الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

شجرة جواد سليم القتيلة ·· قراءة في نص بصري

شجرة جواد سليم القتيلة ·· قراءة في نص بصري
11 أغسطس 2007 01:26
يخرج الفنان العراقي جواد سليم من منزله ذات صباح من عام 1958 فيجد خارج حديقة المنزل رجالاً يهوون بالفؤوس على شجرة معمرة ليجتزّوها ، بينما لا تزال أغصانها ظاهرة الخضرة وبادية للنظر· كان جواد في تلك الأيام يتهيأ لوضع ''اسكتشات'' أولية لعمله النحتي الخالد : نصب الحرية · المفارقة التي ضاعفت إحساس الفنان بالأسى لاقتلاع الشجرة أن ذلك اليوم كان عيد الشجرة الذي يزرع فيه الناس الأشجار ويحتفلون بها· وكما يذكر جبرا إبراهيم جبرا في كتابه ''جواد سليم ونصب الحرية'' فإن جواد إذ تأثر بالمشهد قرر أن يرسم عملا يجسد انفعاله وهي اللوحة التي ستعرف باسم ''الشجرة القتيلة'' كما أطلق عليها جبرا نفسه بينما كان جواد قد أسماها ''عيد الشجرة'' تهكماً وألماً وذلك ما يورده جبرا في الكتاب نفسه· في مذكراته ''تأملات روحي'' يدون جواد قصة تك الشجرة وتأثره بقسوة البشر إزاء جمال الطبيعة وذلك ماجسده نصه البصري المدهش عنها· فقد تركزت الوحشية في تشريح الرجلين اللذين يعتليان الشجرة والفأس والمنجل في أيديهما حيث تتوافق إيقاعاتهما مع قسوة الملامح التي ثبتها الرسام للرجلين وتكتلهما في جانبي الشجرة التي لم يبق من أوراقها سوى القليل متناثرا على الأرض· ولكن المخيلة ستأخذ دورها هنا فيرسم جواد امرأة أسفل الشجرة منحنية برشاقة تظهر جمال جسدها وهي تجمع أشلاء الشجرة وقد بدا وكأن الأوراق وبقايا الشجرة هي جزء من تكوين المرأة ذاتها فقد اندغمت أجزاء جسدها ببقايا الشجرة وظهرت للناظر مثل قطع من شعرها· يزيد هذا الإحساس بتماهي المرأة والشجرة ملامح الحزن والعذوبة على وجهها والتهميش الذي تعانيه المرأة ويعكسه حتى التكوين والإنشاء داخل العمل حيث توارت المرأة في الأسفل حزينة تلملم بقايا الشجرة - بقاياها هي- بينما تصدر الرجلان اللوحة كما اعتليا بأجسادهما القوية الشجرة ذاتها· إن القضاء على عفوية الطبيعة وجمالها يستوجب من الفنان تصوير المرأة بالزي الريفي حيث تلتف عباءتها على وسطها وتمتد يدها اليمنى بحنو وأمومة لتحتضن الأغصان والأوراق المرمية كالجثة على الأرض ولكن الرسام يبرز جمال يد المرأة وساعدها ورشاقتها بينما تتعامد نظرة عينها اليمنى- المرسومة بجمال خاص بأسلوب جواد في مرحلته البغدادية· ويستثمر جواد كل عناصر الإيقاع هنا توافقا وتعارضا ، التوافق بين الرجلين من جهة ، وتوافق المرأة والشجرة من جهة ثانية ،ثم يستثمر التعارض والتضاد الدلالي بين وجود الرجلين يجتزّان الشجرة ، ووجود المرأة وبقايا الشجرة على الأرض في صراع واضح وعداء مكتوم وشجن تمثله المرأة التي تلملم الأشلاء ولا يخفى أساها للناظر والمتأمل في النص· سوف يمتد الإحساس بهذا الإيقاع وثنائية القسوة والجمال - الأنوثة والذكورة - إلى تنفيذ العمل نفسه، ليس في إبراز القيم التشريحية تكريساً للقسوة والخشونة في الرجلين مقابل الرهافة والرشاقة في شخص المرأة والشجرة فحسب، بل في اختيار الخطوط الخارجية النحيفة والألوان الهادئة المتدرجة عن درجات الأحمر والبني في عري واضح ، حيث لم تكتظ اللوحة بخلفية محتشدة واكتفى الرسام بالفضاء الذي انغرزت فيه الشجرة وتعلق بها الرجلان، وفي الأرض التي نثر عليها الأشلاء وجسم المرأة المنحنية لتلتقط - بانكسار- البقايا التي تتراءى لي بقايا أيامها وأحلامها وفي لحظة معاينة أخرى أتساءل لمن تعود الأجزاء والأشلاء ، للمرأة أم للشجرة؟ شجرة جواد القتيلة ستكون باعثاً لتناصات عديدة ودخول أعمال مختلفة فنية وأدبية في علاقة تضمين وتفاعل معها ، أذكر منها عملا للشاعر الراحل يوسف الصائغ قمت بتحليله في مناسبة نقدية سابقة· لا شك أن كثيرا من الأشجار تقصفت بعد شجرة جواد لأسباب عديدة، ولكن شجرته ظلت شاهدا رمزيا على الوحشية·· الوحشية التي ما كنا نحسب أن علينا ذات يوم أن نواجهها بشرا وأرضا وموجودات بهذه الكثافة والقسوة والهمجية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©