الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كيف واجه طه حسين أزمات التعليم في مصر؟

كيف واجه طه حسين أزمات التعليم في مصر؟
18 أغسطس 2007 04:07
ضمَّ ''الجزء الثاني'' من رسائل وأوراق الدكتور طه حسين رسائله منذ مطلع الأربعينات حتى وفاته· وتكشف هذه الرسائل الكثير من أسرار الحياة الثقافية والفكرية في مصر والوطن العربي، ومن بينه ما يقدِّم لنا جانباً سياسياً في الفترة التي شغل فيها طه حسين منصب وزير المعارف العمومية في وزارة الوفد الأخيرة، بين يناير 1950 حتى يناير ·1952 في إحدى الرسائل الموجَّهة إلى رئيس ديوان الملك فاروق في 12 مايو 1951 والتي تتعلَّق باستقالة كامل مرسي باشا مدير جامعة فؤاد الأول -القاهرة حالياً- وكان كامل مرسي قد استقال إثر خلاف مع الوزير طه حسين، وموضوع هذا الخلاف ليس بعيداً عن أوضاع الجامعات العربية الآن؛ فقد كان التعليم الجامعي يتم مقابل أجر آنذاك· وفي مايو 1951 كان هناك عدد من طلاب كلية الهندسة لم يدفعوا المصاريف، بينما كانت الامتحانات على الأبواب، وأصر مدير الجامعة على منع الطلاب من دخول الامتحان ما لم يسددوا المصاريف· وكان طه حسين مع التيسير على الطلاب، وأن يتركوا للامتحان ثم يدفعوا بعد ذلك، خصوصاً وأن من بينهم طلاباً كانوا في السنة النهائية· تطوَّرت الأمور على نحو أزعج طه حسين، فروى قائلا: ''في أول مايو اتصل بي معالي وزير الداخلية وكنت مريضاً، فأنبأني بأن مدير ''جامعة فؤاد الأول'' طلبَ إلى إدارة الأمن العام إرسال الشرطة لمعاونة الجامعة في منع طلاب كلية الهندسة الذين لم يؤدوا الرسوم الدراسية من دخول الامتحان في يوم الأربعاء الموفق 2 مايو ،1951 فهالني الأمر لأنني أعلم ما يؤدي إليه اصطدام الطلبة مع البوليس، ولم أرد أن يحدث شيء من ذلك''· ويضيف الدكتور طه: ''اتفقتُ مع وزير الداخلية على ألا يرسل الشرطة إلى الجامعة، وأن أطلب أنا إلى مدير الجامعة إتاحة الامتحان للطلاب على ألا تصحح أوراق الذين لم يؤدُّوا الرسوم منهم إلا بعد أدائها''· حاول طه حسين الاتصال بمدير الجامعة فلم يتمكَّن؛ فكلف أحد معاونيه الاتصال بمدير الجامعة وإبلاغه رسالته، لكن مدير الجامعة لم يقبل الرسالة فطلب منه أن يعاود الاتصال ويلح في الطلب فرفض مدير الجامعة· نحن إذن بإزاء معادلة لها طرفان الأول يقف فيه الوزير طه حسين ومعه وزير الداخلية آنذاك فؤاد سراج الدين في ناحية، ومدير الجامعة في الناحية الأخرى· وكان مدير الجامعة هو أحد رجال القصر، ومن المعادين لاتجاه طه حسين في توسيع مجانيَّة التعليم، بل كان من المعادين للمجانيَّة كلها، وكان هناك فريق كامل في الحياة السياسية يرفض المجانية تماماً ويرى أنها ستضرُّ بالتعليم وبالمجتمع المصري· ولم يكن مدير الجامعة رجلاً عادياً فقد كان وزيراً للعدل في وزارتين سابقتين، وتولاها مرَّة ثالثة ليلة قيام ثورة يوليو ،52 وقبل الوزارة كان مستشاراً بمحكمة النقض، ثم وكيلاً لها، وهو موقع عظيم آنذاك· وفوق ذلك كله كان رجل الملك فاروق، لذا كان متوقعاً أن يرفض طلب الوزير طه حسين ويصر على موقفه· في يوم الامتحان فوجئ مدير الجامعة بأن مدير الأمن العام لم يرسل قوات من الشرطة كما طلب، ولذا دخل الطلاب الامتحان ولما حاول الحرس الجامعي منع الطلاب، اشتبك معهم الطلاب وقذفوهم بالحجارة فاستنجد مدير الجامعة بوزارة الداخلية، لكن مدير الأمن العام كان لابد قبل أن يتحرك أن يحصل على إذن من وزير المعارف، واتصل به لنيل ذلك الإذن، فرفض الدكتور طه حسين تماماً، وطلب إليه عدم دخول الجامعة أو الاحتكاك بالطلاب إلا إذا حدث إخلال بالأمن العام أو طلب هو بنفسه كوزير تدخّلهم، ودخل الطلاب الامتحان· ولم يتحقق لمدير الجامعة ما كان يسعى إليه؛ فاتصل طه حسين بمدير الجامعة، فوجده غاضباً بشدَّة لأن الوزير لم يتشدَّد في أمر دفع المصاريف، ولأن الشرطة لم تذهب إلى الجامعة، ولأن الطلاب اقتحموا مكان الامتحان· تصرَّف طه حسين كوزير وكرجل تربية، وقال في خطابه الذي من المفترض أن يطلع عليه الملك فاروق: ''أكدت له أني أنا المسؤول عن الجامعة في مجلس الوزراء وفي البرلمان، وأني لا أرغب مطلقاً في أن يحصل اصطدام بين الطلبة والشرطة، وأني متعهِّد بأن يؤدي الطلاب ما عليهم من رسوم قبل العام الدراسي الجديد''، أي أن أوراق الطلاب سوف تصحَّح وتُعلن نتائجهم أيضا· لم يكن الرجل يطلق أقوالاً هكذا، بل ربطها بخطوة عملية، إذ كتب إلى وزير المالية خطاباً خاصاً، طلب ألا يعرض على مجلس الوزراء ويحمل الخطاب اقتراحاً محدداً وهو ''إعفاء الطلاب في السنوات النهائية من رسوم القيد، وإمهال الطلاب الآخرين والإذن لهم بدخول الامتحان في الدور الأول''· صارح وزير المعارف زميله وزير المالية بأنه لو أقره على هذا الاقتراح فسوف يُعرض على مجلس الوزراء باسميهما معاً، ووافق مجلس الوزراء على الاقتراح· وهكذا قام طه حسين بإدخال مجانية التعليم إلى ''جامعة القاهرة'' وغيرها من الجامعات، وآنذاك كانت هناك ثلاث جامعات، هي جامعة القاهرة، وجامعة عين شمس، وجامعة الإسكندرية، وكانت جامعة أسيوط في طور الإنشاء· لم يصمت مدير الجامعة أو رئيس الجامعة بمصطلحات أيامنا، وواتته الفرصة، ذلك أن الخطاب الخاص الذي بعث به وزير المعارف إلى وزير المالية تسرَّب من مكتب المالية إلى صحيفة ''الزمان''، وهي صحيفة مسائية كان يترأس تحريرها آنذاك الكاتب الصحفي الراحل جلال الدين الحمامصي، وكانت تصدر عن الحزب السعدي المناوئ للوفد والمناصر للملك، وتمَّ نشر الخطاب رغم أنه ''لم يكن مُعداً للنشر'' بتعبير طه حسين، ووردت فيه عبارة أغضبت مدير الجامعة، يقول فيها طه حسين: إن إدارة الجامعة تُعامل الطلاب معاملة الخصوم الأعداء لا معاملة الأبناء الأصدقاء· ووقف طه حسين موقفاً نبيلاً، لم نعد نراه اليوم، ذلك أن أي مسؤول يتورَّط في تصريح أمام الصحف، ويثير عليه رد فعل سلبياً يسارع بالتنصل من تصريحه أو تكذيبه أو الاعتذار عنه، لكن طه حسين لم يفعل شيئاً من ذلك، بل راح يؤكِّد ما قاله في خطابه إلى الديوان الملكي: ''هذا ما شعرتُ به، واقتنعت به بعد المفاوضات الطويلة التي دارت بين مدير الجامعة وبيني لإمهال الطلاب وعدم إقحام البوليس في الأمر، فلم تنته إلى شيء ودخل الطلاب الامتحان عنوة··'' وإذا بمدير الجامعة يرسل إلى وزير المعارف خطاباً عنيفاً يحمل استقالته، فرفضها الوزير وطلب إليه أن يتمهل لكنه عاد وأرسل خطابا أشد عنفاً وإصراراً على الاستقالة، وقبلها وزير المعارف· ورغم أن الديوان الملكي والملك كانا متعاطفين مع مدير الجامعة، لكن الاستقالة قبلت وقام الوزير باختيار مدير جديد للجامعة، وبعد إقالة وزارة ''الوفد'' جاء الملك بذلك المدير ليصبح وزيرا للعدل· والمفارقة التاريخية أن هذا الرجل حليف الملك وقصره كان له شأن كبير بعد ثورة يوليو 1952 فبعد أزمة مارس 1954 وإبعاد عدد من الأساتذة عن الجامعة وفصلهم لأسباب سياسية، استعان ثوار يوليو به ليكون مديراً لجامعة القاهرة، وظل يشغل ذلك الموقع حتى وفاته في ديسمبر ،1957 وجرى الاحتفاء به رسمياً، لكن الضمير العلمي والجامعي نسيه تماماً، ولا أحد يذكره، بينما بقي اسم طه حسين وبقيت معركته معه محفورة في ذاكرة التاريخ وتحملها الوثائق الرسمية·
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©