الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كلود ليفي ستروس نقض الاستعلاء الغربي

كلود ليفي ستروس نقض الاستعلاء الغربي
21 فبراير 2018 20:18
لم تكن البدايات الأولى للأنثروبولوجيا (علم- الإنسان) منحازة إلى الإنسان في المطلق، بل كانت منحازة إلى أعراق دون أعراق وثقافات دون أخرى، الأمر الذي جعل ذلك العلم، في خطواته الأولى، يبدو متعثّراً وخدوماً طيّعاً لأغراض سياسية وقوى حضارية صاعدة، أكثر منه علماً باحثاً في أغوار العالم الرحب. كلود ليفي ستروس (بروكسل 1908- باريس 2009) الباحث الأنثروبولوجي ذو الصيت العالمي، في كتابه الصادر خلال العام المنصرم، أي بعد مضي ثماني سنوات على رحيله، بعنوان: «الأنثروبولوجيا إزاء قضايا العالم المعاصر» (منشورات بومبياني، فلورنسا-إيطاليا 2017) يستعيد تلك المسيرة المتعرّجة لذلك العلم، من التقول والانحياز إلى الوصف الموضوعي والمحايد، ثم من تلك المرحلة المتقدّمة على مستوى المنهج إلى محاولة الإسهام في حل مشاكل العصر، ربما كمحاولة للتكفير عن ماضٍ ثقيل ومسيرة متعثرة تخللتها انحرافات. كتبَ كلود ليفي ستروس الفصول الثلاثة من كتابه المذكور في ربيع 1986، إبان إقامته في اليابان بغرض الإعداد لإلقاء ثلاث محاضرات في «مؤسسة إيشيزاكا» بطوكيو. جاءت المحاضرات معنونة على النحو التالي: نهاية تفوق الغرب الثقافي؛ قضايا العصر الكبرى؛ وثالثة بعنوان: الاعتراف بالتنوع الثقافي. الإنسانوية الديمقراطية لقد تمثّلَ الهاجس الكبير لكلود ليفي ستروس، عبر الفصل الأول من كتابه، في السعي الجاد للخروج من براديغمات العالم الغربي إزاء معالجة قضايا العالم المعاصر، والتوجه بعزمٍ صوب تلمّس رؤية شرقية، تلك الرؤية التي طالما جرى تهميشها. فقد خلص الرجل بعد مسيرة بحثٍ عميقةٍ وحافلة، إلى أن عالمنا يتعذّر إيجاد حلول لمشاكله العويصة من داخل المركزية الغربية. ومن الصلف متابعة ذلك المسار، أو الإمعان في التعويل عليه، بعد محاصرة الفشل تلك المركزية من نواحٍ عدة. إذ على إثر التطورات الحاصلة في مجال الأنثروبولوجيا، بعد تخطيها وصْف الشعوب النائية وما رافقها من انحصار في ثنائية الأنا المتحضرة والآخر البدائي، التي طالما هيمنت على الدراسات الأنثروبولوجية المبكرة، تشكّلت لدى كلود ليفي ستروس رؤية نقدية للتراث الأنثروبولوجي الغربي، ترافقت لديه مع إيمان بإفلاس المركزية الغربية المتمحورة حول تقدم الغرب المادي المستند إلى تفوق تقني، وهو ما بات المرجعية القصوى في موازنة الحضارات بعضها ببعض. وقد سعى ليفي ستروس جاهداً إلى ترسيخ ما يُعرف بـ«الإنسانوية الديمقراطية» غير المغترّة بالتقدم التقني، والرجوع إلى جوهر الحضارات وروحها العميقة، عبر إزاحة وصمة التخلف التي طالما وصَمَ بها الغرب عالم الجنوب. ففي هذا القسم من محاضراته التوجيهية يحاول الباحث العودة إلى ماضي شعوب الشرق، واستلهام مخزونها القِيمي والروحي في التعاطي مع مشاكل العالم، باعتبار ثقافة الشرق اليوم هي الأمل المتبقي للخروج من مآزق الراهن. فالتجربة الاقتصادية اللافتة والنهضة الصناعية الفائقة لليابان المعاصر، ما هي سوى مظهر من مظاهر تعايش الروح الشرقية العميقة مع العالم المعاصر. إذ لم تتغرْبن اليابان ولم تتأوْرب، وفق منظور كلود ليفي ستروس، حتى تتحول إلى قوة تحضّر ضاربة، بل سعت جاهدة إلى بناء توازن بين القديم والحديث، بين الأصالة والمعاصرة. مبرزاً أن التعاطي الياباني مع المشاكل الاقتصادية ومساعي التحكم فيها، يستند إلى مرجعية حضارية ومنظور أخلاقي عميقين. وعلى الشاكلة ذاتها في معالجة المشاكل البيئية العويصة بغرض تفاديها، ناهيك عن أشكال التعامل مع التحديات البيولوجية المطروحة، التي تنبئ بتغيير طبيعة الإنسان وفيزيونوميته، وهي مسائل تمس جوانب حميمة لدى الإنسان مثل الولادة الاصطناعية، والتحوير الجيني. في واقع الأمر عبّر استلهام كلود ليفي ستروس للحضارة اليابانية عن قلق عميق ساوره بشأن ما يواجهه العالم المعاصر وهو على عتبة الألفية الثالثة. سيما وأن عالمنا يعيش، كما أطلق عليه «تفجراً إيديولوجياً» مشوباً بمسحة أصولية ذات طابع سياسي (الشيوعية، الليبرالية المتوحشة، الشمولية)، وذات طابع ديني متسرب في عديد التقاليد، ليس الإبراهيمية فحسب التي طالما اتهمت بالتشدد، بل الأديان الهندية والصينية واليابانية أيضاً، التي لم تبق بمنأى عن تلك المساوئ، ما يجعل الأصولية الدينية داءً متفشياً بين عديد الأديان، وهو ما يتطلب مراجعات عميقة في الروح الكونية بقصد بلوغ الإيلاف الجامع. وفي كتابه لا يزعم كلود ليفي ستروس أنه عثر على الإجابات الشافية لمشاكل العالم الحديث؛ بل يحاول تفهم هذه القضايا من زوايا مغايرة غير الرؤية الغربية المهيمنة. وكأن الرجل يلحّ، بعد مسيرة تأمّل طويلة في ثقافات الشعوب، على أن العالم واحد ومشاكله مشتركة، وبالتالي من الأحرى البحث عن حلول جماعية له وليس عن حلول فردية، كما هو سائد في عالم السياسة اليوم. ذلك ما تريد الأنثروبولوجيا أن تؤسس له وفق ليفي ستروس، باعتماد رؤية إنسانية في حل مشاكله. فمن الإجحاف والغرور أن يزعم الغرب بمفرده حلّ مشاكل العالم بأسره، ومن الخطأ الانجرار إلى ذلك الادعاء، وما على بقية الشعوب إلا أن تؤمن بذاتها الحضارية وألا تقع فريسة الشك بفعل السطوة الغربية. حضارة تعوزها بوصلة في جانب تناول مسألة «قضايا العصر الكبرى» يبرز كلود ليفي ستروس أن الغرب يجرنا صوب مسار لانهائي من الإنتاج والاستهلاك والاستنزاف، ينزع عن الإنسان إنسانيته، ما يملي ضرورة التنبه إلى هذه الدوامة التي ينجرف نحوها العالم بأسره، والسعي لتبنّي مفهوم التقدم المسؤول، معلناً أن «الحضارة في شكلها الغربي قد فقدت بوصلتها، أي فقدت عمقها الإنساني، وهي عاجزة عن منح ذلك لغيرها» (ص: 56). ففي الوقت الذي بلغت فيه الحضارة الغربية طريقاً مسدوداً، واستعصى عليها التحليق بالإنسان في رحاب كون آمن وعادل، يتوجب عليها الانفتاح على الإنسان عامة دون التحدد بمجال جغرافي، كما يتوجب عليها التعلم من المجتمعات المتواضعة التي طالما وصمتها بنعوت مشينة. صحيح أن أرْشفة التراث الإنساني قد مثّلت إحدى المهام البارزة للأنثروبولوجيا، لتكتشف في أعقاب ذلك التجميع، أنه بواسطة ذلك الحشد من التجارب الغريبة والهامشية يمكن للإنسان أن يخرج من مأزقه؛ وكأن ليفي ستروس يذكرنا بذلك القول المأثور عن المسيح عليه السلام «الحجر الذي رفضه البناؤون قد صار رأس الزاوية». فلطالما جرى حجب الاختلافات من عالمنا، ليظهر نمط واحد وسبيل أوحد، وتلك النظرة قد سادت في قطاعات شتى سياسية وثقافية واجتماعية وهي نظرة قاصرة وجزئية. إذ الأجدى كما أوضح جان جاك روسو «أن نعاين كل الاختلافات لاكتشاف عناصر التقارب». وفي خضم ذلك الحفاظ على الذاكرة البشرية الذي أتته الأنثروبولوجيا المبكرة، وعلى ما فيه من نقائص، تبيّـن أن الشعوب «البدائية» التي انصبّت عليها الدراسة كانت متكونة من شعوب شبيهة بنا وليس كما تصورنا أنها تفصلنا عنا أحقاب مديدة، وما كانت تعاني البتة من اضطرابات أو عاهات على غرار البرص أو الكساح أو الجذام أو الأمراض السرطانية أو الأورام الخبيثة، التي تهدد سلامة البشر، والتي تبدو آثارها ظاهرة. وما إن حل الأوروبيون بالقارة الأميركية، حتى تراجعت أعداد شعوب المكسيك والبيرو من مئة مليون تقريباً إلى أربعة أو خمسة ملايين من البشر، وما كان ذلك التراجع المريب في العدد عائداً إلى أفعال «الكونكويستادور» (الغزاة) فحسب؛ بل كان جراء عاهات استجلبها الغزاة تحت وقع أنماط الحياة الجديدة، فظهرت اختلالات اجتماعية ما كانت موجودة أصلاً (ص: 86). فقد أبانت المجتمعات التي درسها علماء الأنثروبولوجيا أنها استطاعت تحقيق توازنها الذي يعجز الإنسان المعاصر عن بلوغه وضمانه. بل يذهب كلود ليفي ستروس إلى أبعد من ذلك، أن المجتمعات التي أطلقنا عليها صفة «البدائية» والتي تجهل الزراعة وتربية الحيوان، أو تلك التي لم تعرف صناعة الأواني أو الحياكة وتعيش أساساً على الصيد والقنص وجني الثمار البرية، ما كانت تخشى الموت جوعاً، ولا تتهددها آفات الانقراض، وقد عاشت البشرية على هذا النمط، على مدى عشرات ألوف السنين (ص: 103). الأنثروبولوجيا كالرجم بالغيب! في الفصل الأخير من الكتاب «الاعتراف بالتنوع الثقافي»، وهو المحاضرة الثالثة التي ألقاها في طوكيو، يقول ليفي ستروس إن عديد المجتمعات الإيزوتيكية (الغرائبية) التي جرى تناولها من قِبل علماء الأنثروبولوجيا قد تمت دراستها عن بُعْد. وفي الحالات التي حضر فيها الباحث على عين المكان غالباً ما كانت تعوزه أدوات الإلمام اللغوية والسلوكية والمعيشية بتلك المجتمعات. ومن هذا التباعد بين المنظورين برزت مغالطات عديدة في مقولات الأنثروبولوجيين بشأن المجتمعات الغرائبية. وبالإضافة إلى ذلك، أن الاقتراب من تلك المجتمعات لم يفصح عن فهْم عقلية تلك الشعوب، فأحياناً تخطّي الباحث الغربي «البُعد الجغرافي» أبقاه رهين «البُعد الذهني» و«البُعد العقلي» عن تلك المجتمعات. حيث يكتفي الباحث الأنثروبولوجي بالوصف الظاهري لتلك المجتمعات دون غوصٍ في غور عقليتها. يقول ليفي ستروس: «في هذه الحالة تشبه دراسة الأنثروبولوجي الرجم بالغيب»، والحال أن هدف الأنثروبولوجيا بوصفها «علم- الإنسان» هو بلوغ الموضوعية في الوصف، والتجرد في الحكم، والعمق في الفهم، وهي عناصر قلّما اجتمعت أو توفرت لدى الأنثروبولوجي الغربي (ص: 120). إن عدم توفر تلك العُدّة من شأنه أن يحجب صفة العلمية عن الأنثروبولوجيا، وهو ما ينسحب بالمثل على مجمل العلوم الإنسانية والاجتماعية التي قارب من خلالها الاستشراق الغربي حضارات الشرق. ولكن الحياد العلمي المطلوب، وحده لا يكفي، فهناك عنصرٌ آخر تتطلع الأنثروبولوجيا إلى بلوغه وهو عنصر الدراسة الموسَّعة والمسح الشامل. فالأنثروبولوجي يرى الحياة الاجتماعية كلاً مترابطاً ومتكاملاً بشكل عضوي، وهو ما يعني أن تعميق المعرفة بأصناف الظواهر يقتضي الإلمام والإحاطة بالكل على الطريقة التي تشتغل بها العلوم الصحيحة. ذلك أن الأنثروبولوجي ببحثه عن ذلك الجامع الكامن وراء شتى التنوعات في الحياة الاجتماعية، فهذا ما يجعله يقف على القواعد والمبادئ الناظمة، وفي غياب تلك الشمولية يتعذر بناء أحكام عامة وصائبة. وبحسب ليفي ستروس فإن أي حضارة لن يتيسر وعي ذاتها والكشف عن عمقها ما لم يتسنّ لأهلها دراسة الحضارات الأخرى بالطريقة نفسها والمنهج ذاته، وهو ما يسمح بالمقارنة الرصينة. ولمعرفة الحضارة الذاتية وفهمها من الضروري تعلّم النظر إليها من وجهة نظر الآخر: بما يشبه ما كان يأتيه الممثل المسرحي الياباني الشهير نوو (N?) لِيحكم على عمله المسرحي، كان يتدرّب على النظر إلى ذاته وكأنه متفرج، أي يضع نفسه موضع المشاهد لا الممثل. ولعلّ الدرس الهام الذي خلّفه مفكرو النهضة الأوروبية من الجهة المقابلة، هو النظر إلى الثقافات والمعتقدات الأوروبية من منظور الآخرين ومعتقداتهم. إذ خلال القرن التاسع عشر وجدت «الإنسانوية الغرائبية» نفسها مرتبطةً أشدّ الارتباط بمصالح البرجوزاية الصناعية والتجارية. وبعد تلك الإنسانوية الأرستقراطية ثم وريثتها البرجوازية شهدت الأنثروبولوجيا تحولاً خلّف تحرراً منهجياً ومعرفياً. ضمن هذا السياق جرى تأسيس ما أطلق عليه ليفي ستروس «الإنسانوية الديمقراطية» والتي تخطّت الأشكال الأنثروبولوجية السابقة لتتوفر القدرة للأنثروبولوجيا للإسهام في عرض مقترحات عامة للبشرية. وعبر مختلف أشكال التحولات المنهجية هذه يخلص ليفي ستروس إلى إخفاق الإنسانوية الغربية في إيجاد حلول جذرية لمشاكل البشرية، فقد جرّت تلك الإنسانوية إلى حروب عالمية، وإلى أزمات طاحنة، وإلى إبادات جماعية، ليس ذلك فحسب؛ بل امتد الأمر إلى تهديد كوكبنا بأسره جراء التلوث وتدني المصادر الضرورية نتيجة الإجحاف والجشع في الاستغلال. في خاتمة كتابه يتساءل كلود ليفي ستروس: أوليس مختلف التفجرات الإيديولوجية الجارية منذ قرن أو أكثر، مثل الشيوعية والماركسية وسائر أشكال النظم الشمولية التي لم تخبُ بعد في العالم الثالث أو تلك المعاصرة المتصلة بتفجرات الأصولية، أوليس جميعها ردود أفعال رافضة بعمق للأوضاع الحياتية التي تقطع بعنف مع الماضي؟ «شرق» الأمل يحاول الباحث العودة إلى ماضي شعوب الشرق، واستلهام مخزونها القِيمي والروحي في التعاطي مع مشاكل العالم، باعتبار ثقافة الشرق اليوم هي الأمل المتبقي للخروج من مآزق الراهن. فالتجربة الاقتصادية اللافتة والنهضة الصناعية الفائقة لليابان المعاصر، ما هي سوى مظهر من مظاهر تعايش الروح الشرقية العميقة مع العالم المعاصر. إذ لم تتغرْبن اليابان ولم تتأوْرب، وفق منظور كلود ليفي ستروس، حتى تتحول إلى قوة تحضّر ضاربة، بل سعت جاهدة إلى بناء توازن بين القديم والحديث، بين الأصالة والمعاصرة. مغالطات في الفصل الأخير من الكتاب «الاعتراف بالتنوع الثقافي» يقول ليفي ستروس، إن عديد المجتمعات الإيزوتيكية (الغرائبية) التي جرى تناولها من قِبل علماء الأنثروبولوجيا قد تمت دراستها عن بُعْد. وفي الحالات التي حضر فيها الباحث على عين المكان غالباً ما كانت تعوزه أدوات الإلمام اللغوية والسلوكية والمعيشية بتلك المجتمعات. من هذا التباعد بين المنظورين برزت مغالطات عديدة في مقولات الأنثروبولوجيين بشأن المجتمعات الغرائبية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©