جمالية الأمكنة

قطعنا، ككتّاب وقرّاء، في هذه الصفحة شهوراً عدة ونحن نتجوَّل عبرَ ما نشرناه في أمكنة كثيرة مترامية بين السماء والأرض في عالمنا الذي نعيش فيه، عالمنا الذي يضمُّنا ككائنات مكانية مفطورة على حب المدينة كما الصحراء، وحب الشوارع كما الشواطئ، وحب السطوح كما الأقبية، وحب الذات في مكانها كما الآخرين في أمكنتهم· ولما كان الإنسان كائناً مكانياً ولا يمكن تصوُّر وجوده دون مكان، فهو إذن في علاقة سرية دائمة مع الأمكنة التي يحيا فيها أو الأمكنة التي يفترضها ليعيش فيها أو الأمكنة التي يتخيَّل وجودها بما يجود عليه خياله غير المتناهي الذي يمنحه أفقاً شاسعاً للتفكير في الأمكنة الافتراضية حتى يتكوَّن الإنسان في رحم امرأة، ذلك الرحم الدافئ، إنه المكان الأول الذي نرى الإنسان يحن إليه منذ لحظة ولادته حتى رحيله، يمضي الإنسان عقدين من عمره وهو يحاكي طريقة استقراره جنيناً في رحم أمه، لكنه سرعان ما يبدأ بمحاكاة رحم الأمكنة التي يعيش فيها في الدنيا ابتداء من حضني الأم والأب، وأحضان الأسرة، مروراً بسرير النوم المنفرد ومكانية الغرفة وباحات المنزل، إلى قاعات الدرس وحدائق المدرسة، ومن ثم إلى ساحات العمل والحب، فدروب السفر والترحال، وصولاً إلى مكانية اللَّحد التي تمثل نهاية المطاف للأمكنة الملموسة بيقين لا يُقبل الشك فيها· يمارس المكان حضوراً تلقائياً عند الإنسان، إنه سلطة لا فكاك منها بالنسبة لوجوده، وفي حياته يسعى ـ الإنسان ـ إلى الحفاظ على علاقته السرية مع هذا الحضور، لكنه أيضاً يجد نفسه بحاجة دائمة هي الأخرى لا فكاك عنها للكشف عن هذه العلاقة السرية مع المكان كحضور دائم، بل والتعبير عنها في سلوكه اليومي؛ فبمجرَّد خروج الإنسان من منزله للتنزُّه في حديقة المنزل أو حديقة المدينة هو تعبير منظور عن إحساس عارم بسلطة المكان وحضوره الضاغط على الإنسان ذاته· إلا أن تعبيراً آخراً عن هذه العلاقة السرية يبدو أكثر تمثيلاً وتعبيراً عن علاقة الإنسان السرية مع المكان؛ بل والأكثر استجابة لمكانية الإنسان كخاصية وجودية لصيقة به؛ تعبيراً تكرِّسه صفحتنا هذه ـ صفحة أدب الرحلة ـ بما تنشره من مقالات وقراءات ومتابعات جعلت من المكان عبئاً إنسانياً وجودياً ينشد التعبير الجمالي والإبداعي الشجاع عن حضوره، وعن الإحساس والشعور بجذوته، والانفلات الحر عن سلطته لتحقيق المصالحة معه؛ مصالحة الإنسان الإبداعية مع المكان· rasmad8@hotmail.com