الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الحداثة وبناتها.. مفهوم شامل لكل مستويات الوجود الإنساني

الحداثة وبناتها.. مفهوم شامل لكل مستويات الوجود الإنساني
28 يوليو 2007 02:53
يحاول المفكر والفيلسوف المغربي محمد سبيلا في كتابه (الحداثة وما بعد الحداثة)، الصادر عن دار توبقال بالمغرب، ملامسة كل ما يتعلق بإشكالية الحداثة حيث يشكو العديد من الدارسين من غموض معنى الحداثة ومن تعدد وعدم تحديد مدلولاتها· وإذا كان هذا الغموض يرجع، في جزء منه، إلى الذهن أو غياب العناء الفكري اللازم أحياناً، أو إلى سوء نية مسبقة ضد الحداثة، فإن أحد أسباب هذا الغموض هو كون هذا المفهوم بمدلولاته الحضارية والشمولية يطال كافة مستويات الوجود الإنساني، حيث يشمل التقنية والحداثة الاقتصادية، وأخرى سياسية وإدارية واجتماعية وثقافية· يذهب سبيلا إلى القول إن مفهوم الحداثة هذا أقرب ما يكون إلى مفهوم مجرَّد أو مثال فكري يلم شتات كل هذه المستويات، ويحدد القاسم المشترك الأكبر بينها جميعاً· وبمجرَّد انتهاج طرق هذا النموذج الفكري ـ المثالي، فإن الدارس يشعر مباشرة بوجود قدر من التعارض بين الحداثة والتحديث؛ فالمفهوم الأول، يتخذ طابع بنية فكرية جامعة للقسمات المشتركة بين المستويات المذكورة من خلال منظور أقرب ما يكون إلى المنظور البنيوي، بينما يكتسي مفهوم التحديث مدلولاً جدلياً وتاريخياً منذ البداية من حيث إنه لا يشير إلى القسمات المشتركة بقدر ما يشير إلى الدينامية التي تقتحم هذه المستويات، وإلى طابعها التحولي· وعندما يختار المرء الدخول إلى هذا الموضوع من الزاوية الأولى، زاوية الحداثة، فإنه يجد نفسه محكوماً بضرورة الاهتمام بالثوابت والقواسم والسمات المشتركة، متهاملاً الخصوصيات ومظاهر التباين، كما يجد نفسه مدفوعاً إلى عدم التركيز على الوقائع والأحداث والتواريخ والفواصل، مولياً الاهتمام الأكبر للمنحنيات العامة في كل مستوى· في هذا الكتاب يحاول سبيلا التركيز على التحولات الفكرية الكبرى المصاحبة للحداثة، والتمييز قدر الإمكان بين مستويين في هذه التحولات الفكرية: المستوى الإبستمولوجي والمستوى الفلسفي، وذلك على الرغم من تداخل هذين المستويين وتشابكهما إلى حدود كبيرة· لذلك، يرى ويعتقد المؤلف أن للحداثة تواريخها وجغرافياتها أيضاً، مثلما أن لها دينامياتها الخاصة، فقد نبتت نبتتها الأولى في ايطاليا في عصر النهضة الأوروبي حيث ازدهرت الفنون والعلوم والآداب، وقامت حركة النَّهضة باستعادة فكر اليونان وفكر روما القديمة، وبدأت هذه الدينامية في السريان عبر بلدان النهضة باستعادة فكر اليونان وفكر روما القديمة· وقد سايرت حركة النَّهضة عملية أخرى أعطت للنهضة بعداً آخر ونسغاً آخر، وهي عملية الإصلاح الديني البروتستانتي التي انطلقت سنة 1530م مواكبة أحداث تاريخية كبرى كاكتشاف أمريكا والوصول إلى الهند، واختراع المطبعة، والاستعمال الموسَّع للبارود، ··· الخ· إذا كانت روما هي المفرِّخ الأول للحداثة، فإن هذه الأخيرة بحكم طبيعتها الانتشارية قد سرت بعد ذلك بالتدريج إلى ألمانيا وفرنسا وانجلترا· ويمكن اعتبار أوروبا الغربية هي مسقط رأس الحداثة الأوروبية التي أخذت تكتسب بالتدريج بعداً كونياً، وتتخذ بالتالي صورة الحداثة المرجعية· أما المحطة الثانية في سيرورة الحداثة الأوروبية بعد النهضة الايطالية فقد تمثلت في فلسفة الأنوار التي انطلقت شعلتها من فرنسا على يد مونتسكيو وفولتير والموسوعيين والتي اتخذت طابع حركة اجتماعية وفكرية مناهضة للحلف المقدس المبرم بين الإقطاع والكنيسة· بعد ذلك، انتشرت شعلة الأنوار إلى كل من ألمانيا (كانط)، وانجلترا (هيوم ولوك)، مبلورة اتجاهاً فكرياً ظل إلى الآن بمثابة المنظومة الفكرية المؤسسة للحداثة· ويمكن إجمال المبادئ الأساسية للأنوار في: استقلالية العقل· ورفض الأحكام المسبقة، خصوصاً منها المبنية على كونها تمتلك سلطة أو تستند إليها· وبلورة منظومة فكرية وسياسية تقوم على مفاهيم الحرية (فولتير، كانط)، والتسامح (لوك) والمساواة (روسو)· وفكرة التقدُّم المبنية على أساس فهم تاريخي لتطور المجتمعات· هذه التشكيلة من الأفكار كانت كالفراشات المزركشة لا تتوقَّف عن الانتقال والتجوال في المراكز الحضرية والفكرية الكبرى في أوروبا، أي بين أضلاع المثلث المسمى اليوم بـ (فرنسا وألمانيا وانجلترا)· وفي هذا السياق كانت باريس قد لعبت دوراً مركزياً في مخاض الحداثة هذا، مما جعل منها مدينة النور أو مدينة الأنوار، وخاصة في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي الذي شهد ميلاد حدث أساسي شكل إلى الآن المرجعية الكبرى للنظام السياسي الحديث، وللفكر السياسي الحديث وهو الثورة الفرنسية في عام ·1789 يعتقد سبيلا أن الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر هو أول من نبش عن الجذور الميتافيريقية في الفكر الغربي، والطريف في الأمر أن هذا الفيلسوف الذي وضع نصب عينيه مسألة فلسفية وميتافيزيقية في نفس الوقت هي مسألة الكينونة أو الوجود، قد وجد نفسه في يوم من الأيام يعالج موضوعات تتعلق بصلب العصور الحديثة وبالحداثة نفسها وبالتقنية، والكشف عن الأصول والسمات الميتافيريقية للحداثة· وحتى إذا ما بدا أن هذا التشخيص الميتافيزيقي للحداثة قد اكتسى صبغة إدانة أخلاقية للحداثة أو صبغة بكائية رومانسية قروية على الأخطار المحيطة بالطبيعة وبالإنسان وبالبيئة فليس ذالك مقصده الأساسي بقدر ما هو ناتج عن التشخيص الفلسفي الذي يظل هو الهدف والمبتغى·
المصدر: المغرب
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©