السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دال نقطة

19 أغسطس 2007 01:54
- أهلا يا دكتور.. نظرت حولي وأمامي وخلفي، فلم أجد أحدا غيري· فعلمت أنني الدكتور المقصود· فهذه من أعجب الصدف التي باتت كما القاعدة في حياتي (بلا أسلحة ولا مجاهدين)، حيث أجد في كل بيئة أنتمي إليها من يمنحني لقب ''دكتور'' مجانا أو بالدفع المؤجل· يربكني الأمر في البداية، فأحاول أن أوضح بأنني أبعد خلق الله عن الدكترة، فأنا لا أعرف حقيقة الفارق بين أنفلونزا الطيور وأنفلونزا البشر، ولا أتقن فن التمييز بين النزلة الشعبية والرقص الفولكلوري، ولا أستطيع أن أرسم الحدود الجغرافية بين الحجاب الحاجز وجدار شارون الفاصل· وعندما أجد أن حججي لا تنفع، ولا تقنع، فإني ''أطنش'' راضيا من قدري بلقب ''دكتور'' بغض النظر عن الجدارة والاستحقاق· والألقاب في ثقافتنا، تهمة أو منحة جاهزة، نقتنصها أو تقتنصنا· أذكر أن جارنا الحاج أبو عفيف، الكندرجي (الصرماتي، أكرمكم الله)، لم يجود عليّ بصفة أستاذ إلا بعد أن ''نفحته'' تحليلا لا يقبل التسفيه، عن عقم بيريسترويكا غورباتشوف، وجنوح المنظومة الشيوعية إلى السقوط تأسيسا على الخلل البنيوي في خلفيتها الآيديولوجية· فأيدني أبو عفيف بجملة تحمل كل المعاني: ''الله ينوّر عليك يا أستاذ''· وعندما وصلت إلى القاهرة حملت على الفور لقب ''بيه''، وعندما عدت بعد سنوات، وجدت أن رتبتي ارتفعت إلى ''يا سعادة الباشا''· وقرأت في التاريخ المصري، أن تجار القطن وأثرياء البورصة كانوا يشترون الباشوية بعزب وأطيان، لكنني حصلت عليها بالمجان· كل هذه المقدمة هي استطراد أو هامش على الموضوع الأساسي الذي يشير إليه العنوان· فقد استقبلني صديقي وعلامات الأسى بادية على وجهه ولما استفسرت منه عن الخطب فاجأني بقوله: أتذكر زميلنا فلان الذي تخرج أخيرا من الجامعة؟ لقد أصيب المسكين بمرض دال النقطة· أقلقني الخبر فعلا، لكني وبناء على معلوماتي الطبية المتواضعة، صححت للصديق كلامه بالقول: تقصد داء النقطة·· ذلك المرض الخطير الذي يغيب المصاب به عن الوعي في لحظات معينة فيسقط أرضا··· وهذا المرض يتطور كلما تقدم صاحبه في السن· رد الصديق مؤكدا انه يقصد (دال النقطة) وهو في أعراضه لا يختلف كثيرا عن داء النقطة، كون المصاب به يغيب عن الوعي فعلا لكن بشكل شبه دائم، ولا يسقط فيه على الأرض، بل يسقط في هالة الدال ويتصرف وكأنه واحد من عباقرة هذا الزمان· أمام حيرتي تابع الشرح: فزميلنا أضيف إلى اسمه أخيرا لقب ''دكتور'' في اختصاصه ويبدو أنه قرر أن هذا اللقب ينبغي ألا يقتصر على الاسم فقط، بل لا بد أن يشمل أيضا ''الكسم'' والتصرف والسلوك· فباتت كلمته لا ترد ورأيه لا يخضع للنقاش ووجهة نظره هي الجامعة المانعة التي تأبى الخطأ أو المراجعة· فلا يستطيع أحد أن يقول له ''تلت التلاتة كام'' وفوق ذلك ''نفش ريشه'' في رواحه ومجيئه بطريقة استعراضية وكأنه يطل على الناس من عل· ويضيف محدثي إن كل ذلك يبقى في نطاق الممكن، لولا أنه فرض على كل من حوله ألا يتوجهوا إلى مقامه من دون استخدام لقبه الجديد، وسمعت فيما سمعت انه عنف أمه لما سألته: أتريد أن تأكل الآن يا حبيبي؟ فقد كان عليها أن تستبدل حبها لإبنها بـ ''يا حضرة الدكتور''· جعلتني هذه الحكاية أقلب الأمر من وجوهه المختلفة· فقد التقيت طوال حياتي الجامعية في بلادنا وبلاد ''برة'' بأساتذة مرموقين وذوي أسماء طنانة في الأوساط الأكاديمية، كان لا يجري خيالي إلى أن الحظ سيحالفني والتقي بهم أو أتتلمذ على أيديهم، وكان الذي يجذبني في هؤلاء ليس غزارة معلوماتهم ومنهجية تفكيرهم، لكن تواضعهم الشخصي والمعرفي· وأذكر إنني وزملائي كنا نخاطب هيئة المدرسين من حملة ألقاب ''دكتور'' و''بروفسور'' بأسمائهم المجردة أو ما يسمونه ''نك نايم'' مثل ''ريتش'' بدل ريتشارد و''فل'' بدل فيليب وغير ذلك كثير· هذا من حيث المظهر، أما من حيث المخبر، فلطالما دهشت لأكاديميين محترمين يعترفون بأخطائهم إذا ما استطاع أحد الطلبة إقناعهم بوجهة نظره، وفي مواقف أخرى كانوا يطلبون مهلة من الوقت لتوثيق معلوماتهم والتأكد منها قبل أن يقدموا إجابتهم عن سؤال جديد يوجه إليهم· اعتقد إن هذه المسألة في عالمنا العربي تحتاج إلى وقفة ومراجعة· وأخشى ما أخشاه أن تصبح عنجهية الدكتوراه تمثل عند البعض حالة من الاكتفاء الذاتي والتشبع العلمي وبالتالي تصبح ورقة الشهادة مثل شهادة الميلاد فحسب، تؤكد أن فلان بن علان، حائز على درجة علمية مرموقة وهو مازال على قيد الحياة بدليل أن زوجته وأمه وأصحاب دكاكين الحلاقة والجزارة والبقالة ينادونه جميعا بـ ''يا دكتور''· وأعتقد، أيضا، أن جانبا من المشكلة يصنعه أولئك الذين ينمون عند أصحاب الألقاب الإحساس بالامتياز وليس التميز· أولئك الذين ينظرون إلى الدكتور وكأن اللقب الذي يحمله هو إعجاز وليس إنجازا، وأنه فطر على أن يكون دكتورا منذ أيام الرضاعة الأولى ولم يكتسب الأمر بسهر الليالي، ولذلك يصح أن يطلق عليه لقب ''دكتور بالرضاعة''· وحينما يختصر اللقب صاحبه، فان التواضع يصبح سمة العقل لا فضيلة القلب وسماحة النفس· فيستعيض المصاب (ونحن نتحدث عن مرض) بساطة المعلومة بتعقيد الفكرة وسهولة التعبير بتقعير اللغة، كمحاولة للإبقاء على ما يظن أنه ضروري لصاحب دال النقطة· وتحضرني في هذا السياق حكاية، لا أعرف مدى صحتها، سمعتها عن حامل للقب ''دكتور'' في مجال الهندسة الكهربائية· فقد ''طقت'' لمبة النور في صالة منزله وطلبت منه زوجته أن يستبدلها، ولأنه لا يستطيع التمرد على المهمة السخيفة التي كلفته بها الزوجة العزيزة، ولأنه ''دكتور'' فقد استنبط لتنفيذ المهمة، طريقة مبتكرة تليق بمقام ''حضرته'' الرفيع· وبعد استغراقه كـ ''عالم'' في التفكير·· انفجرت قرحته، أقصد انفرجت قريحته عن اختراع مثالي: فقد ثبت طاولة مستديرة على عامود مرتبط بقاعدة حديدية تدور حول نفسها، واعتلى الطاولة ممسكا باللمبة الجديدة طالبا من زوجته أن تدير الطاولة باتجاه عقارب الساعة· سعادته كانت بالطبع عارمة عندما انتهى من تنفيذ تلك المهمة الخطيرة بابتكاره الفذ، واعدا زوجته أنه في المرة التالية سوف يجعل الطاولة تدور لوحدها بطريقة أوتوماتيكية، ليسجل بعدها براءة هذا الاختراع باسمه! ملحوظة: كل الأصدقاء والزملاء الذين يحملون لقب دال نقطة، أبرياء من إسقاطات هذا المقال، باستثناء··· واحد مهم·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©