السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المياه نفط تركيا... وصيف العطش يضرب الأناضول!

المياه نفط تركيا... وصيف العطش يضرب الأناضول!
16 أغسطس 2007 02:30
تطل على ثلاثة بحار: المتوسط والأسود وإيجه، وبها 48 بحيرة مغلقة، وبالنسبة للمياه العذبة، يمكن للقادم إلى الأناضول أن يرصد أنهاراً كبيرة وأخرى صغيرة في الجنوب والشمال والشرق والغرب على السواء، كما يمكنه أن يرى كم هي الوديان والينابيع والمياه النقية تتساقط على حواف الجبال والهضاب المتوسطة والكبيرة، وعلى مستوى العالم، تأتي تركيا في المرتبة الـ41 ضمن قائمة تضم 71 دولة، هي الأغنى بالمياه· فطبقا للأرقام المعلنة، قدر الخبراء حجم مصادر المياه الرئيسية سنوياً في عموم الأناضول، بنحو 214 مليار متر مكعب· هذا الغنى بالمياه بدا مدعاة زهو وفخر للقاطنين في عموم البلاد، وفي خطاب النخبة السياسية بدت المياه أداة، وورقة ضغط، تستخدم عند اللزوم· ففي أثناء زيارته لإسرائيل خلال نوفمبر عام 1993 قال ''حكمت تشتين'' وزير الخارجية آنذاك: ''إن بلادنا تتمتع بموارد غير محدودة من المياه، ويمكن أن تساهم في تحسين الوضع المائي الشحيح في منطقة الشرق الأوسط''، بعدها بعام واحد فقط، وفي القدس، قالت ''تانسو تشيللر'' رئيسة الحكومة التركية آنذاك: ''سنعمل ما يروق لنا بالنسبة لمياهنا، وسنبيع المياه لمن نريد''، والعبارة الأخيرة كانت تعني الدولة العبرية التي أرادت شراء مياه من نهر ''منفجات'' بجنوب تركيا، وبمعدل 2,3 مليون متر مكعب يومياً· وفي أوج الأزمة مع سوريا، قبل أقل من عشر سنوات، وعندما كان رئيساً للحكومة، أعلن ''مسعود يلماظ'' أن ''المياه هي بمثابة نفط تركيا، فإذا كانت الدول النفطية تتقاسم نفطها مع الآخرين، هنا سيكون على أنقرة أن تتقاسم مياهها مع جيرانها''· ورغم عدم دقة المقارنة، فإن إعلان ''يلماظ'' كانت له دلالته التي تتلخص في أن العاصمة التركية تمتلك سلاحا لا يقهر ألا وهو المياه، وحتى يكتمل المعنى السياسي لمقولة رئيس الحكومة، كانت الأيادي تعمل بهمة وبلا توقف في مشروع القرن، والذي بدأ تدشينه مع مطلع العقد التاسع من القرن الماضي والمعنون باسم ''تنمية جنوب الأناضول''، والمعروف اصطلاحاً باسم ''جاب''، ورغم التكلفة الاستثمارية الباهظة، فإن اكتماله صار هدفاً استراتيجياً، حتى لو رفض البنك الدولي تمويله· المثير في الأمر أن هذا المشروع، بات بؤرة غضب عارمة من قبل الجيران، ولم يسلم من تحفظ، بل وانتقاد جامعة الدول العربية، وبالتوازي راح البعض يحذر من حرب وشيكة بسبب سد ''أتاتورك''· لكن الرياح، في هذه الحالة، جاءت عكس توقعات دعاة المؤامرة التي تحاك ضد المياه العربية، فقبل أن ينتهي القرن العشرين تدخل تركيا وسوريا مرحلة جديدة لم يعد عنوانها الرئيسي ''أزمة المياه''، وبالتزامن ومن دون أدنى ضغط ، لا من دمشق أو بغداد، بدا الحديث يتضاءل في الأناضول حول بيع المياه شيئاً فشيئاً، ليثبت في النهاية مقولة سبق وقالها الرئيس السابق ''سليمان ديميريل'' بحكم تخصصه في هندسة هيدروليكا المياه ''إنه من الصعب عمليا بيع مياه ''منفجات''، حتى ''الجاب'' لم يعد في دائرة الضوء، أو على الأقل لم يعد يثير ضجيج الجيران وغير الجيران على حد سواء''! كان هذا هو حال الماضي القريب، أما الحاضر فينذر بالخطر، بيد أن المدن الكبرى في عموم الأناضول، صارت تعيش أزمة مياه، وبالتحديد حالة عطش، وها هي أرض الأناضول تتشقق من فرط عطشها، نهر ''مندريس'' الكبير بتفريعاته الصغيرة والمتوسطة نضبت مياهه في مشهد مريع· وهذا ليس من باب التندر، فقد قيل إن تلاميذ المدارس الذين يحصلون على إجازة أيام الطقس السيئ سيحصلون قريباً على إجازة جفاف، فدور العلم لن يكون بها مياه! من ثم أصبح السؤال ماذا يحدث؟ وهل تركيا تعيش جفافا؟ أم أن الأمر عارض مؤقت؟ ''مليح جوتشيك'' رئيس بلدية أنقرة، بدا متأثراً وهو يعلن أمام الرأي العام، أن العاصمة مقبلة على مشكلة مياه على الرغم من وجود احتياطي يكفي لخمس عشرة سنة قادمة، ولكن لا يمكن الارتكان خاصة مع ندرة الأمطار قياساً بسنوات ماضية، وليس هناك مفر، فلا بد من سياسة تقشف، بمعنى أن سكان العاصمة لن يتمكنوا من المياه يومياً، فطبقاً للخطة التي وضعت ستحصل مناطق على مياه لمدة يومين، بعدها تحصل أحياء أخرى على يومين آخرين، وهكذا إلى أن تنتهي الأزمة في نهاية أكتوبر القادم مع تدشين خزان للعاصمة، هذا التاريخ، قد لا يكون نهائياً فيمكن لظروف طارئة مد العمل حتى بداية العام الجديد· ومع بداية خطة التقشف، بدت عطلة نهاية الأسبوع بمثابة كابوس للآلاف من المواطنين الذين كان عليهم تدبير احتياجاتهم من المياه، عشرات من ''الجراكن'' اصطف بها البائعون في الأسواق، فمصائب قوم عند قوم فوائد، فأسعار ''الجراكن'' ترتفع ساعة بعد أخرى مع زيادة الطلب، فليست هناك أسرة إلا وهي في حاجة لجركن وربما لعدة جراكن، فصنابير المنازل ستظل صامتة 48 ساعة كاملة! وفي الضواحي البعيدة عن وسط المدينة، استعان المواطنون بأواني الطعام لتخزين المياه· المثير أن الأزمة وقرار البلدية اتخاذ التدابير العاجلة لمواجهتها، يأتي في وقت تشهد فيه العاصمة أسوأ موجات الحر في تاريخها، وبطبيعة الحال تصبح الحاجة للمياه بمثابة حياة أو موت، وبدلاً من استخدام المياه المعبأة في أغراض الشرب، صارت لها استخدامات أخرى· في المقابل وفي الوقت الذي كانت فيه منطقة إيجه غرب البلاد تعيش مأساة جفاف حقيقية تمثلت في نضوب أنهارها عن آخرها، كان البعض في مدينة ''ريزا'' على البحر الأسود، وهروباً من الحر، يملأون عربة نصف نقل بالمياه العذبة، وكأنها حمام سباحة، وراحوا يسترخون فيها، وبالطبع استفز هذا المشهد المسؤولين عن المياه في عموم البلاد، وبناء على توجيهات حكومية محددة يعكف التكنوقراط على دراسة فرض أسعار جديدة على المياه للحد من الإسراف المبالغ فيه· المواطنون يصرخون: ''إنها مسألة صعبة كيف سنتحملها؟''، ثم إن شهر رمضان المبارك على الأبواب، وبالتوازي سيبدأ العام الدراسي الجديد لجميع المراحل التعليمية، فكيف يمكن التصرف حينذاك؟ ''مليح جوتشيك'' لم يجمل الصورة، بل قال صراحة: ''أنقرة ومياهها في حاجة إلى مدد من السماء''، ومضى قائلاً ''على الجميع الدعاء من أجل أن يمنّ الله بالمطر على أنقرة وكافة مدن وسط الأناضول''، وها هن النساء في منازلهن يرفعن أيديهن للسماء، والرجال والشباب في الجوامع باسطنبول وأنقرة ومعظم مدن الأناضول اتجهوا جميعاً بالدعاء إلى الله، عقب صلاة الجمعة (الذي وافق الثاني من أغسطس الحالي) مستغيثين به بأن يمنّ عليهم بالغيث الوفير· ومن جانبه نقل التليفزيون بكافة قنواته، دعاء الآلاف، وفي الصباح التالي تصدر مشهد الاستغاثة صدر الصفحات الأولى من الصحف السيارة على اختلاف أنواعها واتجاهاتها، والجميع يحدوه الأمل، في أن يكون الحاصل، ما هو إلا أمر عارض مؤقت، بعده يعود مناخ الأناضول إلى سابق عهده حيث القاعدة فيه هي المطر الوفير طوال معظم شهور السنة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©