الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

زهيدة جبور لـ «الاتحاد الثقافي»: لغة الآخر درع أو قناع!

زهيدة جبور لـ «الاتحاد الثقافي»: لغة الآخر درع أو قناع!
30 مارس 2016 21:44
أحمد فرحات - بيروت - الاتحاد الثقافي * الأدب الفرنكوفوني فتح للثقافة العربية آفاق العالمية * اللغات تتكامل ولا تتنافس على ألاّ تطغى لغة على أخرى * تنميط الفكر واختزال الثقافة بأنموذج واحد مهيمن.. خطر * الأدب الفرنكوفوني جزء من المشهد الأدبي العربي * الفرنكفونيون العرب كتبوا بالفرنسية لدواع ذاتية أو موضوعية * لغة الأدب الفرنكوفوني الجزائري عنيفة وقاسية.. وفي اللبناني تميل إلى السلاسة والانسياب ----- تقف د. زهيدة درويش جبور، الأمينة العامة للجنة الوطنية اللبنانية لليونسكو - بيروت، في صدارة خبراء الثقافة الفرنكوفونية في العالم العربي. كما تُصنّف في مقدمة نقاد الشعر الفرنكوفوني والرواية الفرنكوفونية بوجهيهما: الكلاسيكي والحديث. ولا غرو، فهي، أصلاً، كاتبة وجودية قلقة، شغلها شعراء فرنسيون قلقون كبار من طراز: بودلير، مالارميه، لوتريامون، رامبو، ولاحقاً السورياليين برموزهم المعروفين، وصولاً إلى سان جون بيرس وشعراء جماعة «تل كل» وغيرهم.. وغيرهم. كما لها اطلالات نقدية متميزة على نماذج روائية من الأدب الإفريقي والجزائري واللبناني والسوري المكتوب بالفرنسية، ووضعت كتباً خاصة في تجارب شعرية فرنكوفونية بعينها مثل كتابها الأول: «الشعر والكشف في أعمال ناديا تويني»، وكتب أخرى لاحقة: «دراسات في الشعر اللبناني الفرنكوفوني»، «الأدب الفرنكوفوني في الشرق الأوسط»، «الفرنكوفونية في مساراتها المختلفة». ترى د. جبور أن الكتابة بالفرنسية لم تعد تنكّراً للعروبة، بل على العكس، صارت تعبيراً عن تجذّر معظم الأدباء الفرنكوفونين بهويتهم العربية، ولكن المنفتحة على الثقافة الفرنسية. كما أن الأدب الفرنكوفوني هو فضاء حوار وتفاعل بين ثقافات كل الشعوب الناطقة بالفرنسية في القارات الخمس. ومن هنا فالفرنكوفونية باتت نقيض الهوية المغلقة على ذاتها، أو الأحادية. إنها هوية مركّبة تتنوّع مكوّناتها وتتكامل فيما بينها.. كما أنها لم تعد مرادفاً للفرنكوفيلية، أو للانحياز السياسي لفرنسا. كما كانت في مرحلة تاريخية معينة. ----- * لنتحدث عن دواعي اهتمامك، بل تخصّصك، بمدارات الثقافة الفرنكوفونية وأدبها، والذي أثمر عن مؤلفات ودراسات نقدية بحالها، أفادت وتفيد كل مهتم بهذا الفضاء الثقافي والإبداعي التفاعلي الجاذب، والذي يفضي، ربما بالنسبة إلى كثيرين، إلى الانخراط بحياة فكرية ومعنوية وروحية أكثر اكتمالاً؟ ** ثمة سببان وراء اهتمامي بالأدب الفرنكفوني: الأول، هو أنني، ومنذ صغري، عشقت اللغة الفرنسية، ما دفعني الى التخصص في أدبها، الذي أسهم بدوره في بناء شخصيتي وتكوين بنيتي الفكرية، وشرّع أمامي أبواب القدرة على طرح الأسئلة وعدم الركون إلى المسلّمات. أما السبب الثاني، فهو أن الأدب الفرنكوفوني يشكّل جزءاً من المشهد الأدبي العربي، لأن أصحابه هم عرب لجأوا الى الكتابة بالفرنسية لأسباب متنوعة، بعضها ذاتي وبعضها الآخر موضوعي، وأنهم لطالما وقعوا ضحية الإهمال من قبل النقاد الفرنسيين أو ألصقت بهم تهمة التنكّر للهوية العربية، من قبل النقاد العرب. فوجدت أن الإضاءة على هذا الأدب مهمة ضرورية، وعلى الباحثين العرب بالذات، واجب القيام بها للكشف عن حقيقة هذا النتاج ومضامينه وخصائصه وتحديد موقعه من الثقافة العربية، من جهة، ومن الثقافة الفرنسية، من جهة أخرى. * ما الذي يطرحه باختصار كتابك «مسار في الفرنكوفونية»، والذي لم ينقل إلى العربية حتى الآن.. وما هي نتائج تقاطعات السياسي بالثقافي والأدبي فيه؟ ** حاولت في هذا الكتاب البرهان على أن الأدب الفرنكوفوني، هو فضاء حوار وتفاعل بين ثقافات مختلفة، ولا أعني بذلك حصراً الثقافة العربية والثقافة الفرنسية، بل ثقافات كل الشعوب الناطقة بهذه اللغة في القارات الخمس. وقد تسنّى لي ذلك من خلال دراسة نماذج روائية معينة، اخترتها من الأدب الإفريقي، والجزائري، واللبناني، والسوري المكتوب باللغة الفرنسية، حيث تبيّن أن هناك تقاطعات كبيرة ووجوه شبه عدة في النظرة الى الإنسان والعالم والقضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية: مسألة التحرر على سبيل المثال، وقضية المرأة، والتسلّط، والتفاوت الطبقي، والبنية البطركية للمجتمعات، والعلاقة مع الآخر، والهوية وموضوعات أخرى عديدة. ووجدت أن هؤلاء الكتّاب قد يعبّرون عن آرائهم ومواقفهم بحرية أكبر مما لو كانوا يكتبون بلغتهم الأم. فلغة الآخر تشكل درعاً أو قناعاً! * يقال إن ولادة «المنظمة الدولية للفرنكوفونية»(OIF) جاءت كرد فعل سيو - ثقافي قوي على اكتساح الثقافة الأنجلوفونية للعالم، ولاسيما في مناطق النفوذ الكولونيالي الفرنسي التاريخي إياه، ومنها، مثالاً لا حصراً، بلدان عربية كلبنان وسوريا ومصر وسائر الدول المغاربية العربية.. ما تعليقك؟ ** أعتقد أن هذا الرأي يحتمل الخطأ، فاجتياح اللغة الإنجليزية أمر حديث العهد، إنه يعود الى ثمانينيات القرن الماضي، فيما كانت بدايات الكتابة باللغة الفرنسية في مصر ولبنان وبلاد المغرب العربي في عشرينيات القرن المنصرم، بل قبل ذلك، في لبنان. وربما تجدر الإشارة إلى أن البعد الثقافي والتنموي، يشكّل الأساس في نشأة المنظمة الدولية للفرنكفونية ويتقدم على البعد السياسي. العولمة والإنجليزية * في هذا العالم المعولم، اشتدّ ويشتدّ الخناق على الثقافة الفرنسية، حتى في عقر دارها، والدليل على ذلك صدور «قانون توبون» (نسبة إلى وزير الثقافة الفرنسي الأسبق جاك توبون.. وقد سنّته الجمهورية الفرنسية في الرابع من أغسطس/ آب 1994) لحماية اللغة الفرنسية. ويقضي هذا القانون الملزم بمنع استخدام اللغات الأجنبية، خصوصاً الإنجليزية، في دوائر المعاملات التجارية وإبرام العقود والإعلانات في الشوارع والساحات و«آرمات» المحال التجارية والمقاهي والمطاعم في عموم فرنسا... إلخ. ما تعليقك؟ ** يجب الاعتراف أن العولمة الأحادية الطابع تساعد الى حدٍ بعيد على انتشار اللغة الإنجليزية التي تحتل موقع الصدارة اليوم، وتستفيد من ثورة المعلومات والتكنولوجيا الحديثة، ما يشكّل خطراً على سائر اللغات. ونلاحظ تراجعاً للغة الفرنسية سواء، من حيث نسبة الانتشار أم من حيث مستوى الإتقان في كثير من البلدان، التي كانت تعرف رواجاً وازدهاراً فيها. وربما كان ذلك من الأسباب التي دفعت فرنسا الى أن تلعب دور الريادة في بلورة اتفاقية حماية وتعزيز أشكال التنوّع الثقافي التي أقرّتها منظمة اليونسكو سنة 2005. في اعتقادي، إنّ اللغات تتكامل ولا تتنافس، ويجب العمل على ألاّ تطغى لغة على أخرى أو أن تحلّ محلها. فاللغات وعاء الفكر ووعاء الثقافة ومن الخطورة بمكان تنميط الفكر واختزال الثقافة بنموذج واحد مهيمن. التنوّع فطرة في البشرية، وتجب المحافظة عليه حتى لا يختل الميزان. * في العام 2007 استحدثت في «المنظمة الفرنكوفونية الدولية» خليّة تفكير استراتيجية مهمتها التفكير بالقضايا التالية: الهوية الفرنكوفونية في زمن العولمة، أوروبا والفرنكوفونية، حوار الحضارات، الهجرات في العالم، الصناعات الثقافية والتعليم، وكلها «ذخيرة مواجهة» من العيار الثقيل ضد هذه الهجمة القاسية واللاغية التي تخوضها لغة الاقتصاد والأعمال والمصارف في الدرجة الأولى: اللغة الإنجليزية.. ما تعليقك؟ ** أودّ التوقف عند عبارة الهوية الفرنكوفونية، لأشير إلى أن هذه الهوية، ومنذ نهاية المرحلة الكولونيالية، باتت لا ترتكز إلى أي انتماء سياسي، وبالتالي، فإن الفرنكوفونية لم تعد مرادفاً للـ«فرنكوفيليّة»، أو للانحياز السياسي لفرنسا، كما كانت في مرحلة تاريخية معينة، بل صارت تعبّر عن خيار ثقافي، دافعه الرغبة بالانفتاح على الآخر. من هنا فالهوية الفرنكوفونية هي نقيض الهوية المغلقة على ذاتها، أو الهوية الأحادية. إنها هوية مركّبة تتنوّع مكوّناتها وتتكامل فيما بينها، ولعلني أصفها مجازياً بالبرزخ الواقع بين عالمين، بل عوالم يشكل صلة الوصل بينها. أما بالنسبة إلى تفوّق الإنجليزية التي أصبحت لغة الأعمال والاقتصاد والمصارف، فجوابي عن سؤالك هو بحد ذاته سؤال: هل تُختصر الحضارة الإنسانية ببعدها الاقتصادي، الاستهلاكي، وهل يكفي ذلك لتحقيق إنسانية الإنسان؟ أزعم أن العالم اليوم يحتاج أكثر من أي وقت مضى لإعادة الاعتبار للنزعة الإنسانية في الحضارة، وهو أمر تستطيع كل ثقافة أن ترفده بما لديها وأن تساعد في تحقيقه. * قبل سنوات صدر تقرير عن «المنظمة الدولية للفرنكوفونية» جاء فيه «أن الفرنكوفونيين يراهنون على دول القارة الإفريقية، وفي الطليعة بينها، المغرب والجزائر لتحقيق طموحهم المتمثل بوصول عدد مزاولي اللغة الفرنسية في القارة السوداء وحدها إلى مليار شخص في أفق العام 2060، وذلك من خلال ترسيخ الفرنسية لغة رسمية في التدريس». ما رأيك بهذا الرهان؟ وما مدى معقوليته من عدمها، خصوصاً وأن الأنجلوفونية تأكل «الأخضر واليابس»، سياسياً وثقافياً، في إفريقيا نفسها؟ ** بالفعل هناك اتجاه في بلدان المغرب العربي لاعتماد اللغة الانجليزية كبديل عن اللغة الفرنسية في بعض مناهج التعليم، لكن ذلك لن يؤدي الى تراجع اللغة الفرنسية، لأن جذورها ضاربة في المجتمع والثقافة في تلك البلدان، حيث يشغل الكتاب الفرنكوفونيون منذ الخمسينيات مساحة مهمة في المشهد الثقافي، فقد أسهموا الى حدٍ كبير في تشكيل الوعي التحرري، وفي طليعة هؤلاء: كاتب ياسين، وعبد الكبير الخطيبي، ورشيد بوجدرا والطاهر بن جلون... ناهيك عن العلاقات التي تربط فرنسا بشعوب تلك البلدان بفعل الهجرة، علماً أن هذه العلاقة تبدو إشكاليةً وتشهد مداً وجزراً، فهي تارةً علاقة حب وانبهار، وتارة أخرى علاقة تنافر ومواجهة. * على مستوى آخر، هل تستطيع أن تعوّض فرنسا، ولو بعض الشيء، من خلال إحيائها ورعايتها مشروع «الثقافة المتوسطية» أو «الشراكة المتوسطية»، والتي نظّر لها ملياً، رينيه حبشي، فيلسوف الشخصانية اللبناني ونظيره المغربي محمد عزيز الحبابي. كما وضع الجغرافي/ السياسي الفرنسي النابه «إيف لاكوست» كتاباً تحت عنوان: «الجغرافيا السياسية للمتوسط» صدر عن مشروع «كلمة» التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، وقمت أنت بترجمته إلى العربية؟ ** أعتقد أن فرنسا مهيأة أكثر من غيرها من بلدان الضفة الغربية للمتوسط للاستفادة من مشروع الثقافة المتوسطية أو الشراكة المتوسطية، نظراً للعلاقات التاريخية التي تربطها، كما أشرت آنفاً، ببلدان المغرب العربي ولقربها جغرافياً من هذه البلدان، وهي تطمح بطبيعة الحال إلى تطوير هذه العلاقات، ما ينعكس إيجاباً على الداخل الفرنسي على جميع المستويات. لكن أود الإشارة إلى نقطة مهمة، وهي أن مشروع الشراكة المتوسطية يواجه صعوبات عديدة، ليس أقلها المسألة الفلسطينية التي يبدو أن حلها بعيد المنال، خصوصاً مع تراجع الدور الأوروبي على هذا الصعيد. * يرى البعض أن الثلث الأخير من القرن العشرين، شهد تحوّلاً متبادلاً في نظرة كل من الشرق والغرب إلى الآخر، تظهر معالمه في النتاج الثقافي، إذ لم يعد المثقفون العرب الذين يكتبون بالفرنسية، مثلاً، في الوطن العربي، ضحية تهمة الاستلاب للغرب، لأنه يتجذر في ثقافته الأصلية لينطلق منها إلى العالمية بواسطة اللغة الفرنسية، ولم تعد هذه اللغة لغة الآخر الغريب، الاستعماري، الاستعلائي في تعامله مع شعوب هذه المنطقة، لأنها أخضعت لاستعمالات جديدة تعبّر عن هويتها الخاصة.. بماذا تعلقين؟ ** بالفعل، هناك تحوّل في النظرة الى الأدب الفرنكوفوني، كما في موقف الأدباء الفرنكوفونيين العرب من فرنسا. وفي رصد سريع لمسار الفرنكوفونية في المشرق العربي، يمكن القول إنها مرّت بثلاث مراحل، الأولى في نهاية القرن التاسع عشر وقبيل الحرب العالمية الأولى، حيث كانت الكتابة باللغة الفرنسية مرادفاً للمطالبة بتحرر الدول العربية من السلطنة العثمانية، والمرحلة الثانية في فترة الانتداب الفرنسي، حيث اقترنت الكتابة بالفرنسية بالانحياز الى فرنسا. أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت بعد الاستقلال وبناء الدول، وشهدت تحولّاً تدريجياً، فلم تعد الكتابة باللغة الفرنسية تنكّراً للعروبة، بل على العكس، نجد أن معظم الأدباء يعبرون عن تجذّرهم في الثقافة العربية المشرقية مع انفتاحهم على الثقافة الفرنسية. لذلك يمكن القول إن الأدب الفرنكوفوني أصبح نافذة للثقافة العربية على الثقافات الأخرى. * هل في الإمكان إذاً، وعبر الفرنكوفونية، المساعدة على إحياء ثقافة عربية تكون منسجمة مع ثقافة عالمية، بخاصة في زمن كهذا، يقال فيه إن البشرية تتجه إلى مشروع ثقافي واحد، متعدّد الجوانب ويتسع للاختلافات الثقافية، ويفيد منها؟ * بالتأكيد، إن الأدب الفرنكوفوني فتح للثقافة العربية آفاقا العالمية، ذلك أن هذا الأدب أصيل الانتماء إلى الثقافة العربية ويعبر عن هواجس الإنسان العربي ومشكلاته وعن رؤياه الى العالم من حوله. الدليل على ذلك وجدته في ممارستي لعملية الترجمة. لقد ترجمت ديوان الشاعرة ناديا تويني: «حزيران والكافرات» الذي يرتبط الى حد بعيد بهزيمة العرب أمام إسرائيل، وديوان الشاعرة فينوس خوري غاتا «ليل القراص»، فلم أجد صعوبة في إعادة النص الى اللغة الأم، لأنها تسكنه نبضاً وروحاً وحساسيةً وخيالاً، في الوقت الذي يكمن التحدي الكبير بالنسبة إلى المترجم في نقل روح اللغة أثناء عملية الترجمة. إن الأدباء الفرنكوفونيين هم بحق سفراء الثقافة العربية الى الشعوب الناطقة بالفرنسية في القارات الخمس. * في مجلة تصدرها وزارة الخارجية الفرنسية قال أمين معلوف «إن دور اللغة الفرنسية اليوم لم يعد الدفاع عن مساحة خاصة بها في دول العالم الفرنكوفوني، لأنها أصبحت ضرورة أوجبتها المعطيات الاستراتيجية الجديدة، وهي ينبغي ألاّ تكون في تنافس مع اللغات الوطنية، بل أن تدخل في علاقة تكامل معها».. ما رأيك؟ ** أمين معلوف هو في طليعة الأدباء الذين اختبروا عملية التلاقح بين الثقافات وحذّروا من انكماش الهوية على ذاتها في كتابه الشهير «الهويات القاتلة». نعم، العلاقة بين اللغات في زمن سقطت فيه المسافات بين الشعوب، يجب أن تكون علاقة تكامل لا تنافس، وقد أصبح اعتماد التنوع اللغوي من مستلزمات العصر. وهناك نظرية تربوية مفادها أن امتلاك المتعلم لأية لغة أجنبية يستوجب أولا امتلاكه للغة الأم، لذلك ليس هناك من تنافس بين العربية والفرنسية، ولا بين الفرنسية وغيرها من اللغات، لأن لكل منها حيّزاً خاصاً تشغله. فرنكوفونيات لا فرنكوفونية واحدة * يرى البعض أن الأدب الفرنكوفوني، خصوصاً في فترة ما بعد الاستعمار الفرنسي، ظل يُنظر إليه على أنه أدب تابع أو ملحق هامشي بثقافة المركز، ويتم إقصاؤه من لائحة الأدب الفرنسي «الخالص»، مع أن أربابه يحملون الجنسية الفرنسية، ويمارسون حقوق المواطنة وواجباتها، ينتخبون ويترشحون ويستفيدون من مكتسبات الدولة قانونياً وحقوقياً.. فهل ستظل دمقرطة التعبير الأدبي هنا مشوشة وملتبسة بمفهومها الهووي؟ ** هذه مسألة إشكالية بالفعل. ولكن بعيداً عن وجهات النظر المختلفة في هذا المجال، أعتقد أن الأدب الفرنكوفوني يتمتع بميزات خاصة نتيجة لموقعه بين عالمين وثقافتين، ولأنه يشكّل نقطة التقاء بين روافد مختلفة. اللغة الفرنسية هنا لغة جديدة مختلفة، لأنها تعبّر عن حساسية خاصة، بل أكثر من ذلك، لأنها ملقّحة بلغات أخرى تستعير منها عبارات ومفردات، بحيث يصبح النص فضاءً لحوار بين اللغات. نجد ذلك مثلاً عند دومينيك إده، وفرج الله حايك، وألبير قصري، ورشيد بوجدرا، ومليكة مقدم، وفينوس خوري غاتا وغيرهم. أما كون هؤلاء الأدباء، أو بعضهم، يعيش في فرنسا ويحمل الجنسية الفرنسية، فهذا لا يعني أنهم أصبحوا فرنسيون، من حيث العبقرية والإبداع. فالإبداع شيء والمواطنة شيء آخر. * يبدو أن التباس هوية الأدب الفرنكوفوني ما بعد المرحلة الكولونيالية، هو ما جعل شاعراً من طراز صلاح ستيتية يقول: «انا شاعر عربي باللغة الفرنسية».. ما تعليقك وهل يُلتبس عليك نقدياً مفهوم «الأدب العربي بالتعبير الفرنسي»؟ ** لا أبداً. ليس هناك من التباس. نعم صلاح ستيتية يكتب العربية بالفرنسية، ففي كتاباته الشعرية والنثرية ما يشي بتأثر كبير بالثقافة العربية الإسلامية، وعلى الأخصّ بالتصوّف، تماماً كما يغرف من ثقافته الموسوعية واطلاعه الواسع على النتاج الفكري والأدبي الأوروبي. الأمر نفسه ينطبق على فينوس خوري غاتا، وعلى ناديا تويني، وأندريه شديد وآخرين. ليس في الأمر تناقض ولا فيه التباس. * عربياً، ثمة من يتحدث عن فرنكوفونيات في قلب اللوحة الفرنكوفونية الواحدة، ففي حين يرى لغويون ومفكّرون مغاربة مرموقون من طراز: عبدالقادر الفاسي الفهري وعبدالإله بلقزيز (مثالاً لا حصراً) أن الكثيرين في المشرق العربي، وبخاصة في لبنان، «لا يعرفون حقيقة الفرنكوفونية ومخاطرها في المغرب، حيث هي مشروع سياسي اقتصادي ثقافي يسعى إلى منع التعدّدية اللغوية لحساب لغة واحدة هي الفرنسية»، يرى لبنانيون، في المقابل، أن الفرنكوفونية في بلدهم، لم تعد تسلّطية، وأن لبنان يتميز بالتعدّدية اللغوية، وبالتالي ليس من خوف على اللغة العربية في هذا البلد، لأنها حيّة وقادرة على مواكبة التغيرات.. ما تعليقك؟ ** مما لا شك فيه أن العلاقة باللغة الفرنسية تختلف بين بلدان المغرب وبلدان المشرق، ولبنان تحديداً، نظراً لظروف تاريخية وسياسية مختلفة. يكفي التذكير بعبارة كاتب ياسين الشهيرة «الفرنسية هي غنيمة حرب» للدلالة على أن العلاقة هنا علاقة تقوم على الصراع والعدائية، وهذا ما لا نقع على ما يماثله في لبنان، حيث العلاقة باللغة الفرنسية، وكما يقول صلاح ستيتيه، هي علاقة حب. وقد انعكس ذلك على صعيد الأسلوب، فالأدب الجزائري بصورة عامة يتسم بالعنف والقساوة في التعابير وإيقاعات الجملة، بينما تميل اللغة في النتاج الأدبي اللبناني بالفرنسية الى السلاسة والانسياب. وتجدر الإشارة كذلك إلى أن اللغة الفرنسية انتشرت في المغرب العربي على حساب اللغة العربية في المرحلة الاستعمارية، بخاصة في الجزائر، حيث مارس الاستعمار الفرنسي سياسة الاجتثاث الثقافي، فمنع تعليم اللغة العربية وفرض اللغة الفرنسية لغة وحيدة، واعتبر الجزائر محافظة فرنسية. والأمر مختلف تماماً في لبنان، حيث كان ينظر الى اللغة الفرنسية كعامل ترقٍ اجتماعي، وتمايز طبقي. وربما لهذا السبب كانت هناك حركات مناوئة لاعتماد هذه اللغة لغة تعليم في الستينيات وبداية السبعينيات، إلا أن هذه الموجة قد تراجعت فيما بعد عندما اتضح أن الفرنسية لا تشكل مصدر خطر على اللغة العربية، وأن الثنائية اللغوية، بل التعدد اللغوي في يومنا هذا، مفيد ومطلوب. الخوف على العربية اليوم هو من لغة الإنترنت ووسائل التواصل الحديثة. مصر.. اختفاء الزخم * هل ذهب وإلى غير رجعة، زخم النفوذ الفرنكوفوني القوي في مصر، بخاصة وأن شعراء وأدباء من هذا البلد، كانوا تفاعلوا في السابق، وأكثر من غيرهم من فرنكوفونيي العالم العربي مع الثقافة الفرنسية بتياراتها الأدبية والشعرية والفنية، خصوصاً الحركة السوريالية: جورج حنين، رمسيس يونان، جويس منصور، البير قصيري، لطف الله سليمان، اندريه شديد، كامل التلمساني، إميل سيمون وغيرهم.. وغيرهم؟ ** للأسف يبدو كذلك. لقد عرفت الفرنكوفونية في مصر مرحلة ازدهار منذ عشرينيات القرن المنصرم وحتى الخمسينيات، واللافت في تلك المرحلة هو التفاعل الذي كان قائماً بين كتّاب العربية وزملائهم الذين اختاروا الفرنسية لغة تعبير، وذلك من خلال الحلقات والندوات والمجلات الأدبية. واتسم الأدب الفرنكوفوني من خلال تلك الأسماء التي ذكرتها، ولعلي أضيف إليها أحمد راسم، وقوت القلوب الدمرداشية وإدمون جابيس، بالتعبير عن موقف نقدي من المجتمع، وعن رغبة في التغيير، وثورة على الواقع المتردي، الذي كانت ترزح تحته بعض الفئات الاجتماعية في مصر. لكن الأحداث السياسية التي طرأت في الخمسينيات، أدّت الى حالة من العداء مع الغرب، خصوصاً بعد العدوان الثلاثي على مصر، ما انعكس سلباً على هؤلاء الكتّاب الذين غادر معظمهم البلاد واختاروا فرنسا كمنفى. وهنا يتبادر الى ذهني سؤال: أين هو موقع جيلبير سينويه، مثلاً، أو روبير صولي، وهما روائيان فرنسيان ولدا في مصر وترعرعا فيها حتى سن المراهقة، ويحملانها في داخلهما ويجسدانها جغرافيا ونسيجاً انسانياً وذاكرة تاريخية في أعمالهما، التي لا تزال تصدر عن دور نشر فرنسية؟ يبدو لي أن التصنيفات قد تكون صعبة ومجحفة. * وماذا عن فرنكوفونيي سوريا.. هل من أجيال أدبية وفكرية جديدة نقرأ لها بثقة واقتدار؟ ** في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم، اقتصر المشهد على بعض المحاولات النسائية الخجولة، بخاصة في الشعر، سلمى الحفار الكزبري، وزويه حمصي، وناديا موصلي عبد النور. وفي السبعينيات نشر كمال ابراهيم في باريس أربعة دواوين تندرج في سياق الكتابة السريالية. لكن في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الحادي والعشرين، صدرت روايات عدة باللغة الفرنسية لكتاب سوريين، أذكر منهم ماري سورا، وشانتال شواف، وموحّد الطراد، وميريم أنطاكي. وهي روايات تكشف عن انتماء صادق للأرض وللثقافة العربية المشرقية، وتستلهم التاريخ القديم، كما تعبر عن رؤية نقدية للواقع المعاصر. أذكر على سبيل المثال رواية مريم أنطاكي «آيات الغفران»، ورواية «بدوي» لموحّد الطراد ورواية «غربان حلب» لماري سورا. * لماذ في رأيك لم نعد نعثر على أسماء كبيرة ووازنة على مستوى الشعر والرواية والمسرح والنقد والفكر والفلسفة والفن التشكيلي في العالم الفرنكوفوني (العربي) من مثل: جورج شحاده، عبدالكبير الخطيبي، رينيه حبشي، محمد ديب، كاتب ياسين، محمد خير الدين، ناديا تويني، أنور كامل، فينوس خوري غاتا، أندريه شديد، أمين معلوف، الطاهر بن جلون، رشيد بوجدرة، أدمون عمران المليح، صلاح ستيتية، عبد الوهاب المؤدب.. وغيرهم.. وغيرهم؟ ** الأمر لا يتعلق بالأدب الفرنكوفوني العربي وحده. الواقع، هناك أزمة في الفكر والثقافة بشكل عام، ليس في عالمنا العربي فقط، بل ربما في العالم، إذ أن التطورات والتحولات التي نشأت عن العولمة وعن التقدم التكنولوجي الهائل، تطرح أسئلة جديدة وإشكاليات أحدثت حالةً من الارتباك والتشويش، وربما الفوضى. لذلك فإن الفكر البشري يحتاج الى فترة زمنية لكي يجد الإجابات المناسبة عن هذه الأسئلة والإشكاليات. -------- * أجري هذا الحوار بمناسبة يوم الفرنكفونية الذي صادف 20 مارس الجاري.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©