الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بركة الحياة

بركة الحياة
13 أغسطس 2007 03:10
يوم ولد جاءت معه الفرحة وهذا الشعور الرائع الذي لا يمكنني وصفه أدى إلى تلاشي كل أحزان الماضي· الهموم صارت بالونات فرح وأمنيات حلوة، منذ ولادته بدأت في حياتي مرحلة جديدة، طالما انتظرناها أنا وزوجي بلهفة وشوق· كيف أعبر وماذا أقول؟ هذا الملاك الصغير يفتح عينيه ليرى أما وأبا سعيدين فرحين به· أعجز عن وصف مشاعري· لقد أصبح هوائي الذي أتنفسه من عبير الجنة المتدفق من جسده الناعم الرقيق، النور الذي أرى فيه الألوان بوضوح وجمال· النظرة إليه وضمه إلى صدري تنسيني الدنيا وما فيها· إنه شعور غريب لا أستطيع وصفه مهما حاولت· أما زوجي فقد كان أكثر مني بهجة وسعادة بهذا المولود الرائع· دموع الفرح ملأت عينيه، أسرع إلى والدته يبشرها بما رزقه الله فباركت له وأعلنت الخبر لكل الأهل والأحبة ليتشارك الكل الفرح بهذه النعمة العظيمة· تركت المستشفى وعدت إلى بيتي وأنا أحتضن صغيري· صرت أتحدث معه بقلبي· أخبره عن السعادة التي سينعم بها في هذا المكان مع أم محبة متفانية وأب حنون طيب· كنت اقول له: يا صغيري هذا بيتنا، وهذا سريرك الذي أعددته بنفسي لك وهذه أشياؤك، وسترى جميع أفراد أسرتنا وهم سعداء بمجيئك، أعمامك وعماتك، أخوالك وخالاتك، الجدان والجدتان، الكل سيحتضنك ويحمد الله على سلامة مجيئك إلى هذه الدنيا· وضعته في سريره وبلا مبرر أتلهف وزوجي في كل دقيقة لرؤيته· نخشى عليه من الجوع، وقبل أن يبكي نقفز سوياً إليه، نرقبه وهو نائم فأقول لزوجي إن شعور الأمومة أروع شعور عرفته في حياتي· كنت أتخيل نفسي وقد صرت أماً، ولم أكن أدري بأن أحمل كل هذه المشاعر الحلوة· صدمة قاسية وأنا في عز الفرح والغبطة جاءت الصدمة التي زلزلت كياني كله، جعلتني أهوي من ارتفاع شاهق على رأسي فحطمتني تماماً··· شيء لم أكن أتوقعه أبداً· بعد شهر من ولادتي ذهبت إلى المستشفى، كنت أظنه موعداً روتينياً للتأكد من أن كل شيء على ما يرام بالنسبة لوزن الطفل ونموه· دخلت على الطبيبة وأنا أحمله بين يدي مرتاحة البال مطمئنة· أخذته مني فخفق قلبي بقوة· قلبته جيداً، فحصته عدة مرات، يا الهي، لماذا تفعل كل ذلك مع هذا الصغير؟ ولمَ هي خشنة معه بهذا الشكل؟ أردت أن أصرخ بوجهها··· ولكني سكت· إنها طبيبة وهي تتعامل مع عدد كبير من الأطفال يومياً، الأفضل أن لا أثير المشاكل· أنها دقائق معدودة ستنتهي وسأحمل طفلي وأعود به إلى بيتنا· أعادت إليّ الطفل بعد ذلك الفحص المتعب لي ولها وللصغير، ثم نظرت إليّ نظرة غريبة لم أفهم مغزاها· ليتني لم أسألها، ليتني حملت طفلي وخرجت به قبل أن تنطق بكلماتها القاسية· قالتها بكل برود، بلا أية مقدمات· لم ترحم أمومتي الغضة· أنه بكري، فرحتي الأولى··· قالتها وقطعتني إلى أشلاء وأنا لوحدي، لم يرافقني أحد لهذه الزيارة المشؤومة· قالتها وهي لا تدري ماذا سيحدث لأم مثلي· لم تمهد، ولم تتحدث بحنان امرأة ناضجة، كلماتها كانت صرخة مدوية فتتت رأسي، قالت بقسوة: ابنك منغولي! لم أفهم!!! ما معنى ما تقولين؟ هل يعني أن إبني معاق؟· كلمات قليلة أحدثت صدمة قوية زلزلت كياني كله· إنهمرت الدموع من عيني بغزارة، الرجفة اجتاحت جسدي كله، قدماي صارتا ضعيفتين مرتعشتين لا تقويان على حملي، شعرت بأنني سأسقط، ولكنني تماسكت، خفت على طفلي الذي بين أحضاني، تساءلت، كيف؟ كيف سيعيش؟ وكيف ستكون حياته؟ آلاف الأسئلة انطلقت برأسي ولم أنطق بها· كنت مرتبكة، خائفة، فأنا لازلت في أيام النفاس لم أتعافى ولم تقو عظامي وأعصابي لمواجهة أمر صعب مثل هذا، أحسست أني أموت شيئاً فشيئاً، لماذا أنا؟ ما الجرم الذي ارتكبته؟ استغفر الله العظيم، تداركت نفسي قبل أن أتمادى· تلك اللحظة ستبقى نقطة سوداء في ذاكرتي إلى الأبد· نظرت مرة أخرى إلى الطبيبة، وجدتها غارقة في ملفات المرضى· لم تكترث لي حتى ولو للحظة واحدة، للأسف فإنها تحمل شهادة في الطب ولا تحمل شهادة في الإنسانية، فهي ترى الكثير من المرضى فلا تتألم ولا تتأثر لحالاتهم· هل يصاب الطبيب بشيء من التحجر في المشاعر؟ وإذا كان المريض أحد المقربين إليه، هل سيتعامل معه بنفس البرود؟ إنه أمر يثير الاستغراب· البحث عن الأمل لم أثق بهذه الطبيبة ولم أصدق مزاعمها، وكذلك فعل زوجي، فلربما لم تشخص تشخيصاً دقيقاً· كنت أتشبث بالأمل ولو كان ضئيلاً· أخذناه إلى عدد كبير من الأطباء، هنا وهناك، تمنيت أن أسمع كلاماً آخر غير هذا الذي سمعته· للأسف، كأنهم كلهم اتفقوا ضدي، فقد أكدوا بأن هذا الوضع حقيقي وليس باستطاعة أكبر الأطباء تغييره وتبديله· بدأت أضعف··· بالتدريج، شيئاً فشيئاً، مقاومتي تنهار، واليأس أخذ يدب في كياني كله· لا مكان للفرح ولا مكان للبسمة فالمشكلة أصعب من أن استوعبها أو اتكيف معها· بدأت أشعر بالعجز الكامل· تركت اليأس والإحباط يستوليان عليّ· بقيت لفترة هكذا ثم عدت لنفسي من جديد، لابد أن أرضى بالأمر الواقع· لابد أن أتقبل قضاء ربي واختباره· لابد أن تسير الأمور ولا تتوقف عند هذه النقطة· شعرت أنني بحاجة إلى إعادة ترتيب أفكاري المشتتة وجمع مشاعري المبعثرة، فهذا الصغير بحاجة إلى كل الاهتمام والجهد· فماذا عليّ أن أفعل؟ كيف اتصرف معه؟ وكيف أساعده؟ كان زوجي أكثر صموداً مني في هذه المحنة· كان متأثراً مثلي ولكنه استطاع اخفاء تأثره وكل ما في داخله من ألم وحسرة، يبتسم أمامي والدموع محتبسة في عينيه، يحاول التخفيف عني، يواسيني وهو بأشد الحاجة لمن يخفف عنه· كنت أرى الحيرة في عينيه، الخوف والقلق· خشيت أن ينهار، أن يفقد قوته، أن يصيبه اليأس والقنوط· فكرت وفكرت ثم قررت أن اتخلص من هذا الوضع· البكاء والحزن لا يجديان· لابد أن أتعلّم· عليّ أن اقرأ، أبحث عما يفيدني، يدلني على ما يمكن أن أساعد به إبني الغالي، فهو ليس سوى طفل بريء لا ذنب له، وهو بحاجة للمساعدة· الخير مشاع كنت قد قررت بأن هذا الخبر سيكون سراً في حدود العائلة· ولكنني صدمت بأن أغلب الناس الذين أعرفهم ولو من بعيد، قد علموا بالقصة كلها· حينها شعرت بغضب شديد، لماذا نشر أهلنا الخبر؟ لم يكن الخجل هو دافعي لإخفاء الخبر، ولكن نظرات الناس واسئلتهم التي لا ترحم، كلماتهم التي تجرح· تحليلاتهم وآراؤهم الغريبة تعذبني، ماذا لو كانوا مكاننا؟ هل سيرضون لأنفسهم نفس الموقف؟ لا أدري إن كنت محقة أم لا، ولكن هذا الشعور آلمني بشدة، ربما كان البعض صادق في شعوره معنا، يحاول مواساتنا والتخفيف عنا، ولكن من لم يعش الأزمة لا يمكنه استيعابها، فقد استغرقنا وقتاً طويلاً حتى ندرك ما نحن فيه، وقد كان القبول والرضى هو الخيار الوحيد أمامنا· فهل يتخيل الآخرون مدى صعوبة موقفنا؟ كنت اتضايق عندما يتحدثون عن طفلي وكأنه مخلوق غريب، يجمعون المعلومات من الجرائد والإنترنت والكتب ليؤكدوا لي بأنه أدنى من باقي الأطفال، وأنه لن يكون طبيعياً وسيبقى طفلاً شاذاً غريباً عن الآخرين· كلما تجاوزت مرحلة الحزن والبكاء اُصدم برأي أو ملاحظة جديدة تعيدني الى حالتي الأولى، خصوصاً وأنني متأكدة بأن طفلي سيُظلم ظلماً كبيراً من الناس· هذا ما يؤلمني بشدة· فحتى أنا أمه وبعد أن تلقيت الخبر بدأت أخاف من النظر إليه، لأن الطبيبة لم توضح لي أي شيء عن حالته، فبقيت في خوفي وحيرتي لفترة طويلة، لا أستطيع الرد على أسئلة الفضوليين، لماذا شكله هكذا؟ لماذا شكل أذنيه هكذا؟ لماذا؟ ولماذا؟! أسئلة لا تنتهي وكأنهم يتعمدون مضايقتي واستثارتي وأنا أصمد أمامهم ولكنني حين انفرد بنفسي أصرخ وأصرخ وأترك الدموع الحارة تحرق وجهي حتى يختفي صدى الأصوات من أذني· ثم أعود لنفسي فأقاومها· فأنا أريد أن يعيش طفلي بكرامة· من سيرعاه ويحفظ كرامته إن لم أكن أنا أمه؟ من سيحبه غيري؟ من سيوفر له الأمن والاطمئنان سواي؟· عليّ أن أقاوم الضعف الذي يجتاحني من حين لآخر، عليّ أن أكون كالجبل الصامد أمام هذا الوضع الصعب حتى استطيع حماية أبني· الملجأ الوحيد اتجهت إلى ربي، أدعوه، أشكو له همي وأبث له حزني، أطلب منه في كل صلاة أن يصبرني ويقويني على العناية بأبني وعلى تحمل هذه المسؤولية التي أجدها أكبر من طاقتي· حتى بدأت أشعر بنور خافت يضيء أمامي من بعيد وأنا اقترب منه شيئاً فشيئاً، وكأن ربي بقدرته وعزته يدلني على طريق الصواب· فبالصدفة وحدها تعرفت على أخصائية تربية خاصة، وهي التي أفهمتني كل شيء وأوضحت لي بأنني أمام عمل شاق ومهمة صعبة عليّ التهيؤ لها بقوة، فأنا مسؤولة أمام الله عن هذا الملاك الرقيق، عليّ أن اساعده وأعلمه وأقف بجانبه في كل وقت وهذا يتطلب جهداً مستمراً وصبراً طويلاً لا حدود له· علمت منها أن هناك دواء لا يداوي المشكلة بالضبط ولكنه يخفف من آثارها· شكرت ربي على كل شيء، بعد أن أشرقت الشمس على حياتي وولد الأمل في قلبي من جديد· بدأت خطواتي العملية على الفور وأصبحت آخذه إلى مركز التعليم الخاص، وصرت اتعلم منهم كل يوم معلومة جديدة، واكتشف أشياء مفيدة، شعرت بأنني وجدت الدواء الذي أبحث عنه، والطريقة التي سوف أعين بها أبني منذ الطفولة المبكرة· صرت أقوى وأكثر عزيمة، وأنا أبذل قصارى جهدي من أجل صغيري· وزوجي أيضاً لم يقصر، فهو يسعى ويحاول أن يكون معي في كل خطوة، ليكون ضميرنا مرتاحاً أمام ربنا وأمام أنفسنا· ندمت لأنني كنت أظن بأن هذا الشيء هو مصيبة، بلوى، أو عقاب، ثم اقتنعت بأنها نعمة، امتحان، خصوصية من رب العالمين، منحنا هذا الملاك الصغير، نور الحياة، شمعة البيت، بركة حياتنا، لو غاب عنا فإن الحزن والملل سيملآن حياتنا، فلا يمكننا العيش بدونه· بلا رحمة مجنون··· لا يفهم··· أهبل، خفيف العقل، كلها كلمات يرددها أصحاب القلوب المتحجرة يصفون بها هذه الفئة البريئة من البشر، كم هو مؤلم عندما يحرجك الناس بكلمات قاسية مثل هذه؟ لماذا يستهين الناس بمصائب غيرهم؟ لماذا لا يقدرون مشاعر الألم التي يسببها جرح المشاعر؟ ألا يعلمون بأن الله قد يبتليهم بمثل هذه التجارب؟ ماذا سيكون موقفهم عندها؟ هل سيرضى أحدهم أن يسمع كلمات الاستهزاء والتجريح؟ كم هو مؤلم عندما يشعر الإنسان بالضعف واليأس وهو يرى عزيزاً يتألم أمامه، يحتاج لمساعدته وهو يقف عاجزاً أمامه، ليس بيده شيء ليساعده به· والمؤلم أكثر وأكثر هو أن يكون هذا العزيز قرة العين وفلذة الكبد· الآن وبعد مرور سنة وثمانية أشهر على ولادة ابني استطيع أن أقول بأن الصبر هو مفتاح كل شيء صعب، وأن الإنسان يستطيع أن يمتلك القوة مع شدة المحنة، وأن القناعة والرضى هما الكنز الحقيقي في هذه الدنيا· أريد أن أوصل هذه الرسالة لجميع الناس، أريد أن أقول وأصرخ بكل قوتي ليسمعني الجميع، إن هذه الفئة من البشر ليست مخلوقات مخيفة جاءت من كوكب آخر، أنهم بشر، يملكون قلوباً رحيمة طيبة، يملكون المشاعر، مثلهم مثل باقي الناس، لا يختلفون في شيء سوى أن امكاناتهم أقل، وهم ليسوا معدومي العقل، فهم على مستويات في قدراتهم، يمكن أن يكونوا منتجين، إذا وجدوا العناية اللازمة لتطويرهم والتعامل معهم بإنسانية وفهم· أنا بصفتي أم لطفل في مثل هذه الحالة فإنني أقول بإننا رغم التطور الذي نعيشه إلا أننا نفتقد للعلم والمعرفة بكل جوانب الحياة· العنوان البريدي: suad-jawad@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©