الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عمر حاذق يطاول المتنبي

30 يوليو 2007 02:56
لست أدري ما الذي يجعل سيرة المتنبي تتوهج في ضمير المبدعين العرب اليوم، إذ ينبري الشعراء الكبار ـ والأوساط أيضا ـ لتقديم شهاداتهم الطازجة عنه، باعتباره بؤرة تتكثف عندها منظومة القيم الجمالية والإنسانية للشعر العربي، بحيث أصبح رمزاً متعدد الدلالات، يرى كل مبدع وجهه في جانب من مرآته، مع توافقهم على رحابتها وصفاء أديمها· وقد سرت العدوى بين الشعراء الشباب، فكشفت عن تغلغل أبي الطيب في سرائرهم ونفاذ كلماته إلى أعماق وجدانهم، باعتباره مثلا أعلى في الاعتزاز بذاته، وتجاوز عصره، واقتدار شعره على عبور حواجز الزمن، وتحقيق مستوى لا يضاهى من الخلود في كل الأجيال· وها هو ذا شاعر شاب من مصر، يمرح في العقد الثالث من عمره، هو عمر حاذق يطاول قامة المتنبي، ويتحداه بمهارة فنية رائعة، يجرّه إلى أرضه، ليبارزه في مكمن كبريائه، مستخدما أسلحته ''أبياته''، إذ يقول : ''لو أني كنت المتنبي ·· مغوارا، جبارا، قُوَلَهْ/ ابن كرام، أسيادٍ، نُجُبٍ،/ والنجل الفارس بعض ممن نَجَلَهْ· لو أني أطلق موكب شعري/ يختال على الدنيا، ويرقّص خيله··/ ثم أنام هنيئا، كي يسهر حول موائده/ الشعراء، الأفاكون، السَّفَلَة/ يختصمون على لحم شوارده، سلقا بالألسنة المستلّة·'' ولا شك أن كثيراً من القراء يدركون ولو بشكل شاحب إشارات الشاعر الشاب لأبيات المتنبي الشهيرة، فذاكرة الشعرية العربية مشحونة بها بصفة دائمة، منذ قال أبوالطيب متحديا من عيّروه بأبيه خامل الذكر:ـ ''أنا ابن من بعضه يفوق أبا الباحث، والنجل بعض ممن نَجَلَهْ'' مدافعا عن عظمته الشخصية التي تضفي قيمة لاحقة على آبائه، لأن النجل يضم إلى ذخيرة من أنجبه وأنبته، وكما يشرف الأبناء بآبائهم فقد يضفون عظمة عليهم· وبالرغم من أن هذه المقولة محورية في تاريخ المتنبي، فقد تصدى بعض العلماء المحدثين لمحاولة افتراض أب سريّ من الأشراف العلويين للمتنبي، أنكر الجهر به تقية وتمويها وتفاديا لأخطار صراعات عصره، لكن هذه الفرضية الواهية، تنطلق من موقف سلفي يرى نبل النسب مناط القيمة الحقيقية، دون الالتفات إلى الطابع العنصري الكامن في هذه الأفكار القديمة· أما الإشارة الأخرى فهي إلى أبياته الذائعة:ـ ''أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صممُ أنام ملء جفوني عن شواردها/ ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ'' لكن الطريف أن شاعرنا الشاب يقع على نقطة الضعف الجوهرية في شخصية المتنبي وشعره، فقد حال امتلاؤه بذاته، وتضخم طموحاته، بينه وبين العشق، حتى أصبح يسخر من تقاليد الشعراء، واستهلالهم القصائد بالعزف على أوتار القلوب والتغني بالحب باعتباره فاتحة الكلام، فيجابههم المتنبي بالاستنكار قائلا:ـ ''إذا كان مدح فالنسيب مقدم / أكلّ فصيح قال شعرا مُتيمُ؟'' وليت الأمر كان كذلك، فالحب هو المنبع الثرى للشعرية الدائمة· عظمة الضعف: يقول شاعرنا الشاب، وقد تباعد قليلا عن محرقة الإعجاب بجبروت المتنبي: ''لو أني ذاك المتنبي / ما كانت آهة بؤسي/ إذ تترنح في نظرة عيني راعشة وجلة/ ما كانت أبدا لتفجر في قلبك أنهار جنان مشتعلة/ فأنادي أني مَسَّني الضّرُ ·· فيا أرحم رحمان··/ تأخذني الأنهار وتجري، تصحو كل مدائن روحي المحتلة،/ تضرب فرشاة الألوان فراشاتي الباهتة المعتلة· يحمل ثغري سلة ·· تملؤها شفتاك زهورًا،/ ونجوما تترى، وأهِلّة!'' وهكذا ينفجر الشعر، وتنبثق قوة الروح من ينابيع الحنان، التي تكمن في آهة البؤس، ونبرة الضعف الراجفة النبيلة، هكذا يكتشف الشاعر الشاب أن جده العظيم لم تعمر مدائن روحه بالحب وضراعاته القدسية، ولم تتلون فراشات خياله بثمار العشق ورضاب الشفاه الراعشة، وأن أفضل ما قيل عن غرام المتنبي المكتوم بأخت سيف الدولة ''خولة'' وفجيعته في فقدها دون أن يقوى على البوح بمواجعه، كان مجرد تخرصات تؤكد هوسه بالسلطة، وافتتانه بحياة الملوك وتعلقه الغريب بعوالمهم التي يعرف هشاشتها، ويصبح من حق شاعرنا أن يقول عنه: ''مسكين ذاك المتنبي الطُّلَعَة/ لم يوقد في قلب امرأة شمعة/ أو يمسح في خديها دمعة· رُبَّمَا ملأ الدنيا، شغل الناس/ نعم، لكن لم تأخذه امرأة يوما/ في عش ذراعيها، وتلملم شمله/ أو تزرع في صحرة خديه ـ بطراوة كفيها ـ فُلّة/ أو تمنح للغزلان الضالة في شفتيه/ مرعى شفتيها، وطنا وتحلّه· مسكين ذاك المتنبي، إي والله/ شغل الناس جميعا، لكن/ لم تكن امرأة مثلك تقربه ·· أو حتى تأبه له!'' المدهش في هذه المناورة الشعرية الشابة أنها تتميز بدرجة عالية من مرونة الخطاب، فتنتقل من ضمير المتكلم إلى المخاطبة الأنثى، قبل أن تعود إلى المتكلم وهو يشفق على مثله الأعلى ويصفه بالمسكنة، لأنه لم يظفر بقلب امرأة مثل رفيقته، كما تعيد القصيدة بذكاء تصويري لماح ترتيب منظومة القيم التي كان يتفاخر بها الأقدمون، من المجد والعزة والذكر الحسن، لتضع فوقها الحب والألفة والحس الإنساني الوديع الذي يؤثره المعاصرون، والشباب منهم على وجه الخصوص، في نقد ذاتي حميم لا يتطرف إلى قتل الأب، ولا يقع في بؤرة جحود فضله، بقدر ما يقوى على تصويب منظوره، وفق استراتيجية فنية مبدعة· ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©