا بطونهم أم لكي يملأوا عيونهم ؟''· لا طعام في الطريق إلا لعامة القوم، وحتى في بعض المجتمعات العربية كان تناول الطعام في العراء يبدو وكأنه نوع من الخطيئة الاجتماعية· للطعام أصوله· يفترض أن تحصل العملية بين الجدران، أو حتى تحت سقف الخيمة، وإن كان هذا التقليد كان يكسر في حفلات الأعراس، أو في المآتم، حيث لابد من العراء لاستيعاب المجموعات البشرية· مطاعم الأرصفة أحدثت طقوسية جديدة بلغت ذروتها مع انتشار موضة الوجبات السريعة (الفاست فود)، وكان للشاعر العراقي ''أحمد الصافي النجفي'' الذي عاش جزءاً جميلاً من حياته في بيروت، محتفظاً، وهو يتنقل بين الشوارع الأنيقة، بملابس البدوي الذي هو على صدام حضاري مع أزياء العصر، أن يصف طالبة في الجامعة الأميركية وهي تتناول السندويتش على الرصيف بالقول إنها كانت تلتهم سندويتش الشاورما كما لو أنها تلتهم احدى قصائد ''عمر بن أبي ربيعة''· ولأن اليابانيين متمسّكون جداً بالتقاليد، رغم أن ثورة ميجي (1867) دفعتهم بقوة إلى الماكنة الحضارية الغربية، دون إغفال التداعيات السوسيولوجية للثورة الالكترونية، فإن ظاهرة تناول الطعام في الطرقات بدأت ''تهزّ'' التراث، أو ربما التاريخ، في الأرخبيل، حتى أنّ هناك مَن انبرى، وعبر وسائل الإعلام، لانتقاد تلك الظاهرة بشدة، مع التساؤل: ''هل إنهار ذوقنا العام ؟''· لا بل أن أحدهم تخوّف من أن لا يكون قد ''أعجبنا في أميركا سوى راعي البقر الأميركي'' الذي طالما ظهر في مغامراته، وهو يشوي الحيوانات التي يصطادها ثم يتناولها على ذلك النحو البدائي· الذين يفعلون هذا هم الشبان· إنهم يتناولون الطعام والشراب في الطرقات· ردّة الفعل هي أنهم يثيرون الصدمة، وأنّ ما يقومون به مخجل· يضحك الشبان، ويقول أحدهم ردّاً على سؤال تلفزيوني: ''··· ولكن لماذا وُجِدَت أفواهنا في وجوهنا ؟''· ليضيف: ''قد يطلبون منّا غداً أن نقفل عيوننا، أو ألا نتنشق الهواء، ونحن نسير في الطرقات''· الرهافة اليابانية ظهرت في استطلاع للرأي أجراه معهد ''ماكروميل'' في سبتمبر ،2006 وقد تبين فيه أن أكثر من 40 في المئة بقليل من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين الـ 20 والـ39 عاماً والذين يعيشون في منطقة طوكيو يعتبرون أنّ تناول الطعام في قطارات الأنفاق (المترو) وفي قطارات الضواحي ليس لائقاً، وهؤلاء يعربون عن أسفهم الشديد لأن الكثيرين من الفتيان يقفزون فوق القيم اليابانية· لكن مؤرخين يقولون: إن سكان الأرخبيل عرفوا، في الماضي، عادة تناول الطعام في الأماكن العامة، والاستاذة في جامعة ''كازي - غاكوين'' في طوكيو ''اياكو ايهارو'' تؤكد انه في النصف الثاني من حقبة الايدو (1603 - 1868)، كانت هناك حتى ثقافة الطعام في الطريق، وهو ما تؤكده سلسلة من الرسوم تحت عنوان: ''التاريخ المصدر للمهن الحديثة''، وهذه تصف العادات التي كانت شائعة في ''ايدو''، وهو الاسم القديم للعاصمة طوكيو في زمن البانكا (1804 - 1817)، وكان يشاهد حرفيون وعمال يلتهمون أنواعاً مختلفة من الأطعمة على مناضد امتدت على طول الشوارع· المؤرخون يشيرون إلى ثلاث حقب عرفت فيها تلك الثقافة: الأولى قبل زمن الايدو، وهو ما يتبين من كتاب ''يوكو اوكوبو''، الأستاذ في جامعة الاناث ''جيسن''، بعنوان ''الفاست فود في عهد الايدو''، والذي أشار فيه إلى عادات كانت معروفة سابقاً، إذ كانت توضع أطباق بسيطة للناس أمام مداخل المعابد، ويبدو أن البداية كانت هنا· الحقبة الثانية هي اللاحقة لعهد ''الايدو''، بحيث إن عادة تناول الطعام أمام المعابد انتقلت إلى أرجاء المدينة· ويعيد ''اوكوبو'' ذلك إلى نظام الإقامة التناوبي الذي فرضه الشوغونا (والشوغون هو الديكتاتور الياباني القديم)· وبموجب هذا النظام كان على ''السادة'' أن يقضوا عاماً كل عامين في العاصمة، على أن يتركوا نساءهم وأولادهم في أمكنة إقامتهم الأصلية، وذلك لكي يتمكن الشوغون من مراقبتهم جيداً· وتبعاً لما يقوله ''اوكوبو''، فإن عدداً لا يستهان به من الساموراي كان يرافق ''السيد'' في تنقلاته· ولكي يتمكن المقاتلون من الصف الأدنى العيش في ''ايدو''، كان لابد أن يستعينوا بمن يساعدهم على تدبير أمور حياتهم بعيداً عن زوجاتهم· الذين كانوا يقومون بالمهمة هم أشخاص وفدوا من الريف، وكانوا يعملون كحرفيين أو كمستخدمين في محلات البيع بالجملة· ولأن أعمالهم كانت مرهقة، فإن إفطار الصباح لم يكن يكفي بانتظار الغداء، كانوا يضطرون للأكل خارج المحلات التي يعملون فيها، تحديداً على الأرصفة· وقد عززت هذه العادة الضوابط التي فرضت على استخدام النار في المنازل للحدّ من اندلاع الحرائق التي انتشرت على نحو غريب في تلك المرحلة· والواقع أنّ نظام الإقامة التناوبي أدى إلى اتساع الطبقات الشعبية في ''ايدو''، وفي ظل ذلك بدأت تتجذر عادة الأكل في الطرقات إلى أن تكرّست كسلوك طبيعي وعادي· الحقبة الثالثة كانت في عهد ''ميجي'' (1868 - 1912) عندما راحت تتبدد منظومة الطبقات لتنتشر الخصال الجيدة التي كانت تتمركز لدى الطبقات العليا لدى الطبقات الأدنى· لكن الطريف ان ''عدوى'' الطعام العلني انتقلت من الأدنى إلى الأعلى مع ارتفاع مستوى التفاعل مع الغرب الذي أحدثت الثورة الصناعية أكثر من انقلاب دراماتيكي في عاداته وحتى في معتقداته الفلسفية والثقافية··
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©