الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بالأبيض والأسود

12 أغسطس 2007 01:34
كم هو جميل أن تصمت التكنولوجيا ويخرس صوت الشاشات الواحدة تلو الأخرى لتحل مكانها ''خشة'' عدم الإرسال· منذ سنوات طويلة لم أنعم بفرصة الرجوع الى الوراء والعيش في زمن ولى واندثرت أيامه· وهكذا كان الحظ حليفي خلال عطلة صيفية ساكنة على تخوم ضيعة في أعالي الجبال· في ذلك البيت القروي المطل على مفاتن الطبيعة كل شيء قديم وعزيز تفوح منه رائحة العشب المبتل مع بدايات الصباح· هناك لا توجد شاشة ''بلازما'' ولا ''ال· سي· دي'' ولا حتى دش أو ريموت كونترول· بالكاد تلفزيون عتيق موديل السبعينات من القرن الماضي، سبقه الزمن لكنه ما زال محافظا على نضارته لقلة استعماله وهذا ما جعل أهل البيت يبقون عليه حتى اليوم· وخيرا فعلوا، على الأقل لأسترجع معه متعة تحسس زر التحكم والاستئناس بسماع تكاته تكة تلو تكة بحثا عن قناة (أتونس) بها مع فنجان قهوة العصرية· لكن الجهاز القابع في الذاكرة المزهرة يكاد لا ينطق الا بقناة واحدة هي تلفزيون الدولة، وشاشته غالبا لا تظهر الا بالأبيض والأسود· وبفضل هذه المؤشرات البدائية اعتزلت التلفزيون وعشت تجربة من الرومانسية الفكرية كنت أقلب فيها بين شاشات الطبيعة التي تبث أعذب اللوحات وأتوقف عند ذلك المشهد البديع المطل من الشرفة الغربية وتلك التلال الكثيفة المتبخترة من الحي الشرقي· سكون المكان والاجازة التأملية جعلاني أكتفي بساعة في اليوم أشاهد خلالها إما مسلسلا قديما أو برنامجا معادا من الأرشيف فيه ضيف يوحي بعظمة الوقوف أمام الشاشة· وبعد ايام قضيتها مأخوذة برحلة الماضي، ناسية كل توتر يربطني بضغوطات الواقع دق جرس الباب وكان الطارق رجل الدش الذي كنت طلبت منه أن يمد لي شريطا يصلني من خلاله باشتراك مع الصحون اللاقطة· في حينه كنت على عجلة من أمري، فكيف تكون الاجازة بلا فضائيات؟ ···اعتذرت من رجل التكنولوجيا وأبلغته أنني عدلت عن طلبي، فأنا اليوم متصالحة مع تلك الشاشة المتواضعة التي أختار منها ما يناسب مزاجي· أما خطوط التشويش التي تنبعث منها بين الدقيقة والأخرى، فلم تعد تزعجني لأنها على علتها أقل سوءا من تشويشات القيل والقال والفعل ورد الفعل والحدث وما ورائه والخبر وما أمامه، هذا عدا عن دانا وأخواتها والأفعال الناقصة وأدوات النصب وحركات الرفع· لا يمكننا أن ننكر فضل التطور الرقمي الذي ربط العالم ببعضه ومنحنا فرصة التواجد وسط الحدث حتى وإن كنا فعليا بعيدين عنه كما المسافة بين بيتنا في الريف وشاشات التغطية العالمية، لكن العودة الى أيام المحطة الوحيدة وضعتني في أجواء صافية يحتاج إلى خوضها كل مدمن على جهاز التلفزيون·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©