السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السعادة والتسامح.. ركيزتا الإعمار الفكري

السعادة والتسامح.. ركيزتا الإعمار الفكري
30 مارس 2016 21:44
إميل أمين قضايا السعادة والتسامح من بين أهم القضايا الفلسفية والفكرية التي تبقى مثيرة للجدل عبر الأزمنة والأمكنة، لما لها من تأثير مباشر على النفس البشرية في مناحي حياتها وتفاعلاتها كافة، على أن الحديث عن هذين المفهومين، اكتسب مذاقا خاصاً في الأشهر القليلة الماضية غداة إعلان الإمارات عن إنشاء أول وزارتين في العالم العربي والإسلامي، تكون مهمتهما سعادة المواطنين، وإشاعة روح التسامح بينهم. ولعل القارئ يتساءل: أي المفهومين يسبق الآخر، هل السعادة تسبق التسامح، فيضحى الناس متسامحين لأنهم سعداء، أم أن التسامح والصفح والغفران هما المدخل الطبيعي للسعادة، من باب أن التسامح لا يدع مكاناً لنمو حزازات الصدور، على حد وصف الشاعر زفر بن حارث الكلابي: وقد ينبت المرعى على دمن الثرى... وتبقى حزازات الصدور كما هي ومهما يكن الجواب، فإن رجل الإمارات الاستشرافي والتنويري صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، يستلفت النظر إلى أن كثيراً من المرار والنار والدمار الذي انتشر في الشرق الأوسط، في السنوات الخمس الماضية، لم يكن إلا نتاجاً طبيعياً لانتشار التعصب والكراهية، وغياب التسامح الطائفي والفكري والثقافي والديني. يؤكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، أن الدولة الإسلامية عرفت أزهى عصور الحضارة، عندما سادتها روح التسامح، ووقتها كانت منارة للعلم والحضارة، كان ذلك عندما كانت تستند إلى روح الأديان الحقيقية، ومبادئ الإنسانية النموذجية مع جميع الحضارات والثقافات والأديان. هل بات مفهوم التسامح إذن، مفهوماً قومياً، يعادل أهم المفاهيم الاقتصادية والأمنية في حياة الأمم والشعوب؟ دروس التاريخ تؤكد لنا أن «التسامح عطفا على السعادة»، قد باتا ركيزتين أساسيتين في عملية الإعمار الفكري للدول ألتي تريد أن تجد لها موقعا أو موضعاً على خارطة المستقبل. وفيهذه القراءة سنعتمد منهجاً فكرياً، مؤداه أن التسامح الحقيقي هو مفتاح السعادة الصادقة، فالتسامح يقوم بعملية انزياح طبيعية لمفاهيم الغضب والعنف، الانتقام والثأر، الإيذاء وبقية المشاعر السلبية، وهذا ما أدركه السابقون، وما جرت به مقادير السلف الصالح حتى الساعة. مفهوم اللتسامح السماح في اللسان العربي عطاء وكرم وجود. والسمح من الرجال والنساء من كان سباقا إلى فعل الخير داعيا له، ذلك أن السماح رباح، مصدر لراحة النفس والعقل، ومنه أشتق التسامح. فمن تسامح فقد وسع صدره وجود الآخرين جميعهم. إنه تعبير عن لا محدودية الإنسان وكشف عن وعي يتأمل الكون في تعدديته وغناه، لذلك قد يكون التسامح حاصل قناعة مصدرها الفرد ذاته، فنحن كائنات مختلفة في الطبائع والأمزجة والأحاسيس، ولكنه في الأصل مبدأ عام يمكن، وفقه، إدارة الشأن الجماعي. وهذا المبدأ هو الذي دفع الكثير من الأخلاقيين إلى تصنيفه ضمن ما (يفصل) أو (يربط) بين مقولتي الخير والشر في النفس وفي المجتمع على حد سواء، فالتسامح حاجة وليس اختياراً حراً، وهو يمارس عندما يعترف الناس بسيئات شيء قد تقود محاربة السوء فيه إلى ما هو أسوأ منه. لذلك «وجب علينا التوقف عن محاربة ما يستحيل تغييره»، كما يقول «جون لوك» الفيلسوف والمفكر الإنجليزي في رسالته حول التسامح، وهو هنا لا يشير إلى موقف سلبي من الآخرين، وإنما يعبر عن رغبة في حياة مشتركة، لا يمكن أن تقوم دون وجود حد أدنى من مزاياه. الفكر العربي والتسامح هل للتسامح جذور تاريخية في الفكر العربي والإسلامي، ما يعني أن دعوة الشيخ محمد بن راشد ليست إلا إحياء للجذور التنويرية في مواجهة الهجمات الأصولية الظلامية المغشوشة في حاضرات أيامنا؟ لعل من يقرأ في «لسان العرب» لابن منظور، يجد كم أن كلمة التسامح وما يدور حولها من مفاهيم، ثرية المعاني، فالفعل مشتق من سمح، والسماح والمسامحة: الجود والعطاء عن كرم وسخاء، وليس تسامحا عن تنازل أو منة، والمسامحة: المساهلة وتسامحوا: تساهلوا. وتقول العرب:«عليك بالحق، فإن فيه لمسمحاً، أي متسعاً. فالتسامح حق يتسع للمختلفين. وعموما يستخدم للتعامل مع كل ما لا يوافق عليه، ويحتاج إلى الصبر عليه، ويجادل فيه بالتي هي أحسن، ويُتقبل وجوده بوصفه حقاً من حقوق المخالفة، ولازمة من لوازم الحرية التي يقوم عليها معنى المواطنة في الدولة المدنية الحديثة. ولعل أبدع مشهد يكشف عن مساحة التسامح في النفس العربية قد جرت به أحوال التاريخ في الأندلس، حيث عاش العرب والمسلمين قرابة الخمسمائة عام، دون نفي أو عزل، وبلا إبعاد أو إقصاء للآخر، وعندما سقطت دولة الموحدين في مواجهة فرديناند وإيزابيلا الأرجونية، فضل يهود الأندلس الرحيل مع المسلمين إلى بلادهم، عوضا أن يتحولوا إلى المسيحية قسراً، الأمر الذي عرف بظاهرة المتنصرين في الخارج، أو من يطلق عليهم«يهود المارانوث»، وعاشوا في بلاد المغرب العربي وسط المسلمين، وامتد بهم المقام في إرجاء العالم العربي، في دمشق وبغداد، وفي القاهرة والقيروان، تحت ظلال من التسامح الحقيقي، ذاك الذي في ظله أورقت أشجار الحضارة العربية، وملأت الدنيا علماً وأدباً وفكراً... فمن أين استمد أولئك العرب المسلمون روح التسامح تلك؟ القرآن.. والتسامح رب قائل يقول، إن مفردة التسامح لم ترد نصاً في القرآن الكريم، وعليه فإن مفهوم التسامح هو مفهوم غربي لم يعرفه العرب أو المسلمون في تاريخهم وفي أصل عقيدتهم؟ وهذه، بلا شك، فرية من أكاذيب نفر من المستشرقين الموتورين، غير الموضوعيين، الكارهين للعرب والمسلمين كراهية أصولية يمينية غربية، وقد تصدى للجواب عن هذه الإشكالية الكاتب والمفكر والدبلوماسي الإماراتي الدكتور يوسف الحسن في كتابه الكبير القيمة«أسئلة الهوية والتسامح وثقافة الحوار»، وعنده أن القرآن الكريم مليء بالألفاظ والمعاني مما يترجم معنى التسامح إلى واقع، فالدعوة القرآنية إلى العفو والإحسان، والبر والقسط في حق الغير، ممن لم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، هي دعوة للتسامح، ومثلها (لا أكراه في الدين)، والمجادلة بالتي هي أحسن، وبالحكمة والموعظة الحسنة، واحترام كرامة الإنسان، واللين والمعروف، وسعة الصدر التي تفسح للآخر المختلف أن يعبر عن رأيه، حتى لو لم يكن موضوع تسليم أو قبول، فضلاً عن العدل في المعاملة دون تمييز حتى مع المغايرين والمخالفين، والوفاء بالعهد لأهله، مهما اختلفت عقائدهم ولغاتهم وألوانهم، وقيم الرحمة تجاه العالمين والتي تعني قبول الآخر المغاير. وفي كل الأحوال، فقد أظهر أئمة وفقهاء المسلمين في زمن المد الحضاري الخلاق، أريحية واسعة وعريضة للتسامح، ما يعني أن قيم التسامح وثقافته في تلك العصور العربية والإسلامية الزاهية، تحولت إلى قيم أخلاقية معيشة، لا شعارات جوفاء، وثقافة مجتمعية بأبعاد فكرية ومعنوية وسياسية واجتماعية وحقوقية، وهي أيضا»القدرة على تحمل الرأي والرأي الآخر»، والتعايش مع الآخر في سياق الاختلاف والوئام الإنساني، ونستحضر هنا كلام الأمام أبو حنيفة النعمان:«كلامنا هنا رأي، فمن كان عنده خير منه فليأت به»، كما نستحضر قولا آخر للأمام الشافعي:«رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، ومن جاء بكلام أفضل مما قلناه قبلناه»... كان هذا المفهوم مفتاح نهضة العرب في زمن الازدهار، لا الانحدار. فولتير والتسامح هل للغرب نصيب من أحاديث التسامح كما للشرق والعالمين العربي والإسلامي؟ نعم، وفي مقدمة ما كُتب«قول في التسامح» للفيلسوف الفرنسي التنويري فولتير، وقد صدر هذا الكتاب في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وهو مرافعة رائعة من أجل التسامح والتآخي ونبذ العنف والتعصب... كتب هذا الكتاب بمناسبة حادثة قتل«جان كالاس»، وهو مواطن فرنسي من أتباع المذهب البروتستانتي، أتهم هو وإفراد عائلته ظلما، بقتل ابنه الذي كان يود، حسب القضاة والمتعصبين من سكان تولوز الكاثوليك، الارتداد عن المذهب البروتستانتي واعتناق الكاثوليكية... ما هو السؤال الجوهري والفلسفي الذي يعلنه فولتير في كتابه هذا؟ أنه يتساءل:«هل التسامح حق طبيعي أم حق إنساني»؟ والجواب عنده أنه لا يمكن للقانون الإنساني أن يتأسس، في أي حال من الأحوال، إلا استنادا إلى الحق الطبيعي، والمبدأ الاسمي، المبدأ الكوني، في هذا أو ذاك، هو ذاته في الأرض كلها:«لا تقم بما لا تود أن يقوم به الآخرون ضدك». يتساءل فولتير حائرا: «كيف يمكن لرجل، إذن، وحسب هذا المبدأ، أن يقول لرجل آخر: آمن بما أؤمن به، أو سأعرضك للهلاك؟ آمن أو سأحقد عليك، آمن أو سأسي إليك ما استطعت إلى ذلك سبيلا، أيها الوحش إذا لم تؤمن بديني إذن لا دين لك، ستسيء إلى جيرانك ومدينتك وإقليمك». فإذا كان من الحق الإنساني أن يتصرف المرء بهذه الطريقة، فعلى الياباني إذن أن يكره الصيني، ويحكم بالإعدام على السيامي، والملاباري يمكن أن يذبح الفارسي، ويمكن للفارسي بدوره أن ينكل بالتركي، وجميعهم يمكن أن ينقضوا على المسيحي... وكأن فولتير كان يرى بعيون القرن الثامن عشر، كارثة الأصوليات في القرن الحادي والعشرين. مفهوم معرفي يثير الحديث الفلسفي عن التسامح علامة استفهام، هل يعني التسامح التجاوز عن أخطاء الآخرين، وربما خطاياهم تجاه النفس البشرية، والأوطان، والأرواح والممتلكات، بمعنى هل مفهوم التسامح هو مفهوم تخاذلي انهزامي ينسحب من مواجهة الظلم والظالمين، ولا يصرخ في وجه المستبدين:« إن كنت قد تكلمت بالرديء فاشهد بالرديء، وإلا فلماذا تضربني؟. أفضل من قدم جوابا على هذا التساؤل من أصحاب الفكر الحديث والمؤلفات الأحدث في المكتبات العالمية، البروفسور«ميشيل أ. ماكلو» مدير البحوث بالمؤسسة القومية للرعاية الصحية في ولاية ميرلاند الأميركية، بالشراكة مع البروفسيور«كينث أي بارجمنت» أستاذ علم النفس بجامعة ولاية باولنج جرين الأميركية، في كتابهما العمدة«التسامح.. النظرية والبحث والممارسة». والجواب بالطبع:«لا»، فالتسامح عملية إيجابية هدفها تعديل موقف الإساءة أو إعادة تصحيحه بما يعود بالخير على كل من المساء إليه والمسيء، أو على الأقل إعفاء المسيء من تهديد أو عقاب المساء إليه. والتسامح لا يعني خرق المعايير أو القواعد، ناهيك عن القوانين، وإنما ينصب بصورة مباشرة على التخلي عن الثأر والرغبة في الانتقام من المسيء، سواء بصورة مادية صريحة أو بصورة رمزية ضمنية. أنواع التسامح هل التسامح نوع واحد أم أنواع متعددة؟ يميز الباحثون بين نوعين من أنواع التسامح: الأول «التسامح المعرفي العقلي»، والثاني«التسامح الوجداني». أما التسامح المعرفي، فيحدث عندما يتخذ الفرد قرارا بالتسامح، وينعكس ذلك في انخفاض السلوكيات السلبية، أو زيادة السلوكيات الإيجابية تجاه الشخص الذي أساء إليه، والتي تستهدف مقاومة عدم التسامح، والاستجابة على نحو مختلف معه، وهو قرار يتخذه المساء إليه، للتحكم في سلوكه تجاه الشخص المسيء إليه. ويحدث هذا النوع من التسامح، لدى أولئك الأفراد الذين لا ينشدون الانتقام ممن أساء إليهم أو تحاشيه، بل يتمنون له الخير، ولا ترتبط السلوكيات الإيجابية بحدوث تغير في مشاعر المساء إليه تجاه الشخص الذي أساء إليه، وهي عملية معرفية يتم بمقتضاها استبدال الأفكار الإيجابية بالسلبية، وهو لا يرتبط بالضرورة بتغير المشاعر تجاه المسيء. فيما يشير التسامح الوجداني إلى انخفاض الانفعالات السلبية من خلال استبدالها، فتستبدل الانفعالات الإيجابية بالسلبية وتكون الخطوة النهائية في التسامح الوجداني الوصول إلى علاقة وجدانية محايدة مع المسيء، ويحدث هذا في سياق العلاقات غير الحميمة، كالعلاقة بالغرباء، حيث لا تكون لدي الفرد أية رغبة في توطيد علاقته بهم في المستقبل، أو الوصول إلى علاقة وجدانية إيجابية، ويحدث هذا عادة في سياق العلاقات الحميمة كعلاقات الأصدقاء والأزواج والآباء. لكن لماذا تزداد أهمية الدراسات النفسية والفكرية والفلسفية للتسامح في الأوقات المعاصرة؟ باختصار، حدث ذلك منذ أواخر القرن العشرين، مع زيادة معدل الأحداث الفاجعة قوميا ودوليا، وتعددت مجالات الاهتمام، فدرس في مجال العلاقات الأسرية، والزوجية، ومجالات العمل الاجتماعي ووظف كأسلوب علاجي واستخدم على نطاق واسع، حيث أدرك السيسولوجيون، وأصحاب الحكم الرشيد على حد سواء أن هناك علاقة طردية بين التسامح والسعادة، فكلما ازدادت مساحات التسامح ارتفعت معدلات السعادة.. فماذا عن السعادة؟ إشكالية التعريف مقارنة بالتسامح يجد المرء صعوبة بالغة في التعبير عن معنى السعادة ومبناها، فهي تختلف من شخص لآخر بل أن ما يسعد شعباً قد يختلف عما يسعد ويبهج شعب آخر، وكذا الأمر بالنسبة للنفس البشرية، فالبعض سعادته في شهوة العين، وآخر في عظم المعيشة، وثالث في ملذات الجسد، ولذلك اختلف الفلاسفة والمفكرون في تحديد معنى واحد للسعادة، وذهبت النظرة العربية والإسلامية في طريق، وقال اليونانيون بطريق آخر، وفي سبعينيات القرن العشرين خرج علينا الآسيويون بمفهوم مغاير للسعادة. فإذا رجعنا إلى الفلاسفة اليونانيين نجد أرسطو يربط بين السعادة وفعل الخير وتحقيقه، وعنده أن الفضيلة تقود إلى السعادة، هذا نجده بالتفصيل في كتاب«الأخلاق إلى نيقوماخوس»، أهم الدراسات التي قام بها أرسطو في مجال الأخلاق، بما فيها السعادة، ويؤكد أرسطو بشكل واضح على مركزية الصداقة في السعادة الإنسانية، أما عند أفلاطون، فنجد صدى السعادة بين سطور«جمهوريته» الخالدة، والسعادة عند أفلاطون ليست شأنا شخصياً بقدر ما هي قضية تتعلق بالمدينة ككل، وعليه لا يمكن تحقيق السعادة في جمهورية أفلاطون بصورة شخصية، بل جماعية، ولهذا يقول:« إنما كان هدفنا أن نكفل اكبر قدر ممكن من السعادة للدولة بأسرها، فالسعادة إذن هنا هي سعادة المدينة ككل والتي تتحقق بالانسجام بين جميع أطرافها وشرائحها». بين أفلاطون وأرسطو يدرك القارئ المدقق أن السعادة لا تتوقف على العالم الخارجي أو المحيط بالشخص، وإنما تتوقف على الشخص ذاته، أي أن فعل السعادة لا يتحقق إلا بالإرادة، ذلك أن تحقيق السعادة لا يأتي إلا بالصراع ضد المعتقدات التي تحول دون ذلك، ولا يجب الاعتراف بالهزيمة طالما لم نتجاوز هذه المعتقدات. الفارابي وابن مسكوية تضيق المساحة على هذا النوع من الكتابة الذي يتطلب الغوص في التراث العربي والوقوف عند آراء فلاسفة العرب ومفكريهم في شان السعادة، ولهذا نكتفي بلمحة عابرة لاثنين من كبار هؤلاء: الفيلسوف العربي الكبير أبو نصر محمد الفارابي (874 950م)، والملقب بالمعلم الثاني، نسبة للمعلم الأول«أرسطو». في كتاب الفارابي«تحصيل السعادة»، نكاد نجد تحليلاً فلسفياً وافياً جامعاً شبه مانع، للأشياء التي إذا تحصلتها الأمم وأهلها بحسب قوله، حصلت لهم بها السعادة الدنيا في الحياة الأولى، والسعادة القصوى في الحياة الأخرى، ماذا عن هذه الأشياء؟ يعتبر الفارابي أن الفضائل هي مدخل السعادة وأبوابها الكبرى، وهي أربع، فضائل نظرية، وفضائل فكرية، عطفا على ما يطلق عليه الفضائل الخلقية، والصناعات العملية، وهو بهذا يكاد يجمع ما بين الدنيا والدين، بين الاشتغال الذهني والعمل اليدوي، فلا سعادة دون نجاحات صناعية تكسب المرء عيشه، ولا سعادة دون مفاهيم وقيم أخلاقية ترتقي بالنفس البشرية. ولعل الفارابي قد أجاب عن السؤال الذي تحار معه العقول في زمن الرأسمالية المتوحشة، فرغم تكدس الثروات لدي بعض الأمم، وغياب الفقر، وتحقيق كافة المطامح، بل وسد شهوات المطامع، لا تصيب تلك الأنفس حظاً من السعادة.. لماذا؟ يقول الفارابي، إن السعادة هي نوع من الاستكمال، مثل المريض الذي يظن أن السعادة في استرداد الصحة، أو الفقير الذي يرى سعادته في الحصول على المال، لكن السعادة ليست وسيلة لشيء آخر بل هي غاية ومطلوبة لذاتها، ولهذا فالسعادة من الخيرات أعظمها خيراً، ومن بين المؤثرات أكثرها أثراً، وهي أكمل من كل غاية سعى الإنسان نحوها، ولذا سميت السعادة المبنية على الثروة أو الكرامة أو الصحة بالسعادة المظنونة. أما أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكوبه (932 1030م) للسعادة فلا تبعد كثيرا عن نظرة الأديان التوحيدية، وحتى الشرائع الوضعية، فالسعادة عنده جسمية ونفسية معا، لأن للإنسانية طبيعة مزدوجة نفسية تعكس فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة، وجسدية تنم عن فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام. موروثة أم مكتسبة؟ تقاطع الحديث عن السعادة مؤخرا مع إشكالية ذهنية مثيرة للتأمل، لاسيما في ضوء نتائج أبحاث علمية تم الكشف عنها مؤخرا. ففي منتصف شهر يناير المنصرم، خرجت علينا مجلة غربية أميركية (جورنال أوف هابينيس ستاديز - مجلة أبحاث السعادة)، بقراءة مثيرة للغاية، تتصل ببحث له صلة بالجينات البشرية، أشرف عليه»مايكل مينكوف«من جامعة إدارة الأعمال في فارنا بلغاريا، ومايكل هاريس بوند من معهد البولتكنيك في هونج كونج... فما هي خلاصة هذا البحث؟ الدراسة البحثية تظهر أن هناك«جيناً» بشرياً هو السبب في تفاوت شعور دول بعينها بالسعادة، وأن أكثر الدول سعادة في العالم هي التي ينتشر هذا الجين بنسب عاليه بين شعوبها ليمنع تلف«الانانداميد»، وهي مادة طبيعية تزيد من قوة الحواس، وتخفض من الشعور بالألم... أين ينتشر هذا الجين؟ بحسب بيانات البحث المتاحة، فإن أماكن انتشاره في غرب أفريقيا، لاسيما في غانا ونيجيريا، وفي أمريكا اللاتينية، وخصوصا المكسيك وكولومبيا. دراسة أخرى أكثر إثارة قام بها باحثون من مركز جامعة«وارويك»، في مجال الاقتصاد العالمي لمعرفة السر الذي يكمن وراء السعادة التي يحظى بها سكان دول مثل الدنمارك وهولندا، وتفوقهم على دول أوربية مماثلة عالية الناتج المحلي الإجمالي بانتظام في التمتع بالسعادة، وقد وجد الباحثون أنواعا عديدة من الأدلة تشير إلى مستويات عالية من الرضا عن الحياة، قد لا تكون مرتبطة بمستويات المعيشة. والخلاصة انه كلما زادت المسافة الجينية بعداً عن الدنماركيين، انخفضت معدلات السعادة والرضا عن الحياة ! هل السعادة ترتبط ارتباطا جذريا بالحالة المالية للأمم والشعوب وبأوضاعها الاقتصادية فقط؟ هل يشتري المال السعادة والهناء؟ لمعرفة الجواب يلزمنا الرجوع إلى كتاب «السعادة.. كشف أسرار الثورة النفسية» لمؤلفه البروفيسور «إد داينر» أستاذ علم النفس بجامعة اللينوي الأميركية، والذي يعتبر حجة عالمية في علم السعادة، وأبرز خبير عالمي في هذا المجال، حيث قام باستغلال التطور الأساسي الذي حققه في مجال حسن الحال الذاتي، فتحدى افتراضاتنا الحديثة عن أسباب السعادة ونتائجها. يذهب البروفيسور «داينر» إلى أنه عندما نفكر في المال والسعادة، من المرجح أن نفكر في جميع الأشياء التى يمكن أن يشتريها المال، منزل وسيارة جميلة، إجازات مسلية وتعليم جيد للأبناء، أن المزيد من المال يساعدنا في الحصول على رعاية طبية أفضل، وعلى قدر أكبر من الراحة عند التقاعد. أن هناك أشياء ملموسة مثل المكانة، التي يميل الأثرياء إلى تحقيقها، وبالتالي يبدو انه من الطبيعي الافتراض بأن الأثرياء أكثر سعادة من غيرهم... هل هذه نظرة مطلقة؟ البروفيسور الأمريكي يؤكد على أن هناك أشياء غير ملموسة مثل المكانة التي يميل الأثرياء إلى تحقيقها، وبالتالي يبدو أنه من الطبيعي الافتراض بأن الأثرياء أكثر سعادة من غيرهم، ولكن المال هو جزء واحد من الثروة النفسية، وبالتالي فإن الصورة معقدة، فالأثرياء ربما يضحون بأشكال أخرى من الثروة من أجل الحصول على المال، وأحيانا يظهرون اتجاهات بائسة في طريقهم لصنع ثرواتهم. من الصعب تحديد إجابة بنعم أو بلا على تساؤل: هل يحقق المال السعادة. ومع ذلك يمكننا القول إن البحث في هذا الموضوع يكشف لنا أنه بصفة عامة يعتبر المال شيئا جيدا لتحقيق سعادتك، ولكنه يعتبر ضارا لهذه السعادة إذا كانت الرغبة في المال زائدة على الحد. أن الدخل المرتفع قد يساعد على تحقيق السعادة، ولكنه ليس طريقا مؤكدا لها. وبالتالي يتعين على الأفراد تحديد الدوافع التي تكمن وراء رغبتهم في الحصول على المال، وإلا فسيقدمون تضحية كبيرة من أجل السعي للثروة، ومن الضروري إنفاق المال بحكمة، ولكن يجب أيضا كسب هذا المال بحكمة. مؤشرات السعادة العالمية لم تعد قضية السعادة إذن قضية عربية، شرق أوسطية، أو إقليمية، أنها اليوم قضية عالمية لاسيما في ظل مرور العالم بشرقه وغربه بما يمكن أن نسميه حالة «الأنتروبية» العالمية، حيث الاضطراب والملل والقلق، هي القيم العالمية السائدة، والمهيمنة على مقدرات النفوس، ومسارات الأحداث. في هذا الإطار أطلقت شبكة حلول التطوير المستدامة المعروفة اختصار ب (SDSN) وبالتعاون مع الأمم المتحدة تقريرا أطلق عليه «مؤشرات السعادة العالمية»، ويقع في نحو 172 صفحة، وفصول متعددة، وخلاصة التقرير تشير إلى أن البشرية ربما تتقدم إلى الخلف أو تصعد إلى الهاوية فيما يخص معيار السعادة الحقيقية... هل يتسق هذا الحديث وما نراه من تجليات لاختراعات ما أنزل الله بها من سلطان، اختراعات تكاد تلامس حدود أساطير الأولين؟ بالفعل، ففيما التقدم التكنولوجي والتقني، يمضي بدون رجعة إلى الإمام، وفيما وسائل الرفاهية تزداد من حول إنسان القرن العشرين، يحصل إهمال للجانب الأهم من النفس البشرية، الجانب الإنساني، والروحي بل والديني، وعليه تضحي ماكينة العصر مولدة لروبوتات وليس لبشر يدركون ويتفقهون ويتفكرون بعقلانية وإنسانية، لا بحسابات التروس ودوران عجلة رأس المال. يحذر تقرير السعادة العالمية الصادر منذ بضعة أشهر من أن السعادة التي يتطلع إليها الأفراد وتشتهيها الأمم، لن تدرك دونما تعزيز الفضائل الأدبية، اجتماعية وثقافية، روحية ودينية، في الفرد، الذي هو أصل وحجر أساس بناء المجتمعات، مع حفظ كرامته، وبعيدا عن الشمولية والتوتاليتارية التي تقزم من حجمه، لمصلحة الأرقام وأوراق البنكنوت، أو سبائك الذهب في البنوك الاحتياطية حول العالم. المواطن السعيد في كتابه الصادر حديثا «الطريق إلى السعادة» يحدثنا العالم المصري الكبير، الدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي العالمي، مؤسس ورئيس مركز بحوث منظمة الصحة العالمية للصحة النفسية عن المواطن السعيد، وكيف انه مواطن قادر على الإنتاج بفعالية، ما يعني أن حديث صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن السعادة، وتخصيص وزارة مستقلة لها، ليس ترفا فكريا أو فلسفيا، بل إضافة حقيقية للناتج القومي الإجمالي للدولة، فهو رهان على الإنسان، في عصر الثروة المعرفية، الإبداعية، الابتكارية المتجددة، بعد أن شارفت شمس الثروة النفطية على الأفول. يؤكد الدكتور عكاشة أن التعاسة والكآبة لا تؤثران فقط على الشخص المكتئب، ولكنهما تعمان على الآخرين، وبنفس القدر فان توفير مناخ السعادة، يؤدي إلى جودة الحياة، وتحسين الصحة، وتخفيف الآلام، وعليه فلابد إذن من قياس الرضا وجودة الحياة في المجتمعات السعيدة قبل الإشادة بأرقام الناتج القومي والنمو الاقتصادي. ماذا يتبقى؟ التسامح مفتاح للقفز على الضغائن والأحقاد إلى عالم السعادة الحقيقية غير المنحولة، وكلاهما ركيزة الإعمار الفكري المستقبلي للبشرية، وبدونهما تتحول البسيطة إلى جحيم مستدام من الكراهية والتعصب والتعاسة... هل تنتشر عدوى التسامح والسعادة الإماراتية حول العالم العربي؟ نأمل ذلك، وما ذلك على الله بعزيز. الرضا والنهم الاستهلاكي في كتابها المتميز «الفلسفة والسعادة»، تحدثنا الدكتورة «ليزا بورتولوتي» أستاذة الفلسفة في جامعة برمنجهام في المملكة المتحدة، والمهتمة بفلسفة العلوم المعرفية، والأخلاق التطبيقية، كيف أن معيار الرضا الحياتي في مملكة بوتان، يختلف اختلافاً جذرياً، عن مفاهيم النهم الاستهلاكي التي تسود الحضارة الغربية، وتجزم بأن مستوى السعادة يتناسب بشكل طردي مع معدل الرضا الحياتي في تلك المملكة الصغيرة، التي رأى ملكها أن الحياة أبعد بكثير من المذهب الأبيقوري الشهير المتعلق باللذة الحسية والجنسية. فلنأكل ولنشرب فأنا غدا نموت». هل تحتاج الأمم والشعوب الآن لاسيما في الغرب إلى الانفتاح على مفاهيم وفلسفة السعادة في آسيا، حيث المفهوم البوذي والماوي والطاوي والكونفوشيوسي، مختلف بشكل كبير، عن تلك المعطيات التي يشار إليها في الأدب الغربي اليوم باسم«السعادة»؟ مملكة بوتان... والرضا عام 1971 خرج علينا الملك الرابع لمملكة بوتان «جيغمي سينجي وانجشوك»، البلد غير الساحلي في جنوب آسيا والتي تقع في الطرف الشرقي من جبال الهيمالايا، خرج على العالم بصياغة عجيبة كانت هي الأولى من نوعها، حيث صاغ عبارة «السعادة القومية الإجمالية»، والتي اعتبرها أكثر أهمية من الناتج المحلي... ماذا يعني هذا المفهوم؟ المفهوم يعني أن التنمية المستدامة لا ينبغي أن ترتهن فقط بالمؤشرات الاقتصادية للرفاهية كمقياس للتقدم، وترفض استخدام مفاهيم مادية ومحاسبية بحتة، كالناتج القومي الإجمالي الخام، وتفضل القول السعادة القومية الخام، بدافع الأخذ في عين الاعتبار مستوى الرفاهية والراحة النفسية والثقافة، وأيضا البيئة خلال عملية النمو الاقتصادي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©