الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رحلة "الحاج علي" من بادية الشام إلى صحراء أريزونا

رحلة "الحاج علي" من بادية الشام إلى صحراء أريزونا
10 أغسطس 2007 01:44
المكان الأول بادية الشام، والزمان أيام الدولة العثمانية نحو 1850م· ومسار الرحلة بدأ من الساحل السوري إلى الساحل الجنوبي في الولايات المتحدة، مروراً بمكَّة والجزائر وفرنسا· وبطل الرحلة، وربما كان ضحيتها، شاب في حدود العشرين من عمره كان يرعى الإبل في أطراف البادية· وفجأة يجد نفسه مُبحراً إلى فرنسا لترسله إلى الجزائر بين جنودها· ثم يدفعه حب المغامرة، إذا لم يكن شرك الخديعة، إلى ركوب البحر محمولاً إلى العالم الجديد لينزل في ميناء إنديانولا في ولاية تكساس، ومعه قافلة من الجمال· أول من حدثنا بقصة هذا الرحالة في ربيع 1965 البروفيسور ليو هاميليان، وكان أستاذاً زائراً في جامعة دمشق، ثم قدَّم لنا مجلة ''أرارات'' الخاصة بالجالية الأرمنية في أميركا، وهي تروي طرفاً من تلك الواقعة في بعض صفحاتها· لم تكن تلك رحلة عادية، ولعلها لم تخطر في بال صاحبها· ففي سنة 1856 قام جنرال من الجيش الأميركي وملازم من البحرية بالسفر في سفينة للشحن إلى سواحل المشرق العربي في مهمة محدَّدة للحصول على مجموعة من الجمال لاستخدامها في شق طريق ومد سكة حديد عبر صحراء أريزونا، إلى الشرق من مدينة لوس أنجلس· كانت حصيلة المهمة الأولى استيراد 33 جملاً، وفي رحلة ثانية حملوا معهم 41 جملاً، وكان للحاج علي أو (هاي ـ جولي) ـ كما راح الجنود يدعونه ـ فضلٌ كبير في إنجاز شطر من ذلك المشروع الكبير· فالجمل الذي أطلق عليه أجدادنا لقب ''سفينة الصحراء'' كان وحده قادراً على نقل المهندسين والعمال وخطوط الحديد والمعدات اللازمة لذلك عبر تلك الصحراء المترامية في الغرب الأميركي، وكان الحاج علي قائد القافلة والمشرف على شؤونها· هناك شذرات متناثرة بين عشرات المصادر التي تناولت حياة ذلك الرجل ورحلته· يقال إن الفرنسيين جنَّدوه ليخدم في الجزائر، ولعله هرب من هناك إلى مكَّة ليؤدي فريضة الحج· وبعد ذلك جاءته فرصة سانحة أو ظرف قاهر، وهو في حدود الثامنة والعشرين، ليسافر في تلك الباخرة الأميركية كمشرف على رعاية الجمال والاعتناء بها· كيف استطاع ذلك الشاب أن يستعيض عن حياته الآمنة في بلاده ليمتطي بحراً متلاطماً يمدُّه محيط واسع حتى وصل، بعد أشهر، إلى تلك البلاد البعيدة؟ وأية هواجس ومخاوف عاشها طوال الرحلة في عباب المجهول؟ وكيف تخطى حاجز اللغة وتعلم التفاهم مع أولئك الغرباء في ذلك الوقت المبكِّر؟ وهل ساعدته اللغة الفرنسية ؟ ذلك ما يبقى سراً خفياً في عالم الغيب· النُّصب التذكاري الشاهد الوحيد الباقي من تلك الرحلة وصاحبها يتجلى في ذلك النُّصب التذكاري، وهو هرم صغير من حجارة الكوارتز، ليذكر الأجيال بآخر مخيم وصله الحاج علي وقافلته في صحراء أريزونا، وقد وضعوا على قمة الهرم تمثال جمل من النحاس· وعلى جدار النصب لوحة بكلمات معدودة تحمل اسم أول رحالة عربي يصل إلى تلك الصحراء· ولنا هنا أن نتأمَّل في حياة هذا الرجل وسيرته· لم يكن متعلِّماً، على ما يبدو· وهذا ما حرمنا من معرفة ماضيه في وطنه الأصلي، كما حرمنا من تلك التجربة القاسية الحافلة التي عاشها في بلاد الاغتراب· لكنه كان متمتعاً بشعلة من الفطنة والذكاء وفرت له الأمان والخلاص من سخرية الجنود المحيطين به وسخطهم لأنه العربي المسلم الوحيد، فقد أشاع حول نفسه بأنه من أصل يوناني وأن اسمه الحقيقي ''فيليب تادرو''· لكنه في الوقت ذاته كان مصرِّاً على أن يبقى اسمه، ولو بينه وبين نفسه، ''الحاج علي''· إنما الغاية تبرر الوسيلة· هذا هو منطق المدنية الغربية بجميع أشكالها القديمة والحديثة· والغاية كانت ماثلة بالخط الحديدي الذي أسهم الحاج علي وقافلته بإقامته عبر تلك الصحراء· من دلَّ قادة الجيش الأميركي، في ذلك الزمن المبكر، على أهمية الجمل في الصحراء؟ وهل كانت صفقة تجارية جرى إبرامها سراً بين ذلك الجنرال وإحدى البعثات الأجنبية التي أقنعت بعض رجال الوالي العثماني بقبولها في إحدى المدن الساحلية من بلاد الشام؟ وكيف اقتنع ذلك الشاب بمرافقتهم؟ وهل كانت الرحلة بإرادة حرَّة منه أم أجبر على ذلك مثلما أجبر ''كونتا كنتي''، ابن غامبيا في غرب إفريقيا، وآلاف العبيد الأرقاء من قبل؟! أسئلة عديدة تظل بلا جواب· سيظل ذلك التمثال المرتفع في صحراء أريزونا شاهداً يوحي لنا بصيغ واحتمالات متعدِّدة لتلك القصة· تجربة الاستفادة من الجمال لم تنجح، كما تذكر بعض المصادر· لكن الفاجعة التي لحقت بالجمال جديرة بالتسجيل· وحشة الجمال خلال مدة قصيرة بدأت الجمال، كما يقول راعيها، تعاني من الوحشة وتتصرف بهياج· وكلما لمحت مجموعة من البغال التي يستخدمها الجيش، كانت تنفر من صاحبها وتسرع نحو تلك البغال التي لا تلبث أن تلقي بأحمالها وتولي هاربة خائفة من ذلك الحيوان الذي لم تلمح مثيلاً له من قبل· ويبدو أن الحاج علي لم يتمكَّن من علاج تلك الوحشة· وأخيراً قرر قادة الجيش التخلي عن قافلة الجمال وتكاليفها فأطلقوها لتعيش هائمة في الصحراء، رغم تعاطف بعضهم معها وتأثره بالحالة المؤسفة التي آلت إليها تلك المخلوقات الوديعة التي أجبرت على القهر والاغتراب· ثم جاءت الحرب الأهلية فغطت على مأساتها· لكن القصة الفاجعة لم تبلغ نهايتها عند هذا الحد· في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديداً في سنة ،1894 هرب فتى، وهو في الرابعة عشرة من عمره، من :ولاية بنسلفانيا'' ليعيش على مقربة من مسرح الجمال راغبا باقتناص ما يصادفه منها· وتقول الرواية إنه كان حريصاً على أن يصطاد واحداً من أحفاد تلك الجمال الشاردة لوليمة عيد الميلاد· استطاع الحاج علي أن يبدِّل مسار حياته، ويتزوج ويعمل في مجال آخر بعيداً عن محنة الجمال واضطرابها العصبي، وقد وافته المنية سنة 1902 وهو في الرابعة والستين من عمره· لكن المأساة التي عاشتها جماله، هي وأحفادها، في تلك الصحراء القاحلة ستظل سراً كامناً في ستائر الغيب، ورمزاً فاجعاً للاغتراب بعيداً عن الأهل والأحبة والوطن·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©