الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

برجمان.. صورة نقية لليأس

برجمان.. صورة نقية لليأس
6 أغسطس 2007 04:01
في التراث السينمائي الذي يظل حديثاً مقارنة بتراث الفنون الأخرى، فإن أسماء المخرجين ذوي البصمة الخاصة أو العلامة الفارقة ستبقى محفورة على شاشة الذاكرة الإنسانية، أسماء مثل تاركوفسكي وأكيرا كيراساوا وسيرجي آيزنشتاين، وفيتوريو دي سيكا وأنطونيوني وفيلليني وبريسون، حيث أسس كل واحد من هؤلاء لقاعدة فنية لامعة أو لاتجاه ذي شرعية واثقة من وجودها، في وقت كانت فيه السينما مجهولة النسب، ومحفوفة بالريبة والشكوك· في غمار هذه الأسماء المتوهجة، حظي اسم المخرج السويدي الكبير إنجمار برجمان ببريق خاص، وبحضور مميز عززته التجربة الشخصية للمخرج، فعطفاً على جراحات الطفولة وقسوة الأب، ساهمت تشوهات الوجود في بلد مثل السويد على إضفاء طابع الكآبة وضمور الفرح في جل الأعمال السينمائية التي قدمها برجمان، ففي بلد يعاني من ارتفاع الميول الانتحارية لدى سكانه، يتحول البحث في مفردات مثل العزلة والموت والقلق، إلى بحث خصب ومتشعب وموصول بالحيرة الذاتية للشخوص ولقصصهم المتقاطعة مع سرديات العذاب وسيرة الروح في أشد حالاتها انغلاقاً وأكثرها ميلاً للخفوت والانطفاء· فلسفة الموت برجمان ظل يقاوم طوال حياته ما يمكن أن نسميه بـ : (رعب الوجود) من خلال فعل فني معاكس لهذا الرعب، وقادر في الوقت ذاته على تحليله والكشف عن مساراته المدوخة، وأوضح مثال على هذا الاتجاه التحليلي في أفلام برجمان هو التحفة الفنية التي قدمها العام 1957 وحملت عنوان (الفراولة البرية)، فهذا الفيلم الذي مازال يدرس في أكاديميات السينما قدم صورة واضحة عن أسلوبية برجمان في التعامل مع شريط الفيلم واعتباره ملحمة بصرية تمور بالأحلام والكوابيس وفكرة الهشاشة الإنسانية أمام الأقدار العاصفة وأمام هجمة الموت واليأس والفناء البشري، قدم برجمان في هذا الفيلم ما يشبه الببلوغرافيا الإنسانية لوجود محطم وطبيعة منهارة، فمن خلال قصة أستاذ جامعي ينكشف أمام الهزيع الأخير من عمره، يوغل فيلم (الفراولة البرية) في السيرة الذاتية لهذا الأستاذ عندما يتشابك خريف الحياة مع خريف الطبيعة وسط محطات قديمة ومستعادة لفترات الطفولة والمراهقة في مدارات العائلة، وفي خصوصية الانعزال، فداخل شريط الذاكرة الممتد يقدم الفيلم جرداً صريحاً لحياة هذا الأستاذ وبكل ما يحمله هذا الجرد من اعترافات وإضاءات على قيم وفضاءات فلسفية لصيقة بالإنسان، مثل الحب والمرض والغيرة والخيانة وتأنيب الضمير والوحدة العميقة وسط عالم منسحب ببطء نحو التلاشي والعدم· في احد تعليقاته على مهنة الإخراج السينمائي يقول برجمان: إنني أسأل نفسي لماذا عملت في هذا الميدان خمسين عاماً وأكثر ؟ لماذا تستيقظ في الصباح كي تبتكر وتخلق أشياءً جديدة؟ وأجد نفسي أجيب عن هذه الأسئلة بأنني أريد إيجاد صلة مباشرة بيني وبين الناس لأخبرهم بأشياء عن أنفسهم·· وعني أيضاً، ربما يصبح بإمكاننا بالوسائل المتواضعة تغيير بعض الأشياء، حتى لو كانت أشياء صغيرة· يتميز الشغل الذهني والفلسفي في أعمال برجمان بمخاطبة الواقع والمكان ولكن بلا تبعات أو شروط راضخة للمدرسة الواقعية، والواقعية الجديدة بعد ذلك، والتي رأينا ملامحها القوية في السينما الإيطالية، يقدم برجمان في أفلامه أفكاراً تنطلق من الخاص إلى العام ومن الشخصي إلى الإنساني، ولذلك اكتسبت أفلامه شهرة عالمية خاطب من خلالها العواطف الإنسانية التي يمكن الإفصاح عنها بوسائل تعبيرية وبصرية مبتكرة، هذا الملمح المميز في عمل برجمان بدا واضحاً منذ بواكير أفلامه مثل : ''ابتسامات في ليلة الصيف'' الذي قدمه العام 1955 ، ثم الفيلم الذي شكل انعطافة مهمة في تجربة برجمان مع غوامض الوجود البشري، وهو الفيلم الذي حمل عنوان : ''الختم السابع''، حيث تلعب الشخصية الرئيسية في الفيلم لعبة الشطرنج مع الموت ! لفت هذا الفيلم أنظار النقاد إلى موهبة شابة قادمة من أرض الجنون والوحدة ! شعرية الإيحاء وعند الحديث عن السينما الشعرية، فإن برجمان لا يلجأ للشعرية المتكلفة أو المقصودة في أفلامه، فهو يكتفي بشعرية الإيحاء والملامسات الروحية بين الذات والمكان ثم بين الذات والذوات المحيطة بها، وعندما يلجأ لمشاهد سوريالية في أفلامه كما في المشهد الكابوسي لفيلم (الفراولة البرية)، فإنه يترجم حقيقة الفزع الإنساني أمام فكرة الموت، وهو فزع لا يمكن طرحه من خلال الحوار أو المشهد الطبيعي، فهذا الكسر الذي يخلخل الإيقاع السردي البطيء في أفلام برجمان لاشك في أنه يخلق فرصة للحوار مع الكارثة، ففي لحظة معينة من فيلم (الفراولة البرية) يشعر المتفرج بحاجة لعبور الضفة الأخرى من اللاوعي، وهو ما نجح برجمان في تحقيقه، وخلق نوع من التوازن بين واقعية الحدث وشعرية المعنى· رحل انجمار برجمان إذن، وترك جزيرة (الفارو) الهادئة لمشاغل ما بعد الموت، ترك برجمان صقيع ووحشة الفن، وترك سيرة إبداعية مطبوعة بقوة على شاشات العصر الذهبي للسينما، وعلى الرغم من أنه حقق ما يربو على الأربعين فيلماً إلا أن الأسئلة الوجودية التي تركها خلفه ستظل تبحث لها عن إجابات في أعمال السينمائيين الجدد، سواء في بلده الأصلي السويد، أو في أرجاء العالم بأسره·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©