السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لغات السماء

لغات السماء
1 مارس 2017 19:57
إعداد - إبراهيم الملا لطالما تبارى الفلاسفة واللاهوتيون وفقهاء اللغة في تحديد جغرافية الفردوس الرائعة، وتعيين اللغة التي كان يجري التخاطب بها هناك، حتى أن أبحاثهم بلغت حدّاً من التشعب تتعذر علينا معه الإحاطة بمسالكها وانعطافاتها. *** دعا القديس أوغسطين (345- 430) إلى الأخذ بالرواية الرسمية التي تجعل من العبرية «لغة الأصول الإنسانية»، لكن العصور القديمة نفسها عرفت عدداً من المناهضين لهذه النظرية أمثال تيودوروس الصوري الذي قضى للسريانية بالتفوّق على العبرية، وغريغوروس النيصي الذي أكّد أن العبرية ليست أقدم اللغات. *** إن يقظة الوعي القومي في مناطق عدّة من أوروبا، قد أذكى في مرحلة أولى روح المنافسة بين شعوبها، بحيث عكف كل منها منفرداً على استبانة ملامح اللغة الأوليّة في لسانه القومي، ثم جاءت لاحقاً فكرة اللسان القديم المشترك بين اللغات الأوروبية لتطلق نموذجاً مفهومياً مجرّداً قيّض له أن يجد الصيغة في الفرضية الهندو أوروبية، وقد راحت هذه الأخيرة تنمو وتزدهر في غضون الفترة الممتدة بين القرنين السادس عشر والثامن عشر وسط مناخ من الجدل الناشط حول الأشكال البدائية الخاصة باللغات الهندو أوروبية، والنقاشات الآثارية الرامية إلى تحديد موطن الهندو أوروبيين الأوائل. *** لم يكن الأب ريشار سيمون صاحب كتاب: «التاريخ النقدي للعهد القديم» يعتقد أن الطوباويين يتكلمون العبرية في السماء، ولو أن ذلك لن يحول أيضاً دون تحفّظه حيال آراء بعض اللاهوتيين الذين يشاطرونه الاعتقاد نفسه فقد مضى يعلّل بعض المشادّات الحاصلة حول (أقدم لغات العالم) بأغراض سياسية تأدّت إلى إضرام روح المنافسة بين الشعوب، فمنذ الآباء الكنسيين وحتى علماء عصره الأوروبيين «كانت الأمم ولا تزال تتخاصم بسبب لغاتها»، لكن لما كانت الكنيسة تواجه هذه النزاعات بصرامة كليّة متعهدة بالرعاية رأي اليهود الذين يؤكدون أن العبرية هي لغة آدم، فقد آل الأمر بالأب سيمون إلى مجاراة هذا الاتجاه، وإن بغير اقتناع، حيث رأيناه يقف إلى جانب اللغة العبرية مكتفياً بالإعراب عن بعض التحفّظات التي لا تعدو أن تكون ضرباً من الفذلكة البيانية، والخداع البلاغي، عندما يقول مثلا: «إن ميزة البساطة في اللغتين العربية والكلدانية أقل منها في العبرية وأقوى مما هي عليه في اليونانية واللاتينية، وبالتالي، فلو كان لآدم أن يتكلم إحدى هذه اللغات لما تكلّم إلّا العبرية حتماً» !! *** إن أكذوبة الأسبقية التي تمتعت بها العبرية، استمرت بنسج خيطها اللاهوتي الواهن والملفّق على يد الباحث ج.غ. هردر عندما أشار إلى مكانة اللغة العبرية المميزة باعتبارها إحدى «الوليدات البكر» اللواتي أنجبتهنّ ملكة النطق البشري، كان هردر بوحي من الأسقف الإنجليزي ر.لوث ينطلق من بنى اللغة العبرية للكشف عن مسوغ شعري لذلك الفردوس الذي ما فتئت فتنته تغري الخيال بترسيم أطرافه المترامية، وقد وجد في سيرة النبي موسى خير حليف يعينه على بلوغ أربه، فبادر إلى التنويه بأهمية سفر التكوين في إرساء التفسير الديني على حكائية «الجلال» ثم لفت إلى أجواء السحر المخيّمة على الفردوس، معلّلاً إياها بأمرين: الأول، خلوّ رواية الخلق من كل تفصيل يتعلق بجغرافية جنة عدن، التي بدت أشبه بوطن الخرافة، والثاني، غموض الرواية الموسوية الذي أسهم في ترسيخ هذا الانطباع. *** تحوّلت «سجلّات الفردوس» إلى تأملات حول اللغة يسهّل عليها طبيعتها العصيّة على الإدراك، كونها الشاهد الأمين الذي تخلص شهادته على امتداد الأجيال، وذلك ما عبّر عنه ج.د. ميكايليس في مقالة صدرت له عام 1759 بعنوان: «تأثير الآراء في اللغة واللغة في الآراء»، إذ أورد ما يلي: «اللغة هي نوع من المدوّنات التي تحفظ الاكتشافات البشرية بمنأى عن طوارئ الدهر المفجعة، مدوّنات لا يقوى عليها اللهب، ولا تزول إلا بزوال الأمم». لا يسعنا بعد اليوم، إذن، الكلام على أي أمّة أو على تاريخ أي شعب من دون إبراز العامل الذي يؤمّن استمرارية الهوية الخاصّة بهما في الزمن ويضمن تناقل القيم التراثية التي أبرزها اللغة. *** يقول المؤرخ وليام جونز (1746 1794): «لئن كانت اللغة السنسكريتية ممعنة في القدم، فهي تتميز ببنية رائعة تفوق اليونانية اكتمالا واللاتينية غنى، كما تتخطاهما كليهما في الدقّة، أما التقارب المشهود له بين هذه اللغات على مستوى الصيغ الحوارية وجذور الأفعال، فلا يصحّ اعتباره من باب المصادفة والاتفاق، بل إن علم اللسانيات لا يسعه حيال ظاهرة كهذه إلا أن يعتقد بانبثاق اللغات المذكورة من أصل واحد مشترك، حتى لو لم يعد قائماً بالفعل» *** يقول هيغل «فرضية اللغة المنقرضة، والشعب المجهول، هي التي حفّزت كتّاب القرن التاسع عشر على التطلّع إلى أماكن انتشار الشعوب الهندو أوروبية في تلك العهود القصيّة التي يمتزج فيها الشعر بالأسطورة، فطفقوا يلملمون من أقاصي الأرض كل ما أمكنهم لملمته من جذور لغوية ظنوا فيها قرب العهد من ولادة الحدث اللغوي، بل ربما خلق الإنسان أيضاً» *** إزاء هذا العالم الذي يعجّ بالتسميات تبرز مجموعة أساسية أخرى هي مجموعة اللغات الساميّة المعروفة منذ زمن بعيد بالآرامية أو الشرقية،وجرت تسميتها ساميّة نسبة إلى سام ابن نوح، أخي يافث، إن عدد الألسنة الهندو أوروبية يوازي عدد الشعوب التي امتازت بقدرتها على الترحّل، إذ اتسعت رقعة نزوح كبار الغزاة هؤلاء لتشمل المناطق الممتدة من بلاد الهند حتى أطراف أوروبا الغربية، بعكس الساميين الذين لبثوا مشدودين إلى مواقعهم، متشبثين بلغاتهم وثقافاتهم ودياناتهم، وقد حال جمودهم هذا في المكان والزمان دون مساهمتهم، إلا فيما ندر، في تقدّم التاريخ العالمي، كما يصوره القرن التاسع عشر، هكذا يتأكد التعارض بين دينامية آرية تتسم بطابع التعددية المشتركة، وركود سامي يخيّم عليه طابع الثبات والخوف من التغيير. ويشير الباحث والمؤرخ رينان إلى حركية الشعب اليوناني وقدراته التجريدية من جهة، وأهليّة العالم الهندو أوروبي، للصيرورة والتحوّل من جهة ثانية. .......................................... هذه الشذريات مقتبسة من كتاب: «لغات الفردوس آريون وساميون: ثنائية العناية الإلهية»، تأليف: موريس أولندر، ترجمة: الدكتور جورج سليمان، منشورات: المنظمة العربية للترجمة الطبعة الأولى 2007.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©