الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تفكيك العقلية التراثية

تفكيك العقلية التراثية
30 مارس 2016 21:44
هاشم صالح خلف المفكر السوري الراحل جورج طرابيشي مؤلفات عديدة وخصبة وراءه. وهي تستحق المراجعة والتقييم، وحتماً سيقوم بذلك المتخصصون من المثقفين العرب. ليس هدفي هنا الإحاطة بالموضوع، وإنما إلقاء الأضواء الخاطفة على بعض محاوره الفكرية، ومن أهمها موضوع العلاقة مع الغرب، وهو ما دعاه بعضهم بصدام الحضارات على أثر صموئيل هنتنغتون. الشيء الخطير فيما يخص موقفنا من الغرب هو أن رفضنا لسياساته الظالمة أحياناً وبخاصة فيما يتعلق بفلسطين يمتد لكي يشمل أيضاً الرفض لثقافته وفكره وكل حضارته، وهذا هو الشيء الذي رفضه جورج طرابيشي على خطى طه حسين وسلامة موسى وبقية مفكري النهضة العربية، وربما تكمن هنا ميزته أو تمايزه عن معظم المثقفين الآخرين، ولكن ليس كلهم لحسن الحظ. في الواقع، نحن بعدائنا المطلق للغرب نحرم أنفسنا من فتوحاته العلمية والفلسفية. إننا في زحمة الغضب العارم والصراع الهائج لا نعرف كيف نفرق بين الوجه المشرق لحضارته/‏‏ والوجه المعتم، بين الوجه المعرفي المحرر للروح/‏‏ والوجه التوسعي القمعي الجشع. وهذا الخطأ انعكس سلباً علينا. فقد أخر من تعزيلنا لتراكماتنا التراثية وعرقل انطلاقتنا ونهوضنا. احتماء بالتراث يرى المفكر السوري الراحل، أن شريحة واسعة من الإنتلجنسيا العربية راحت تغرق في نوع من الخطاب العصابي الهيجاني ضد الغرب بدءاً من الرضة الحزيرانية، أي نكسة 5 حزيران 1967. راحت تغرق في الخطاب التراثي المتقوقع على الماضي. هذا النكوص نحو الماضي يجد مبرراته في إحباطات الحاضر. فلولا الهزيمة النكراء لما كان النكوص إلى الوراء. لولاها لما كانت التخمة التراثية التي غرق فيها معظم المثقفين العرب.. لقد رموا بأنفسهم في أحضان الأب - التراث لكي يحميهم من الهزيمة. ينبغي العلم بأن الطبقة الثقافية العربية كانت على امتداد عصر النهضة عامل تقدم ودفع إلى الأمام، ولكنها الآن وبعد انفجار الموجة الأصولية أصبحت عامل نكوص إلى الوراء، ثم يستشهد بكلمة بديعة لطه حسين وكانت قد وردت في كتابه: مستقبل الثقافة في مصر. يقول عميد الأدب العربي: «لنقبل على هذه الحضارة باسمين لا عابسين». بمعنى لنأخذ منها ما يفيد ولنتفاءل بها بدلاً من أن نعرض عنها ونزدريها، ولكن طرابيشي يستخدم عبارات أقسى بكثير من طه حسين. إنه يعنف المثقفين العرب تعنيفاً شديداً، لأنهم أصبحوا يطرحون شعاراً مضاداً لشعار طه حسين. لقد أصبح شعارهم هو التالي: «لندبر عن هذه الحضارة عابسين لا باسمين»، بل ويصف طرابيشي ركوب المثقفين للموجة الأصولية التي استفحلت بعد 1970 بالردة والجائحة الأيديولوجية والوباء النفسي.. يقصد بذلك أنهم ارتدوا على عصر النهضة وقيمه التنويرية، ثم يستشهد بعبارة أخرى لأحد أعلام الفكر جمال الدين الأفغاني. وفيها يقول: «العربي يعجب بماضيه وأسلافه، وهو في أشد الغفلة عن حاضره ومستقبله». ويرى طرابيشي أنه إذا ما انتصر هذا التيار فإن ما ينتظرنا هو مستقبل من الظلامية. وبالفعل هذا ما حصل. ينبغي العلم بأن طرابيشي كتب هذا الكلام في نهاية الثمانينيات أي عندما كانت الموجة الأصولية قد وصلت بالخميني إلى سدة السلطة في إيران وعندما كانت الحركات الإخوانية قد اكتسحت الشارع وأصبحت تحلم مثله في الانقضاض على السلطة في العالم العربي. ولهذا السبب قرر جورج طرابيشي التصدي لهذه الموجة العارمة منذ الثمانينيات من القرن المنصرم في وقت راح فيه العديد من المثقفين يلتحقون بها، بل وحتى بعض الماركسيين الشيوعيين انقلبوا إلى أصوليين بين عشية وضحاها! وهذا ما يدعوه المؤلف بالردة. (انظر كتابه: المثقفون العرب والتراث. التحليل النفسي لعصاب جماعي. الصادر للمرة الأولى عام 1991). كل المبدعين هراطقة ثم راح جورج طرابيشي يعمق الموضوع أكثر فأكثر في كتبه اللاحقة: «من النهضة إلى الردة: تمزقات الثقافة العربية في عصر العولمة» عام 2000، «مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة» 2006، وبشكل خاص كتاب «هرطقات» بجزأيه عامي 2006 و2008. وفيه، أو بالأحرى في جزئه الثاني، يطرح هذا التساؤل الجميل: كثيراً ما تساءلت: لماذا يغلي في دمي حب الهرطقة؟ وهي عبارة رائعة شبه شاعرية، ولكن أليست الهرطقة هي سمة كل المفكرين الذين خرجوا على عقلية القطيع؟ كل المبدعين في التاريخ كانوا هراطقة بشكل من الأشكال. لا تستطيع أن تبدع ما لم تخرج على الرأي الامتثالي الشائع. إبداع شيء جديد يتطلب ذلك بشكل إجباري. غاليليو كان مهرطقاً وقد أدانته الكنيسة كما هو معلوم. وسبينوزا كان مهرطقاً وقد أدانته طائفته اليهودية في أمستردام، بل وحاول بعض متعصبيها اغتياله. وقل الأمر ذاته عن ديكارت وكانط وهيغل الخ.. جميعهم وضعت محاكم التفتيش الكنسية مؤلفاتهم على لائحة الكتب المحرمة قراءتها. بمعنى أنها حرمت على المتدينين المسيحيين أن يقرؤوها وإلا كفروا.. ثم مر الزمن وترسخت فيما بعد وأصبحت مفخرة للشعوب الأوروبية، ثم يفاجئنا طرابيشي أنه كان في بداية حياته متديناً إلى حد وسواسي. وهذا شيء كنت أجهله كلياً. كنت أعتقد أنه «لاديني» خالص من بدايته إلى نهايته، ولكن لماذا يكون كذلك؟ هل هو من أبناء اسكندنافيا أم سوريا والعالم العربي؟ وفي ذكرياته الشخصية يروي قصة ذات دلالة ومغزى. فالكاهن المسيحي الذي كان يعلمهم الدين في مدينة حلب راح يصور لهم العقاب الإلهي بشكل مخيف ويحذرهم من نار جهنم بشكل مفزع جداً. وعندئذ يقول طرابيشي بأنه لم ينم تلك الليلة. بل وارتعب وراح يتساءل مرتعداً: أيمكن أن يكون الله قاسياً إلى مثل هذا الحد؟ ثم ما هي الخطيئة التي تستأهل كل هذا العقاب؟ ومنذ ذلك الوقت خرج طرابيشي من إيمانه السابق وأصبح متمرداً على كل مؤسسة دينية وعلى كل تصور لاهوتي للعالم. انتهت القصة. ماذا نستنتج منها؟ نستنتج أن تعليم الدين في العالم العربي لا يزال قروسطياً ظلامياً على عكس أوروبا المتقدمة. فالكاهن المسيحي في أوروبا لا يمكن أن يعلم الدين للأطفال الصغار بمثل هذه الطريقة المتخلفة إن لم نقل الإرهابية.. على العكس إنه يقدمه لهم بصورة متفائلة مبتسمة لا متجهمة مكفهرة على طريقة العصور الغابرة. وهنا يكمن الفرق بين ظلاميات العصور الوسطى/‏‏ وأنوار العصور الحديثة. المشكلة ليست في الدين يا جماعة! وإنما في طريقة فهمه وتعليمه وتفسيره. الآية الكريمة «لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ » تطبق في فرنسا أو ألمانيا لا في العالم العربي أو الإسلامي. من يصدق ذلك؟ الديموقراطية والعلمانية أما في الجزء الأول من «هرطقات» فيتحدث المؤلف عن مواضيع شتى تشغل الثقافة العربية والمثقفين العرب. إنه يتحدث عن إشكالية الديموقراطية في العالم العربي، وعن بذور العلمانية في الإسلام. ثم يطرح السؤال التالي: من قتل الترجمة في الإسلام؟ كما يتحدث عن الفلسفة العربية المستحيلة، الخ.. فلنتوقف ولو بسرعة عند بعض هذه المحطات. فيما يخص الديموقراطية يرى طرابيشي أنه لا معنى للديموقراطية من دون ثقافة ديموقراطية، وأن هناك علاقة بين صندوق الاقتراع وصندوق جمجمة الرأس. فإذا لم تتغير العقليات في المجتمع العربي وتتحدث وتتنور فإن الديموقراطية ستؤدي حتماً إلى ديكتاتورية غالبية العدد. بمعنى آخر سوف ترتد على نفسها وتتحول إلى عكسها. وفيما يخص العلمانية يورد الحكاية التالية: عندما وجه القاضي السؤال التالي إلى قاتل فرج فودة: لماذا قتلته؟ أجاب: لأنه علماني. وأنكى من ذلك عندما سأله: وما معنى علماني؟ أجاب: لا أعرف.. وأما الدكتور يوسف القرضاوي كبير فقهاء الإعلام العربي السائد اليوم فقد سألوه في برنامجه الشهير «الشريعة والحياة» عن رأيه في العلمانيين المسلمين المعاصرين فأبدى استغرابه من كون حد الردة لم يطب ق عليهم حتى الآن! ماذا يعني ذلك؟ إنه يعني أن قصة العلمانية طويلة في العالم العربي، بل ولما تكد تبتدئ.. والأخطر من كل ذلك هو أنهم يعتقدون أن العلمانية تعني الإلحاد! هذا في حين أنها تعني حرية التفكير والضمير. وهناك علمانيون كثيرون مؤمنون. أما فيما يخص موضوع الترجمة ومن قتلها في الإسلام وأدى إلى نضوب الحضارة العربية فنجد الإضاءة التالية. وهي أن عقلانية المعتزلة التي كان ينتمي إليها المأمون هي التي دفعته إلى تدشين حركة الترجمة على أوسع نطاق، وهكذا تم نقل الفلسفة اليونانية إلى اللغة العربية. وعن هذا التفاعل الثقافي نتجت أشهى ثمرات الثقافة في العصر الذهبي، ولكن للأسف سرعان ما توقف هذا التلاقح الحضاري الخصب بعد انتصار التقليديين على المعتزلة، ومعلوم أنهم أدانوهم دينياً وكفروهم لاهوتياً وحرقوا كتبهم ولاحقوهم في الأمصار. ويبدو أن أول حارق للكتب هو السلطان محمود الغزنوي الذي نفذ برنامج تصفية المعتزلة والفلاسفة فكرياً على أثر المتوكل والقادر، ثم سار السلاجقة الأتراك والسلطنة العثمانية على نفس النهج من الانغلاق والتحجر. لهذا السبب توقفت الترجمة وأفل العصر الذهبي ودخلنا في ليل الانحطاط الطويل. أخيراً هذا غيض من فيض من أفكار جورج طرابيشي. يلاحظ القارئ أني لم أدخل في قصة سجالاته، بل ومعاركه الضارية ضد الجابري. أترك ذلك لفلاسفة المستقبل لكي يحكموا عليها. أنا شخصياً كنت ضد الطريقة التي حصلت فيها. وقلت له ذلك أكثر من مرة. أضيف: إذا كنت قد أجحفت بحق الأستاذ الجابري يوماً ما أو انتقصت من قيمته فإني أعتذر عن ذلك كل الاعتذار هنا على صفحات «الاتحاد الثقافي»، فصاحب «نقد العقل العربي» يبقى أحد كبار مفكرينا في هذا العصر، وله كل التحية والتقدير. الثقافي مأخوذاً بجرم السياسي إبان اندلاع الحروب والبغضاء بين أمم أوروبا الكبرى كالأمة الفرنسية والأمة الألمانية مثلاً، وبسبب وحشية حرب 1870 بين فرنسا وألمانيا وكذلك بسبب فظائع الحرب العالمية الأولى والثانية فإن بعض المثقفين الفرنسيين راحوا يعادون ليس فقط السياسة الألمانية، وإنما الثقافة الألمانية أيضاً، وقالوا لن نأخذ بعد اليوم عن فلاسفتهم شيئاً ولن نذكرهم مجرد ذكر، ولكنهم بذلك عاقبوا أنفسهم ولم يعاقبوا الثقافة الألمانية، فلا أحد يشك في أن «كانط» يشكل لحظة أساسية في تاريخ الفكر البشري، والبعض يعتبره أهم فيلسوف في العصور الحديثة. وقل الأمر ذاته عن هيغل وآخرين. فماذا ينفع أن تحاربهم أو تهملهم؟ انك أنت الخاسر وليس هم. إنك تحرم نفسك من الاطلاع على الفتوحات الفكرية الكبرى التي أصبحت ملكاً للبشرية كلها. لحسن الحظ فإن هذا الموقف المتشنج كان محصوراً بأقلية قليلة من المثقفين الفرنسيين الشوفينيين، أما الأغلبية العظمى، فتجاوزت هذه العقدة التاريخية مع الألمان وراحت تنهل من معين الثقافة الألمانية من دون حساب. انظروا الترجمات الرائعة لكانط وهيغل ونيتشه وهيدغر وسواهم إلى الفرنسية. وانظروا التعليقات والشروحات عليها، إنها لا تعد ولا تحصى. أسباب كراهية الغرب لكن لكيلا نظلم طبقة الإنتلجنسيا العربية كثيراً ينبغي الاعتراف بأن هجمة الغرب علينا كانت شرسة جداً، بدءاً من القرن التاسع عشر. و«خيانة الغرب للتنوير»، كما يقول جان كلود غيبو جعلت مثقفي الأمم الأخرى يزهدون به أو ينصرفون عنه، وساهم في الاشمئزاز من الغرب إلى أقصى حد دعمه المطلق للسياسات الإسرائيلية، ولكن ينبغي التفريق هنا بين غرب/‏ وغرب. فليست كل التيارات الغربية معادية لنا بنفس الطريقة أو بنفس الدرجة، بل إن هناك تيارات إنسانية عديدة متعاطفة معنا أو متفهمة لقضايانا، وبالتالي حذار من التعميم، ثم بشكل أخص حذار من تعليق كل مشاكل العرب والمسلمين على شماعة الغرب وإعفاء أنفسنا من كل مسؤولية. هذا الخطاب الديماغوجي المؤدلج الفارغ أساء لنا كثيراً وأفقدنا كل مصداقية في نظر الغرب والشرق.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©