الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

روحانيَّةُ المياه الفائضة*

روحانيَّةُ المياه الفائضة*
4 فبراير 2015 21:36
إذا كانت المُدُن أكثر عدداً من شَعْرِ ذيل الحِصان، فإن القليل منها فقط، مَنْ بمقدورها أن تَسْري في العروق وتدبّ في الفؤاد وتغزو الروح. العلاقة في البدء، قد تتم كإشارةٍ خفيةٍ بين عَابِرَيْن، فما أن تبدأ بالوخزة الأولى، حتّى تنتشر الفتنة في الجسد ويأخذكَ الشغف إلى غورها. غير أن تلك الإشارة، قد تكون كاذبة كالحَمْلِ الكاذب، وقد تكون عابرة ومآلها النِّسيان، وقد تكون خادعة كالمكيدةِ أو كسَرَابِ الصَّحْراء، وقد تكون كالنِّعمةِ المكشوفةِ الوجه التي لا تُرَدُّ ولا تُصدّ. شيء ما في مجاهيل النَفْس، يبزغ فجأة في المسافة الفاصلة بينكما، فيقودك إلى ضياء الفَجْر. هكذا، تبث المدن القليلة إشاراتها للمسافرين والعابرين مثلنا، فهناك من يلتقطُ الضعيفة والعابرة منها، وهناك من يلتقط القوية والعميقة منها، وهناك مَنْ لا يلتقطُ لا هذه ولا تلك، فيعود خاوياً كما ذهب. (إلى الصُحْبة الخضراء الحميمة. إلى ثاني السويدي، ويوسف أبو لوز، وعادل خزام) (1) مرايا «بِنُوْمْ بِنْ» إنها «بِنُوْمْ بِنْ»(هكذا، كما تُنْطق بالكمبودية، وليس كما تكتب وتُنطق بالعربية: «بنوم بنه»)، « لؤلؤة آسيا»، وواحدة من تلك المدن القليلة التي ترسل إشاراتها لزوارها، وتفتح لهم برزخها، وتغمرهم بماء حياتها الدافق. وكيف لا تفعل هذا، وهي المنتمية لبلاد المياه الفّائضة؟ ففي كمبوديا، هناك نهر «ميكونغ» العظيم، وجنوباً هناك إطلالتها على بحر خليج تايلاند، وفي سهل البحيرات توجد بحيرة «تونلي ساب» (بحيرة المياه العذبة)، أمّا الأمطار فهي موسمية وتتواتر في الانهمار حتّى في الصيف. إنها بلاد من الجهات الأربع، محاطة بالماء ومغسولة به، فهي لا تشعر بالعطش ولا تعاني من الجفاف، مثل غيرها من البلدان المصابة بعاهة التصحر واليباب. غير أن هذه الشرايين المائية المفتوحة على الطبيعة والحياة، قد وَلَّدت بدورها مياهاً عذبة أخرى، أَثَّرت عميقاً كما يبدو، بجانب عوامل ثقافية أخرى سنأتي على ذكرها، في تكوين الشخصية الكمبودية. هكذا، يمكننا أن نتحدث مثلاً، عن ماء اللَّطافة، وعن ماء التَّهْذِيب الجم، وعن ماء احترام النفس والآخر، وعن ماء النعومة الأنثوية والبشاشة، وعن ماء المحبة والصداقة، وعن ماء البساطة والهدوء وعدم الوقاحة. إنها مياه، مياه، تفيض من الخارج وتنبجس من داخل الإنسان الكمبودي، وتُصفِّيه وتُطَّهره وتُجدِّده وتجعله إنسانياً. هذا التواشج المائي الساحر إذاً، بين الطبيعة والإنسان الكمبودي، قد انعكس بدوره على روح المدينة وإيقاعها. فإذا تسنى لك أن تجيء من ناحية النَّهر مثلاً، واقتربت منه ووقفت على حافته، فإن الأصوات الوحيدة التي قد تصلك من هناك، هي: صوت عزيف الرِّيح، وحفيف الشجر، وتغاريد الطيور، وزخات المطر (عندما تنفتح طاقة السّماء)، ونقيق الضفادع الهادر في اللّيل. أمّا الأصوات الأخرى، كأصوات محركات السفن والطرادات والبواخر الخضراء، ذات الغاطس الضئيل والارتفاع الصغير، والتي تبحر بطمأنينة مطلقة، فإنها تضيع وتتلاشى في مجراه الواسع والعميق، الذي يمتص كل الأصوات ويبتلعها من دون إبطاء. إنكَ تراها من بعيد كمفاتيح طافية على سطح الماء فقط، ولكنك لا تَسمع حركتها ولا ما يحركها مطلقاً. أمّا إيقاع المدينة ذاتها، في المقابل، فهو إيقاع مدينة هادئة، شَرِحَة، مسترخية، وكما لو أنها نهضت من النوم للتوّ. فالغيوم في سمائها تتهادى ببطءٍ، كنساءٍ حوامل في شهرهنَّ الأخير. السيارات والعربات والدَّراجات وغيرها، تراها تسير في سرعات موحدة وبطيئة، وفي رِتْمٍ واحد تقريباً، لا يسمح لها بتجاوزه مطلقاً. حركة الناس والسُّيَّاح، في الشوارع والساحات العامة والأزقة وفي كل مكان، هي الأخرى متباطئة ومتهادية وغير عجولة أو متعجلة. هناك هدوء وطمأنينة وأمان وانشراح ومرح، يخيمن على جو المدينة العام. حتّى الضجّة في «بِنُوْمْ بِنْ»، تجدها محببة ومستساغة وطبيعية، وليس كتلك الضجّات الصارخة والمزعجة التي لا تُحتمل. إذْ هناك في هندسة هذه المدينة، متنفسات طبيعية للفسحة والتريض واللّعب والتأمّل. إنها مدينة لا توحي لك بالتشنج، أو اللّهاث، أو التوحش، برغم اكتظاظها السكَّاني الكبير نسبياً، والذي قد تلاحظه كلما توغلت في وسطها التجاري المزدحم، أو في أحيائها الفقيرة على الأطراف. فهي لا تلهث كالكلاب ولا تنهش كالذِّئاب، وإنما هي تتنفَّس وتضحك كالماشي في نُزهةٍ ربيعية. شيء ما يشي بأجواء الأرياف الجميلة والفاتنة، يظهر في «بِنُوْمْ بِنْ»، مما يكسبها ألفة وحميمية وبساطة، قلما تتواجد مجتمعةً في عاصمة من العواصم. ولعل هذا الانطباع بريفيتها، يعود للمساحة الكبيرة التي يحتلها نهر «ميكونغ» في مشهد المدينة العام، وما يضفيه من حسٍّ جمالي طاغ بحضور الماء والطبيعة الخضراء، بهذا الثِقَل المتوازن والمؤثر والبهيج. هكذا يبدو هذا النَّهر، كحارس عظيم يضم الحياة بين حناياه كعاضد النور، ويفيض بها على هيولاه المتعددة الألوان والأصول، ويجعلها تُزهر بين أذرعته الطويلة التي تُطوِّق خَصْر كمبوديا كحزامٍ من الكريستال. هذه هي مرايا «بِنُوْمْ بِنْ»، المتعددة والساطعة. إنها مرايا الحياة القائمة على ضفاف النَّهر، تلك التي تشرع أبوابها لفتنة الحواس وشغفها، لتهذيب النَفْس واحترامها، لنعمة البساطة وسحرها، لمتعة السَّكينة وخلاصها، ولكلّ ما يمنح الروح التواقة للانعتاق والجمال والسلام والعيش، مِنْ تجددٍ وإرواءٍ وحبّ وشغف وإغواء. إنها حياة متوازنة في مزاجها الشعبي العام، غير نافرة ولا مُنفِّرة، وقد انحازت بقوةٍ بعد فاصلها الدموي (الحرب الأهلية)، لاحترام شرطها الإنساني. فهي حياة طبيعية جداً، أَمِنَة، ليست مفبركة ولا مُصنَّعة، وليست مثقلة بالتابوهات والعقد والقيود الفظيعة. إنها تجري كما يجري النِّهر بسلاسة وهدوء، وتهبكَ غِبْطتها كما يهطل المطر بغزارة. لا حاجة لديك بأن تزاود عليها في شيءٍ، بل عليك أن تتمتع بما تهبك إياه من حياة فاتنة. فهي تمنحكَ العافية بسهولة ويسر، أنت الزائر العابر في أرضها، وتصون روحكَ من التآكل والتلف، وتجعل قلبكَ وجسدكَ يفيضان بالبهجة والمحبة. إنها تنتمي لتلك الحيوات التي تساعد على إطالة العُمر، وتوسعة الشرايين المسدودة والضيقة، والتي تروي الظمآن وتجعله يتذكرها كصديقة أو «كعشيقة» في الغالب. إنها باختصار، مدينة الشّمس، والمطر، والمواعيد، والصداقات، والفرح، والكتابة، والتمتع بعبير الأرض، والسَّكينة التي تشبه العافية. (2) موزاييك الثقافة الكمبودية ولكن هذه الحياة الفاتنة والرفيعة، من جانب آخر، لم تتأتَّى من فراغ ولا هي نتيجة المصادفات القدرية، وإنما هناك عوامل تاريخية مؤثرة نحتت الثقافة الكمبودية، وجعلتها تظهر على ما هي عليه اليوم. فهناك خمسة عوامل تاريخية، رسمت موزاييك الثقافة الكمبودية كلها، في ماضيها وحاضرها، وأسهمت في تطورها وصقلها عبر القرون، والتي يمكنني إيجازها فيما يأتي: أولاً، تأثر الثقافة الكمبودية، في فترة ما قبل التاريخ الكمبودي، والتي تعود إلى أواخر الألفية الثالثة قبل الميلاد، بكل من الثقافة الهندية والصينية بشكل كبير، وذلك على مدى أكثر من 2000 سنة. الأمر الذي جعلها، تنقل الكثير من خصائص تلك الروافد الغنية الوافدة عليها وتصهرها في ثقافتها الخاصة، ثمّ تقوم تالياً بنقلها إلى البلدان المجاورة (مثل تايلاند، فيتنام، ولاوس). ثانياً، ظهور ثقافة عصر «الأنغكور» الكمبودية، التي تعتبر من أكبر الحضارات قبل الصناعية في جنوب شرق آسيا، والتي ازدهرت إمبراطوريتها على يد شعب الخمير الحمر، بين القرن السادس إلى القرن الخامس عشر ميلادية. ولقد اشتهرت هذه الثقافة الإمبراطورية، بقوتها العسكرية والتنظيمية ونفوذها الكبير في المنطقة إبّان ازدهارها، ولقد أنشأت سلسلة من العواصم في تلك الحقبة المهمة. كما أنها تميزت بالطريقة الفريدة، في الكتابة وتسجيل الكتب والتعاليم المقدّسة على أوراق «نبات ترا»، والمحافظة عليها من الرطوبة وجو الغابات. وكذلك، عرفت برقصاتها الكلاسيكية الدقيقة، والأنيقة، والرشيقة، والمسمّاة: «إبسارا». فهذه الرقصات القديمة، كانت تؤدى دائماً في الطقوس الملكية، حيث تطورت كصلة مع العالم الروحي، مثل رقصة «روبام إبسارا»(الراقصون السّماويون). لقد مرّ الآن، ألف سنة تقريباً على ابتكار هذه الرقصات المميزة، والتي تعتبر من الفلكلور الفني لكمبوديا اليوم. كما اشتهرت بصناعة الحرف اليدوية وصناعة النسيج، وبالأخص صناعة الرداء الحريري التقليدي «كراما». أما إضافتها الكبرى، فقد كانت في أسلوب النحت والهندسة المعمارية الفريدة، والتي تمثلت في معبد «أنكور وات» التاريخي، والذي كان في السابق معبداً هندوسياً مكرساً للإله الهندوسي «فشنو»، قبل أن يتحول إلى معبد بوذي بعد ذلك. فهذا المعبد الذي أصبح رمزاً لكمبوديا وتظهر صورته على علمها الوطني، والذي يؤمه الآلاف من السُّيَّاح سنوياً، حيث أدرجته منظمة اليونسكو في قائمة المواقع الثقافية العالمية المهددة، يعتبر من أكبر الشواهد الحيّة على حقبة «الأنغكور»، حيث تنتشر نماذجه الآن في معظم المدن الكمبودية والتي بلغت ألف معبد. ثالثاً، بوذية «الثيرافادا» (والتي تعني «طريق الأقدمين»)، وهو مذهب من المذاهب الثلاثة في الديانة البوذية، بجانب «المهايانا»(المركبة الكبرى)، و»الفاجرايانا»(الكتب المقدّسة). فهذا المذهب الذي يمجد البساطة والحرية الشخصية وغيرها، والذي يظهر جلياً في سمات الشخصية الكمبودية، قد ظهر في كمبوديا في القرن الثالث عشر ميلادية. وذلك عبر الرهبان القادمين من سريلانكا، حيث أصبح هو الدِّين الشعبي الذي يدين به 90% من الكمبوديين. هذا مع العلم، بأن هناك يوجد في البلاد أيضاً، تعداد كبير من المسلمين «التشام»، والتي تعود أصولهم إلى مملكة «تشامبا»، التي أقيمت بين القرن السابع والخامس عشر ميلادية. إضافةً، إلى وجود العرقيات الصينية، والفيتنامية، وقبائل وثنية صغيرة. رابعاً، الدور الكبير الذي لعبه النمط الثقافي الفرنسي، والطابع الكوزموبوليتاني الذي أضفاه على الثقافة وحياة المدن، وذلك إبّان فترة وصايته على كمبوديا (-1863 1953)، حيث أديرت البلاد كجزء من مستعمرة الهند الصينية الفرنسية أنذاك. وذلك قبل استقلالها عن فرنسا في 9 تشرين الثاني 1953، وتحولها مؤخراً إلى دولة ديمقراطية تعددية ذات نظام ملكي دستوري. ولعل من أسوأ المراحل التي مرت بها كمبوديا، قبل التحول الديمقراطي، هي أيام الحرب الأهلية في سنوات السبعينات، إبّان الحكم الوحشي لنظام الخمير الحُمر الماركسي، بقيادة الجزار «بول بوت» أو الملقب «بالأخ رقم 1»، الذي قَتَلت عصاباته في أربعة أعوام فقط (بين عامي 1975 – 1979)، نحو مليوني شخص. فلقد كانت سنوات الرعب تلك، من أحلك الفترات وأكثرها قسوة ودموية في تاريخ كمبوديا، حيث كان يُقْتل المرء فيها (ولنتصور ذلك!!)، لمجرد السؤال أو الاستفهام، أو لمجرد البكاء الذي كان ممنوعاً، أو حتّى ارتداء نظّارة طبية كان يعتبر علامة على أن صاحبها متعلّم أو مثقف (أي برجوازي)، ويجب إعدامه أو إرساله إلى «حقول الموت» أو إلى سجن» تول سلينغ» الرهيب. لهذا فإن محاكمة رموز من كانوا وراء المذابح العرقية والجرائم المخيفة مؤخراً، قد جاءت كخطوة ضرورية لتعزيز التوجه الديمقراطي في البلاد، والتخلص من الآثار السلبية المدمِّرة في نفوس الشعب التي تركها النظام السابق، وإعادة الحق لدم الأبرياء الذين مُزِّقوا شرّ تمزيق في تلك المرحلة المرعبة. خامساً، رياح العولمة الجديدة التي اجتاحت العالم بأسره، واجتاحت كمبوديا كذلك. فلقد عملت على الاستفادة من فوائدها اقتصادياً، وسياسياً، وثقافياً، وتكنولوجياً. فعلى الصعيد الثقافي مثلاً، وكما ورد في تقرير «الجمعية البرلمانية الآسيوية»، فإن كمبوديا وبعض دول آسيا عموماً، تركز على مجال التنوع الثقافي، وتشدِّد على الحاجة إلى التثقيف لغايات حماية هذا التنوع الضروري ذاته، في وحدة وطنية ديمقراطية متنوعة. وذلك لضمان احترام حرية المجموعات والطوائف الإثنية والدينية، في ممارسة عاداتها ومعتقداتها والتعبير عن ثقافاتها. وأيضاً، من أجل الحفاظ على استمرارية البلاد، وحمايتها من عودة النزاعات الطائفية القديمة من جديد. كما أنها تركز على سياسة السِّياحة الثقافية، بوصفها أداة فاعلة في توفير الدوافع والمزايا للناس، وتعزيز احترام التنوع الثقافي، والعمل على تحسين الاحترام المتبادل والتفاهم بين الحضارات والثقافات. غير أن كمبوديا، وكما ورد في التقرير نفسه، تواجه تحديات عولمية عديدة، منها القصور في تمويل جهود تعزيز الثقافة، والقصور في فرص التشبيك والتعاون الدولي في هذا المجال، والقصور في المعلومات والمعرفة لحماية تنوع الثقافات. ولعل أهم تحد تواجهه كمبوديا اليوم، بجانب تلك التحديات، هو تهريب الآثار الثقافية الكمبودية إلى خارج البلاد، والتي نجحت – إلى حد ما -المساعي الحكومية فيها، إلى استرجاع بعض هذه الآثار المسروقة. هذه هي باختصار، مداميك الثقافة الكمبودية عبر العصور، والتي يتكشف من خلالها وجه كمبوديا الظاهر والخفي. (3) في ضِيَافَةِ ماءٍ ساكن إذن، وعودة لروحانية النَّهر العظيم أقول: قد تشاهدهُ من نافذة الطائرة، من ذلك العلو الهائل والمفتوح كهاوية، وأنت تهبط وسط غيوم متخاصرة إلى مَدْرَجِ المطار، حيث تجده متمدِّداً تحتكَ كتنِّينٍ عظيم. وقد تسكن على بعد خطوات منه فقط، وتُساكنه، وتكحل عيونك بمرآة يومياً، وتمشي خفيفاً ومتمهلاً على ضفته، وتجلس على حافته بين الحشود المتناثرة هنا وهناك، محدِّقاً في مشهده البانورامي المتعاظم الذي يوحي إليك، بأنك أمام لوحة انطباعية وليس في مشهد طبيعي. وقد تصعد في المساء مثلاً، إلى « شرفة القمر» العالية، شرفة العشاق والأصدقاء والعائلات، في عِلِّيةِ فندق «أَمَنْجَايا» الحميم، لتجد نفسكَ واقفاً بين مطلقين: سماء مرصعة بالنجوم أو بالغيوم، ومياه سوداء تجري أمامك بلا حدود. وقد يأخذك سائق» التُكْ تُكْ»، في جولةٍ من المتعةِ الخاصة، على طول شارع النَّهر الطويل، المزدحم بالمقاهي والمطاعم والفنادق والحانات والمتاجر والمعابد والبيوت، في الجو الصحو أو الماطر، في اللّيل أو في النهار. وقد تنزع عنك حذركَ التافه وتوتركَ البغيض، الذي تفرضه عليك عادة بعض المدن المحافظة أو البوليسية، تاركاً جسدكَ يرتجل لحظته ومسراته في شوارع المدينة، بينما أنت تسير بعفويةٍ بالغةٍ كشراعٍ يتهادى بين أمواج بشرية. الحياة تراها من حولكَ وبين عينيك، تفيض بالوعود. إنها تفيض، وتستيقظ، وتدبّ، وتسيل، وتضج، وتفور، وتغوي، وتصفو، وتشِّف، وتتجدّد مع إيقاع النَّهر البِلَّوريّ، ثمّ تتغطّى بسكونهِ البرزخيّ وتنام على ضفتي مدينة «بِنُوْمْ بِنْ» الساحرة، في آخر اللّيل. هذا هو نهر «ميكونغ» الكبير، النَّهر الأصفر، أو «النَّهر العظيم»، والذي ينحدر سيله مِن منطقة «سقف العالم»، أي من مرتفعات هضبة التبت، ليخترق بذلك حدود الصين، تايلاند، لاوس، كمبوديا، وفيتنام. إنه أحد أكبر أنهار قارة آسيا والعالم. يصنف على أنه السابع في آسيا، والعاشر عالمياً من حيث الطول. لا ينصح بالسباحة فيه مطلقاً، بالأخص في مجراه الكبير وليس في تفرعات دلتاه وروافده التي لا تحصى، لأن به تكثر دوامات الماء القاتلة. كما أنه يعتبر من الأنهار النادرة، التي يعكس فيها تياره مجرى اتجاهه. ها أنا إذاً، أقف الساعة أمام قصيدة النِّهر الكبيرة، أمام مشهده المُهيب، وأتهجَّى لغته وصوره وخريطته السرِّية وليتورجيّاه (طقوسه)، المشحونة بالحياةِ والغِبْطَةِ والسكونِ والتحوّل. الهواء المداري المُنْعِش ينفخ أوداجي، فيما عيوني تتأمَّل هذا اللِّسان المائي الوهَّاج الذي يخترق ستّة دول آسيويّة، دفعة واحدة، ولا تُسْمَع له موجة واحدة تتصادى على ضفافه. كأنما سكون النَّهر أَشْهَدَنِي واشْدَهَنِي، وقادني إلى مملكة مياهِهِ المباركة، التي حملتني في قاربها المصنوع من العُوْدِ الكمبوديِّ الثمين، إلى ما وراء الضجَّة والضجيج، وهَدْهَدَنِي. هَدْهَدَ روحي، وأعضائي، وسَرِيْرَتي، وأنَايَ، وأضاء ذِهْني ومخيلتي وبصيرتي. ولقد شعرتُ بأن روح النَّهر قد انبعثت فيَّ خِفْيَةً، وبأنها قد اجتاحتني وهزّت كياني من الأعماق، ومنحتني الإحساس الغامر والفائض، بمعنى المساكنة العذبة قرب نهر عظيم. شيء مثل الإحساس بالحبّ، مثل التَّوَضُّؤ بالسَّكِينة، مثل ولادة جسم ما فوق طبيعي، روحاني، خرج منّي وهيمن عليَّ، وجعلني في حالة من الانخطاف والتوهج والاطمئنان والهدوء. كأنما هذا الماء، الماء المرعب في فيضانه، والأسطوري المقدّس في صمته وسكونه، قد أحْيانِي وجَدَّدَنِي وكلَّمني. عن سَكِينة النِّهر إذاً سأتحدث، عن وجهه الخرافي، عن شعريته الملوّنة بالمرايا، وعن مياهِهِ المهاجرةِ التي تذهب مرة واحدة إلى حال سبيلها ولا تعود. عنه سأكتب، عن إرادة جريانه المستمر، عن غبطته المذهلة والمُرَوْحَنة، وعن روحهِ الفائضة التي تُأَنْسِن الأشياء كلها، بما فيها الطبيعة والإنسان والبلدان والديانات والثقافات، وتصبح الحياة على حِسِّه وحضوره ولادة جديدة متجدِّدة. هكذا مثلاً، لا تكون حكاية الأنهار العاشقة والمعشوقة، مجرد فاصل مجازي في حكايات ميثولوجية، وإنّما هي أيضاً تتحقق على أرض «الأباتيا» (الواقع)، وتتجسّد في ذلك العناق العميق الذي يجمع بين الروح الإنسانية الذاهبة إلى شغفها واستنارتها وتحرّرها، وبين روحانيّة الأنهار السَّاجِيَة والمندفعة بفرحها وصمتها نحو مصبّاتها. كأنما النَّهر نهران: نهر مياه ونهر معنى، نهر سكون ونهر فيضان، نهر مادة ونهر إحساس، نهر ثِقَل ونهر خِفَّة، نهر تذكر ونهر نسيان، نهر فرح ونهر ألم، نهر تيارات جارفة ونهر حياة دائمة. هكذا، يمتحن النَّهر زواره، ويفرِّق بين مَنْ يُلقي عليه تحيّة خاطفة ويمضي، وبين مَنْ يُلقي بجِلْدِهِ القديمِ على مذبحه ويكتسي بالجديد. أليس النَّهر هو عنوان الجديد، عنوان النقاء، عنوان الطُّهر، عنوان اللَّحْظة التي تمضي ولا تعود مطلقاً؟ فكيف يَسْتَوْحِلُ النّاس إذاً، ولا يتعلّمون منه ولا يتجدَّدون بتجدُّده؟ وجه من الغيب... (4) ابتسامة النَّهر المذهلة غير أن الأمر لم يكن متوقعاً، ولا حتّى في الأحلام، عندما رأيتُ أو تخيلتُ بأنني رأيت، تلك الابتسامة الهائلة التي صعقتني وأحدثت فيَّ هزة عنيفة! لقد كنتُ أُطِلُّ من شُرْفتي على مشهدِ المدينة الهادئة، في تلك الصَبِيحة الكمبودية المشرقة، حين لمحتُ فجأة وجهاً باسماً وجليلاً، كما لو أنه قد جاء من الغيب. لقد رأيتُ وجهاً ارتسمت ملامحه أمامي بوضوح كامل، هناك، على صفحة مياه النَّهر مباشرة. بين مصدِّقٍ ومُكذِّبٍ، فركتُ عينيَ، ثم حدّقت ثانية! ولكن لا شيء قد تغير، فالوجه ظل كما هو، بل أخذت ابتسامته تزداد لمعاناً وتوهجاً كنجمة الثُّريا. احترتُ، ولم أعرف ماذا أفعل؟ غير أنِّي شعرتُ بأن قوّة ما، قد ألجمتني وسَمَّرَتني في مكاني، وجعلتني أحس بالانخطاف، في لحظة لم أحدد مدّتها، حتّى بدت الصورة من تلقاء نفسها تتلاشى رويداً رويداً، كما لو أن النَهر قد ابتلع وجهه للأبد. لم أودُّ حقيقة، أن أصحو من ذلك الانسحار الفاتن الذي انتابني، ولم أشأ أن يغيب عني ذلك الوجه بتلك السرعة. فما شعرتُ به هو شيء لا يوصف، وكأن جميع التوترات والآلام والأشواك والذكريات السيئة التي في داخلي، قد نُزعت منّي بمسحة واحدة. ولقد أحسست بأن دماً جديداً صافياً قد ضخ في عروقي، وأن طاقة حيوية قد تفجّرت فيَّ، وجعلتني أكون في قمّة هدوئي وتوهجي. لذا وما أن انقشعت الغلالة الشفيفة من عينيَ، حتّى تلفَّتُ وألقيتُ ببصري في الأرجاء، إلى الأعلى وإلى الأسفل، وكأني قد استيقظت من حلم جميل. لقد بقيتُ صافناً لبرهةٍ في مكاني، ثم أخذت أمشي كالمسرنم، على مدار التِّيْرَاس الطويل لغرفتي المطلة على النّهر من جهتين، فارتطمت رجلي بأصيص الشجيرات الصلصالي وانجرحت. لم أشعر بالجرح، فلقد كنتُ أبحث عن مصدر هذه الصورة العجيبة والمدهشة التي رأيتها للتوّ. ولكن، لا شيء من هذا أيضاً! فصورة الوجه الباسم التي تبدّت لي، لم تكن بفعل فاعل، ولا هي بالخدعة البصرية التي يمكن لبروجيكتورات العرض صُنعها مثلاً، وإنما كان مصدرها النَّهر ذاته. إنها وجهه، وابتسامته، وصورته هو وحدهُ فقط! سألتُ نفسي، بعد أن ضَمَّدْتُ جُرحِي، واسترخيت على الكَنَبَةِ مغمض العينين: ما معنى رؤية وجه نهر مبتسم؟ ما هي الرسالة أو الإشارة الخفيّة، التي أراد النَّهر إيصالها إليَّ، يا تُرى؟ في البدء، استبعدت من تفكيري تماماً، إن كان ما قد رأيته حقيقةً أو وَهْماً؟ فهذا الأمر، لم يعد – في تلك اللّحظة - يعنيني في شيء. ولقد قلتُ لنفسي: هناك في الحياة، أشياء نراها ونشعر بها، وأحياناً نؤمن بها، غير أننا لا نجد لها تفسيراً مقنعاً يناسب منطقية عقولنا الصغيرة، التي لا تستطيع أن تحيط باستيهامات وخفايا كل شيء. نعم! إن العقل محدود مهما ضخمناه وبالغنا في تمجيده، وأن حضور «اللاوعي الميتافيزيقي» أو «اللاوعي الكوني» لهو أكبر بكثير، من منطقيات العالم كلها. كما أن الإنسان في الأساس، لا يعيش وفق نظريات وتعريفات وآليات المنطق العقلي فقط، وإنما يعيش الحياة أيضاً بألغازها، وأسرارها، ومجاهلها، وحدوسها، ومشاعرها، وشعريتها، ولاوعيها. أي أنه يعيش بلحمه وعظمه أيضاً. وهذا بالضبط، ما يجعل الإنسان إنساناً يعيش الحياة ذاتها، وليس كدُمْيَةٍ أو كآلةٍ تعيش وتعمل في مصنع. إنها حكمة الشرق الكبرى، التي لا ترفض التفكير العقلي ولا العقلانية، ولكنها أيضاً تمجد الإدراك الحسِّي واللاعقلانية، في فهم النَفْس والحياة والعالم. وعليه، فإنه من الأجدى لي في هذه الحالة، ألا أُضيع وقتي في تساؤلات عبثية، وأن أتتبع مغزى صورة النَّهر نفسها، وما تشي به من معانٍ وحمولاتٍ وأفكار. فما الذي رأيته بالضبط؟ لقد رأيت وجهاً ضخماً جداً يحتل عرض النَّهر تماماً، كما لو أن أشعة من السَّماء قد أُرْسِلَت، لتعكس صورته على صفحة الماء الهادئة والصافية كمرآة. وجهٌ أسطوريٌ مدهشٌ، يفيض حياة من فرط ما هو حيّ وحيوي. وجهٌ قديم، كما لو أنه آتٍ من وراء آلاف القرون، ولكن بَشَرَتهُ طرية ونَضِرة وخالية من مظاهر الشيخوخة. وجهٌ بيضاويّ الشكل أمرد، بلا لحية ولا شارب، وتقول بأنه قطرة ماء ضخمة. له شَعْر أخضر طويل يشبه أغصان اللِّبلاب، ويمتدّ في خلفية الصورة إلى ما لا نهاية. عيناه واسعتان ومضيئتان بشكل ساحر، كهلالين ساطعين على سطح بحيرة نائمة. لون جِلْدِهِ يميل للصُّفْرةِ، مثل رمال قاع النَّهر الذّهبيّة تماماً. فمهُ مطبقٌ ويَنِدُّ عن ابتسامةٍ دافئةٍ وغامضةٍ، هي أشبه ببقايا ضحكةٍ قديمةٍ أطلقها النَّهر يوماً، وبقت ملامحها مرتسمة على محياه كغِبْطَةٍ أبدية. هذا هو إذاً الوجه الذي رأيت، في تلك الصبيحة الكمبودية الرائعة التي لا تنسى. الوجه المغتبط، المضيء، الباسم، لنهرٍ يتابع جريانه بهدوء غامر، ويشيع السَّكينة في محيطه الواسع، كما أشاعها في نَفْسي تماماً. هذا الوجه القادم من خلاصات نيرفانا المياه الجارية، المياه التي تهب الحياة وتجعلها مستحبّة وممكنة ودائمة، ولها طعم ولون ومعنى. خليط من السّحر والتوهج والانشراح وصفاء النَفْس والسَّكينة، ما يصلك من النّهر ويجعلك تنتقل إلى عالم آخر، ترى فيه نفسك والعالم من حولك بصورة أفضل. شعور يجعلك في ألفة مع الطبيعة، ومع ألق مدينة «بِنُوْمْ بِنْ» الرائعة. وقد تقول لنفسك، وأنتَ تغرق في شاعرية الماء «المُعَمِّر» وصمته الظليل: كأنما هذا النَّهر القديم، وهو في سكونه واغترابه، قد كَبُرَ على الأحقاد والعداوات والحروب، ولم تعد روحه تتماشي مع جنون العالم، وقبحه، وقسوته، ودمويته. ففي عالم مثل عالمنا هذا، أصبحت الحياة فيه منكوبة بضجيج الكراهية، والفساد، والأحقاد، والمجازر، والاقتتال اليومي، والإرهاب، والتوترات العالية، والانحطاط الديني البغيض، وعربدات الموت المجنونة. أقول: يبدو هذا النّهر في المقابل، قد انتأى بنفسه بعيداً، عن كل هذه الأذيات القاتلة، ومضى نحو الجهة الأخرى من العالم. جهة الحياة المُخْصبة، المتجددة، والمشرقة التي خلقها هو بنفسه، وترك آثاره فيها حيّة عبر العصور. لهذا، وفي أوضاع مضجرة وملتهبة مثل هذه، يكون البحث فيها عن ملاذات آمنة، تمنحنا الهدوء والسَّكينة والطمأنينة والفرح، مطلباً حياتياً ضرورياً. وذلك حتّى لا ننسى طعم الحياة على الأقل، وحتّى لا نسقط صرعى جراء نهيق تلك الوحوش الجهنمِّية. إن الحديد وهو الحديد، لو تعرض لكل هذه المهالك يومياً، لذاب في مكانه من فرط حرارتها وسقط، فكيف بآدمي من لحم ودم؟ ثمّ إذا كانت هذه هي حال مَنْ يرى ويتابع من بعيد، فكيف هي إذاً حال مَنْ يعيش النكبة في مكانها المنكوب؟ هكذا، دفعتني رؤية ابتسامة النَّهر المفاجئة تلك، لأن أتتبع أتاراكسيا** الماء الآخر من التكوين. الماء المُرَوْحَن، النقي، الذي تولد منه الحياة وتشرق، وليس الماء الملوث بالدَّم والقذارة، الذي تغرق فيه الحياة وتُقْبَر، أمام مرأى ومسمع العالم كله!؟ (5) خارج سَكِيْنة الرُّهبان في «بِنُوْمْ بِنْ»، هناك خصيصة غامضة وبالغة الأهمية، قلما يلاحظها الناس عادة، ألا وهي: تلك العلاقة الخفية التي تربط بين سكينة النَّهر الطاغية، وسكينة المعابد البوذية المنتشرة في المدينة، وفي كمبوديا كلها، والتي عادة ما تكون محاذية أو قريبة من مجرى النَّهر. تماماً، مثل معبد «هُوْب كُنُو»، لتعليم وتأهيل رهبان بوذية «الثيرافادا»، والذي يقع أمام محل إقامتنا مباشرة. فلقد لاحظتُ وبتمعنٍ شديدٍ، وفي كل الأوقات، بأن المنطقة التي تمتدّ من واجهة المعبد على شكل ساحة عامة واسعة لا يحجبها أي شيء عن مرأى النَّهر، والتي يستريح على طرفها تمثال بوذا المذهب، هي منطقة تخضع حسيّاً وهندسياً لنوع من التجاذبات المغناطيسية للسَّكِيْنَة. فبين هذين المَعْلَمَين، الطبيعي/ النَّهر والمعماري/ المعبد، ثمة حركة أثيرية منسابة من الإرسال والتراسل، تُحس ولا تُرى، تربط بينهما روح السَّكينة بشكل كبير للغاية، بحيث تضفي على المكان شيئاً من الطمأنينة والانشراح والوقار والاستقرار والهدوء المقدَّس، خاصة في أواخر اللّيل. إذْ لا ضجّة ولا بلبلة ولا إزعاج ولا صرخة بالخطأ حتّى، تأتي من النَّهر أو من المعبد مطلقاً. فالنَّهر ممتلئ بالسفن في مجراه، وبحركة الناس والأصوات والموسيقا والعربات والدَّراجات على ضفَّتيه، ولكنه يبتلع هذه الأصوات كلها ويظل محتفظاً بسكونه. والمعبد هو أيضاً، يغص بالرُّهبان والكهان، الذين تراهم يظهرون في النهار بأرديتهم البرتقاليَّة والبُنِّية الفاقعة، ويعودون ليختفوا في داخله عند حلول مغيب الشَّمس تماماً. غير أن المعبد يعطيك الانطباع دوماً، بأنه أشبه بقصر خاص أو بمتحف قديم، من فرط صمته وسكونه وغموضه وسرِّيته. نحن إذاً أمام متوازيات غنية لهندسة السَّكينة الروحانية والمكانية في كمبوديا: سكينة الطبيعة والحياة الفطرية - النَّهر، وسكينة الدِّين المصنوعة على مستوى التعاليم والتربية الدِّينية - المعبد. لكن هذا التماهي في حقل التجاذبات التداولي ما بينهما، لا يخدعنا، ويمكن لنا أن نميز ما بين سكينة وأخرى. فالأولى، يمكن القول: بأنها تمثل الحياة المفتوحة والشغوفة التي تبعث على السَّكينة، بينما الثانية، تمثل السَّكينة التي تفر وتهرب من الحياة نفسها. وهذا فرق جوهري بينهما؟ إن سكينة النَّهر، هي سكينة عارية، مكشوفة الغطاء، واضحة كالشَّمس، مباشرة، لا تلبس قناعاً ولا تتخفّى وراء جِلْدها. إنها تُولد من هدوء النَّهر وصفاء مشهده، وتخيم فوق ظهره كهالةٍ تلباثيّةٍ تبث موجاتها في الجهات الأربع. هكذا، في الهواء الطلق، وفي قلب صخب الحياة ذاتها. غير أنها لا تكتفي بالبث والحضور فقط، وإنما عبر إشاعتها للاطمئنان والانشراح والهدوء في النفس وفي المكان، تمنح الحياة معنىً وتضفي عليها رونقاً وتساعد على فهمها وحبِّها واحتمالها. إنها سكينة طبيعية، عفوية، وصافية، كأي منظر طبيعي يوحي بالسَّكينة، ويمكننا أن نستمتع به ونستلذَّ بمباهجه. فهي لا تنفر من الحياة، ولا تمتعض منها، ولا تكرهها أو تهرب منها، ولا تشترط على نفسها أمراً من الأمور أو فرضاً من الفروض مطلقاً. لأنها ببساطة، سكينة حرّة ومحررة، تصل للجميع ومتاحة للجميع، ومفتوحة لكل من يرغب في نيل قسط من الراحة والطمأنينة ويحقق الصفاء والمتعة الداخلية لنفسه. لهذا فهي تعمل بصمت، مثل والِدها النَّهر تماماً، وتؤدي واجبها من دون أن تكون لها مطالب، أو تعاليم، أو برامج، أو أهداف، أو رغبة في الوصول إلى أي شيء. إنها طاقة إيجابية كونية مكتملة بذاتها، ولا حاجة لديها لأن تفرض على من يطلبها أي شيء، كي يتحقق له شرط معرفتها والإحساس بها والتمتع بصحبتها. إنها سكينة خالصة، كماءٍ نقيّ خالص، تهبها إلى تلك النفوس التوَّاقة والشغوفة بالحياة، من دون أن تنتظر من أحدهم أي مقابل. فقط، عليك أن تكون مستعداً، لاستقبال الجمال الصامت بصمتٍ مماثل. بينما سكينة المعبد، فهي سكينة جدران عالية وأبواب مقفلة وحرَّاس إيمان. إنها سكينة محجوبة، ومحتجبة، ومنقَّبة، وتتم في العتم والزوايا. فهي سكينة متطلبة ومعقّدة، وتخضع لقواعد كهنوتية: من تعاليم، وطقوس، وطاعة، والتزام، وعقاب وثواب، وغيرها. إنها سكينة رهبان ونُساك ومتصوفة، من يبحثون في معابدهم وخلواتهم عن «المثال الزّهدي»، كما يسمِّيه نيتشه، والذين يحتقرون الحياة ويعادون إغراءاتها ومباهجها وينفرون منها ولا يحترمونها، وذلك عبر اتباعهم وسائل رهيبة مثل: «القسوة تجاه أنفسهم» و»الإماتة في أبرع أشكالها». السَّكينة إذاً، السَّكينة الذَّهبيّة التي تتبدى لي الآن، والتي استمد طاقتها من هذه اللَّحظة النَّهرية المؤثرة، لا تدعو للانخراط في سلك الرَهْبَنَةِ والتَنَسُّكِ، ولا تنادي بإهمال الجسد وتجويعه واعتباره مجرد رماد، ولا تنظر للحياة والأشياء بتقزز ولا مبالاة، ولا تنعزل عن هموم العالم وقضاياه. كما أن هذه السَّكينة ذاتها، لا تحرض على هجر النساء والابتعاد عنهن ومعاملتهن كالمرض الذي يجب الشفاء منه، كما نصحني بذلك الراهب التايلندي الذي حاورته ساعة كاملة على ضفَّة النَّهر، ولم يقنعني بشيء. لا، ليس هذا فهمي وخياري للسَّكينة التي أنشدها أنا الآن، في هذا الفَلَق الكمبودي البهيج. كما أنني لستُ بحاجة لأن ألبس رداء الرهبان، ولا عمامة المتصوف، ولا أسمال الدراويش، مع احترامي لكل هؤلاء، كي أصل إلى ما أريده وما أبتغيه من أنوار السَّكِينة. إن سَكِينتي المنشودة تقع في مكان آخر، ولا أعتبرها مطلقاً سَكِينة راهب في معبد، وإنما يمكن القول: بأنها سَكِينة شاعر مع قصيدته، أو فيلسوف مع أفكاره، أو قبطان مع بحره، أو عاشق مع معشوقته. إنها سكينة أقرب ما تكون لحياة الشِّعر والشعراء الذين يبحثون عن نداء الحياة، في دواخلهم وفي الكون برمته. إنها سكينة العشق، والإغواء، والتلذّذ باللَّحظة الكونية، والمساكنة المؤنسنة للأشياء والكائنات، والبساطة العميقة، والاستبصار الحُلمي، والعيش في الحياة بشغف وهدوء وسلام داخلي، من دون أوهام زائفة أو إقصاءات كريهة وبغيضة ومتعنته. إنها فوق هذا وذاك، سكينة تساعد على اكتشاف جمال ما هو منسي، وضائع، ومهمش، وعابر، وزائل، وخالد، فينا وفي كل شيء حولنا، تماماً كما يصطاد هذا الصيّاد الكمبودي سمكته أمامي ويفرح بها، ويجعلني أبتسم لفرحه. لقد صدق حقاً من قال: بأن ما هو روحي يتجاوز بكثير ما هو ديني، لأن ما هو روحي يوجد في كل شيء وفي الكون بأسره، ويمثل الطاقة العظمى المحركة له. بينما ما هو ديني يحصر نفسه دائماً، وبشكل متحجر في الغالب، في المعتقد والطقوس والنصوص، ويتناسى أو يتجاهل متعمداً ما هو روحي في الدّين. كما أن الروحاني ينظر للبشر ككائنات روحانية في جوهرها، ولا يصنف ما تؤمن به إلى مذاهب وطوائف وملل وطقوس وألوان وجنسيات وغيرها، ولا يسعى أو يفكر حتّى إلى تكفيرها أو اضطهادها أو محاربتها أو قتلها كلما اختلفوا معه، كما تفعل جميع الحركات الدينية المتطرفة اليوم. وعليه، فإن غياب الفهم العميق لكل ما هو روحي، في الدّين أو في سواه، هو ما يساهم بقوة في تجفيف روح الأديان وتصحر الإنسان، وتحويلهما بالتالي إلى ميادين مفتوحة للدَّم والعصبيات والعداوات. إن سكينة مفعمة بروح متوثبة مثل هذه إذاً، يقوم المرء على تربيتها وأنسنتها ورعايتها والسَّهر عليها مثل نخلة وارفة، وتكون مرفوقة لديه بامتلاءِ الفكرِ وغِبْطةِ الشِّعرِ ومحبة البشر، هي لعَمْري لِذَّة الحياة ولذِّة الكتابة ولذَّة الحرية المُحررة والمبدعة. فإذا كانت الطمأنينة لا توجد من دون سكينة داخلية مهيأة وحاضنة لها، لأن الطمأنينة هي نتيجة السَّكينة وليست سبباً لها. فإن الحرية كذلك لا تنتج حرية دائماً، كما يتوهم البعض ويعتقد، خاصة عندما تكون دواخل المرء في الأصل مظلمة ومسورة بسجون الرجعية والجهل والتخلف والاحقاد والعصبية. إن حرية من هذا النوع، ليست سوى حرية مشوهة، مبتورة، بلا لون ولا رائحة ولا طعم، بل هي في نهاية المطاف ليست سوى حركة انتقال مؤقَّت، من عبوديةٍ سيِّئةٍ إلى عبوديةٍ أسوأ منها وأَمَر، ومن استبدادٍ ممقوتٍ إلى إرهابٍ محتقرٍ وبغيض. هكذا، تصبح الطمأنينة بلا سكينة، كذبة وتزويراً ملفقاً، كما تغدو الحرية نقمة وليست نعمة، عندما يكون فهمنا لها قاصراً ومشوهاً ومبتوراً في الأساس. لأن بلوغ الحقيقة، أي حقيقة كانت، كما نبهنا رونيه ديكارت منذ زمن طويل، يقتضي أولاً ضرورة العلم بالطّريقة أو القواعد التي تُوصلنا إلى الحقيقة، حتّى لا نبتعد عنها ونشوهها ونفقد معناها الحقيقي، ونتوهم بهذا بأننا وصلنا إليها فعلاً. لذا فالسَّكينة العميقة، وفي نموذجها الأمثل والأجمل، هي تلك التي تنتمي لسكون الطبيعة التي تتطلب منّا الاقتراب منها، ومحبتها وتأمّلها والاندماج فيها والتعلّم منها والمحافظة عليها. هذه الطبيعة التي هي أُمنا وأرضنا وحياتنا وضمانة وجودنا، والتي فصلتنا عنها الحضارة بقسوة للأسف، بعدما لوثتها بآلاتها ومصانعها واستغلتها أبشع استغلال. إن الوصول إلى مملكة السّكِيْنَةِ، سَكَينة النَّفْس والروح والحياة والكتابة معاً، تبدأ من معرفة سكينة الطبيعة أولاً، أو ما يسميها معلّم الزِّن الياباني سوزوكي: ب «العقل الكوني». إنها سكينة الجبال، والبراري، والبحيرات، والكواكب، والأنهار، والبحار، والغيوم، والوديان، والكهوف، والأشجار التي تتجذّر في الأرض وتنمو بصمت وتعلو في السّماء، وتناولنا ثمارها من دون ثرثرة وتعالٍ ومنّة وغاية. إنها بالضبط، أشبه بسكينة هذا النَّهر الساكن الذي يتمدد أمامي الآن، بشَعْره الأخضر الطويل ولحيته الطِّينية الصفراء المديدة والمغمورة بالمياه الجارية، وهو مفعم بالحيوية والنضارة والحياة والحرية والهدوء والصّمت. إنه هو من يوجد في قلب ضجّة العالم، ولكنه يجري بثقةٍ وطمأنينةٍ وهيبةٍ وامتلاء، ويسمعنا صوته على الرغم من كل هذا الضجيج حوله. إنها أتاراكسيا الماء الجاري والمطمئن، إنها روحانية هذا النّهر الكريم والعظيم، الذي يجلب العافية، والاخصاب، والتجدد، والإرواء، والطُّهر، والعذوبة، والعطاء من دون توقف وبدون حدود. (6) بين النبع والمَصَب إن هذا النَّهر إذاً، نهر «ميكونغ»، وفي فترات هدوئه وسَكِينَته الخُلَّبِية تلك، يبدو بلا أمواج، ولا مَدّ ولا جَزْر، ولا تطفو فوقه رغوات الزّبد. إنه بلا صوت تقريباً، بلا هدير، أو طقطقة عظام حتّى، وتظن بأن هذا الماء من فرط ثقله قد أصبح أخرسَ. إن مشهداً مثل هذا، يجعلك تشعر بأن صوت النَّهر ينبع من دخيلاه، من عمقه المكتوم كالأنين، من شهيقه وزفيره وخلجات نَفْسِه المكبوتة في جوفه والمضخّمة في آذانه. إنه ماء صامت في الظاهر، ثقيل كالزّيت، برغم خفته السائبة كالهواء. فهو في الحالة تلك، لا تراه يثرثر، أو يقرقر، أو يولول، أو يصرخ، أو ينبح، أو يزمجر كالبحار أو المحيطات مثلاً. إن صوته يشبه صوت ضوء الشَّمس الصامت، الذي يحتاج لحواس عشر مستيقظة، كي تسمع موسيقاه الخفية التي تتردّد في ظلام الأعماق، تماماً مثلما ينام النائم ويسمع أصوات أحلامه تتردّد في رأسه. شيء ما يجعلك تتصور، وأنت تلقي بنظرك شطر النَّهر، بأنك تقف أمام كائن يصلِّي أو يتمتم في سرّه، ولكن من دون أن يفتح فمه. لأن فم النّهر، وكل نهر أيضاً، يوجد في مكان بعيد جداً عن نقطة وصوله أو مصبِّه. إنه يوجد بالنسبة لنهر «ميكونغ»، في منبعه الأصلي، في مرتفعات هضبة التبت تحديداً. لذا فإن هذا السّيل العارم والعابر للبلدان، الذي يخرج من ذلك الفم، ما هو إلاّ ترجمة فصيحة لكلام ذلك النبع ذاته: البعيد، الغائب عن المشهد، المهذار، المتدفق بعنفٍ ساحقٍ، والذي لا يتوقف عن الكلام ولا الخرير الصاخب أيضاً. إنه «كلام من غير علامات تنقيط»، كما يعبر بدقة غاستون باشلار. غير أنه علينا أن نميز هنا، بين لحظتين أو صيغتين مختلفتين لكلام النَّهر: الأولى، هي صيغة الكلام الفيضاني، الاكتساحي، العنيف، الذي تمثله فيضانات النّهر السنوية التي تسببها الأمطار الموسميّة، والتي تتسبب بالكوارث الكبيرة أو الصغيرة، هنا أو هناك. وهذه الصيغة الفيضانية، تتماثل تماماً وتعيد تجسيد الكلام الخارج من فم النّهر مباشرة من جديد، كما لو أنها تقوم بتذكيرنا بكلام النبع نفسه. أي أنها تمثل لحظة تدفق الماء من نبعه، في التوِّ واللّحظة. أما الصيغة الثانية، فهي صيغة الكلام الصامت، الهادئ، الرائق، البطيء، والذي يتشكل في المسافات الاغترابية التي يقطعها الماء، عندما يكون قد ابتعد عن مركز التدفق الرئيسي للنّهر. أي أنه كلام يتشكل في الغربة، في المنفى، في الرحلة الأخيرة، كلما ابتعد ماء النَّهر كثيراً عن نبعه واقترب من مصبِّه. بين هاتين الصيغتين السيَّالتين، الفيضانية والسكونية، يصيغ النَّهر كلامه وصوته ومعناه وأفعاله وحياته وقيمه وعوالمه. إنه بمعنىً آخر، يصيغ لحظة مَهْدِه ولحظة لَحْدِه، ابتداءً من النّبع وانتهاءً بالمصبّ. فالنّبع علامة حياة، بالنسبة للنّهر، والمصبّ علامة موت ونهاية. والنّبع علامة ولادة وتجدّد مستمر، والمصبّ علامة انطفاء ومقبرة. ولكن أيضاً، قد يكون المصبّ مكان تلاقح بماء غريب وهادر. بهذا الشكل إذاً، ومن خلال رحلته من المنبع وحتى المصبّ، يُضحِّي النَّهر بمياهه وبجسده المطري، من أجل حياة الشعوب والكائنات التي تعيش على ضفافه. فهو يدع مياهه تمضي إلى حتفها، لتغيب نهائياً وتتلاشى في ماءٍ آخر، بعيد، ومالح. إن الفعل البطولي العظيم الذي يقوم به النَّهر، في تصوري، يكمن في تلك الروح الافتدائيّة والتضحويّة التي يقدمها من أجل خير وسعادة الآخرين، مانحاً إياهم الحياة من دون مقابل. أمّا مأساويته البالغة المعنى، فهي تتمثل في حلم العودة لديه إلى نبعه الأم من جديد (ولنلاحظ ميزة تغيير مجرى التيار، لدى بعض الأنهار الكبيرة فقط، بما فيها نهر «ميكونغ»). أي رغبته في العودة إلى رحمه الأول أو وطنه الأول، والتي تظهر علاماتها في فعله المكبوت والانفجاري، لحظة فيضانه وخروجه عن مجراه. فهو بهذا الفعل، كأنه يثور ويقاوم مثل المحكوم بالإعدام ضدّ موته المنتظر، ولا يريد الوصول إلى مشنقته/ مصبّه أبداً. غير أن هذا الفعل الفيضاني المكتسح، ولنلاحظ ذلك جيداً، يطّهر النَّهر أولاً - من شوائبه وشحنات سخطه وغضبه المكتوم، كما لو أنه يدفعه للتَّوضُّؤ من الدَّنس. كما أنه ثانياً، يعيده من جديد، إلى هدوئه وسكينته وصفائه، ويجعله في حالة استسلام لقَدَر مصيره السائل والمحتوم. هكذا، تتحدّد أفعال النَّهر إذاً، في رمزيتين كبيريتين هما: البطولة والمأساة، الهبة والتضحية، السكون والهياج، النبع والمصبّ أو الحياة والموت. (7) الواهب الأعظم إن النَّهر بهذا المعنى، يبدو ككائن خرافيّ مكتمل بكمال كينونته، مكتف بذاته وفائض عن ذاته. يَهَبُ بلا مقابل وبلا مِنَّةٍ، ولا يُذكِّر بما وَهَبْ. وجوده هو وجود الحياة الفائضة ذاتها، حياة الكَرَم والكرامة، حياة السَقْي والإنبات والإرواء والنمو والأثمار والخيرات. فما يملكه ليس له، وما لا يملكه لا يطلبه ولا يسعى لامتلاكه، فهو مَلِك التخلّي بامتياز. إنه ليس بالمَنَّانِ ولا الحَنَّان، فهو يمضي للأمام دوماً، كسيِّدٍ للحظته وليس كعبدٍ لمخاوفه، مندفعاً بهذا الامتلاء كله نحو مصيره السائل، كجندي يمضي إلى الحرب وهو يعرف بأنه لن يعود مطلقاً. له ابتسامة القمر المُبتسم وضحكة الرِّيح الضاحكة، حيث تشرق الحياة الخضراء من جبينه. إنه نهر، على الرغم من كل هذا، بلا ضغائن ولا أحقاد، بلا كراهية ولا استقباح، يسير هادئاً في تدفقه الرائع، كما لو أنه لم يعد يكترث بشيءٍ أو يبالي بأي شيء، وتحسب بأن تاريخ الخطيئة كله قد غرق في جوفه منذ زمن طويل. كل قبح العالم ودمويته وقذاراته، لا تستطيع أن تصمد ليوم واحد أمام تيارات نهر جارف. لأنه ابن التجدّد والتغير والولادات المستمرة، كما أنه ابن الصفاء والسكون الذي يشبه الفلق، أو الابتهاج الخفي، أو العثور على حبٍّ جديد. من هنا، يجعلني نهر «ميكونغ» الكبير، أن أتصوره الآن، أكثر قوّةً وامتلاءً وحكمةً وترويضاً، من فترة شبابه وانفلاته ونزقه وغضبه وهياجه وصخبه القديم. فلقد كان في السابق، مثله بهذا مثل جميع الأنهار الكبيرة في العالم، يبحث عن مصب يحتضن جريانه الطوفاني واندفاعته الرهيبة. لقد كان يبحث عن اسفنجة كبيرة تمتص غضبه، أو بحر يقع خلف البلدان، ولقد وصل إليه منذ زمن طويل لا يُعرف تاريخه بالضبط. ولكنه اليوم، وبعد أن وجد مصبه أو حاضنته، وبعدما نحت مجراه وحريته بيده بين الضفاف واقتلع كل ما يمنع تدفق سيله، استقر في بيته العامر والمعمور ولم يعد هناك ما يؤرقه مطلقاً، سوى تعديات الإنسان المتعجرف والجَشِع عليه. لقد كانت رحلته أو غزوته التي بلا تاريخ، مظفرة، شجاعة، مندفعة، جسورة، وجارفة بشكل واسع وكبير. لقد أراد إيصال صوته ومدّ جسده العملاق، إلى أبعد نقطة ممكنة تسمح بها قوّة اندفاعه. ولقد نجح في شق الأراضي، وتشييد البلدان والحضارات، وانتزاع حريته من مخالب الطبيعة، ولم يتراجع يوماً عن كرمه الأسطوري معها، ما دامه يجري ولم ينضب بعد. لقد أصبحت البلدان مُلْك الأنهار الكبيرة، ولم تعد الأنهار مُلْك البلدان. إن البلدان ممنونة للأنهار بكل شيء، فحياتها ووجودها وزوالها في الأساس، مرتبط باستمرارية تدفق مياهها أو جفافها ونضوبها. فهي لا تضيف لها أي شيء، بينما هي تضيف إليها كل شيء. لهذا، قدَّستها وألهتها، واحترمتها، وأنشأت السدود وأنظمة الري لها، وارتبطت بها ذهنياً وروحياً وعضوياً، منذ بواكير وجودها الأول. فلماذا إذاً يتسلط الإنسان على الطبيعة؟ ولماذا يلوثها ويخربها ويحكم عليها بالقطع والإزالة والجفاف؟ (8) الروح الكبيرة هكذا، يعلِّمنا النَّهر العظيم حكمته، وكيف بالتالي تتقطَّر روحه الكبيرة، مثلما يتقطَّر الورد ويصبح عطراً ثميناً. وكيف ينتشر عبق هذه الروح وشذاها، بمحبة وحنان في فضاء العالم؟ وكيف بسببها تورق الأرواح والأشياء والأراضي والكائنات والحياة والكون برمته؟ وكيف بإمكانها أن تكون شمساً بحالها، من دون أن تدعي مُلكاً أو تلتاث بسفالات البشر وأشباه البشر؟ والنَّهر أيضاً يعلِّمنا، بأن طريق الروح الكبيرة، لن يكون مطلقاً طريق الخِسة والحقارة والدناءة والعنف والدَّم، وإنما هو طريق الطهارة والتأمّل والمعرفة والإخلاص والإرادة ومحبة الكون كله. وإن مَنْ لا يؤمن بالجديد والتجدد والتغير، فهو عالة على نواميس الحياة، ولا يستحق حتّى أن يكون أحفورة مشروخة في متحف. وإن مَنْ ينغل التعصب والكراهية والحقد صدره، فهو ليس أكثر من حفرة مفتوحة للحشرات والنفايات والمزابل. وإن مَن يرى الدُّنيا كساحة حرب ضارية فقط، فإنه لن يرى أبعد من كفنه وقبره وعداواته وانتقاماته المحتقرة. وإن من لا يعثر على السلام الداخلي مع ذاته وفي ذاته، فلن يعثر عليه في أي مكان كان. وإن مَنْ يعيش من أجل التفاهة والانتهازية والدجل والجشع، فلن تكون قيمته أغلى من روث البغال. وإن مَنْ لا يصغي لصوت الطبيعة، فلن يدرك عمق ما يعنيه تراب وطنه وبلاده. وإن مَنْ يغْتر ويستَكْبر ويتسلَّط، فكأنه يقول للنّاس: ارموني، أرجوكم، بنعلكم، وتوجُّوني بالخِزْي والعار! وإن مَنْ لا يحترم ولا يفهم ولا يُقدِّر كل هذا، فكيف تريدونه إذاً أن يصبح إنساناً ف
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©