الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

النمرود: احتفال مشهدي يذيب النص التاريخي في الرؤية المعاصرة

النمرود: احتفال مشهدي يذيب النص التاريخي في الرؤية المعاصرة
20 مارس 2008 02:31
(نحن كبشر زائلون، ويبقى المسرح ما بقيت الحياة)· أطلق صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة هذه العبارة تحت قبة اليونسكو في باريس العام الماضي ضمن كلمته التاريخية بمناسبة الاحتفال باليوم العالمي للمسرح، وهي العبارة التي لا تضيق مراميها رغم اتساع المعنى، لأنها تقيس عظمة الأثر، بما يقدمه المؤثر، وعندما يكون فن المسرح هو الفن المؤثر هنا، فإنه يعمل دون شك ضد الزوال، وضد المحو، وضد ما يفند الأصالة المتجاوزة لثباتها، لأن الأصالة في المسرح لا تصادر العيش في الحاضر، ولا تمنع القفز إلى المستقبل· ومسرحية ''النمرود'' هي النص المسرحي الخامس لسلطان القاسمي بعد ''عودة هولاكو'' العام ،98 و''القضية'' ،2000 و''الواقع صورة طبق الأصل'' ،2001 و''الإسكندر الأكبر'' ،2007 وهي نصوص تحاور الماضي بلسان الحاضر، وتسقط القديم على الراهن، في جدلية لا تتوسل النسخ والنقل، بل المناورة والتشبيه والرمز، وهي أيضا نصوص تتكئ على الحكاية التاريخية كي تستشرف المستقبل، وتقول كلمتها بحكمة العارف ببواطن الأمور وأسرارها وغوامضها· ولأن خشبة المسرح هي أرض التأويلات الخصبة، وهي الفضاء الذي تركض فيه خيول التجريب، فإن الرهان على النص المكتوب دائما ما يتبعه الرهان على المخيلة والإخراجية والمعالجة المشهدية· ومن هنا تأتي مسرحية ''النمرود'' التي دشنت الدورة الثامنة عشرة لأيام الشارقة المسرحية كي تعيد الوصل بين الكتابة المهمومة بدرس التاريخ، وبين الإخراج المسكون بحداثة الطرح، وهذا التمازج بين ضدين، لا يعني أن لعبة الأضداد هي لعبة محفوفة دائما بالمخاطر، لأنها وعبر وسيط فني جامح هو المسرح، يمكن أن تتحول إلى مناخ بصري ولوحة مشهدية غاية في التنويع والابتكار والتجديد، تستقي من حس التحدي ما يعينها على البوح، وتقتبس من آليات الأداء ما يعزز غايات النص ودلالاته وشيفراته· أخرج التونسي المنصف السويسي نص ''النمرود'' لصالح فرقة مسرح الشارقة الوطني من منطلق هذه الجرأة وهذا التحدي، ويقول المنصف في هذا سياق توليه دفة النص: ''إنه نص يتخلص من هيمنة الحوار، ويخلص المسرح من ثرثرة الكلام ليترك المجال إلى لغة المسرح ومفرداتها البصرية ـ المرئية، فيحرر المسرح من سطوة الأدب عليه ليجعله زاخرا بالمشهدية والحركة وبالمفردات المسرحية الحاملة للمعاني والأفكارعبر التعبير الجمالي والدرامي للفن الرابع''· الظل والأقنعة وإخلاص السويسي للمفردة البصرية والتأثير السمعي كانا واضحين من خلال العرض، حيث وجدنا الميل الواضح للسينوغرافيا التشكيلية، والأزياء الكرنفالية والتنوعيات اللونية المصحوبة بموسيقا حية يتناوب عازفان بجانبي الخشبة على تصديرها وسط الجمهور، والاتكاء عليها كفواصل مريحة وسلسة بين مشهد وآخر ، كما لم يهمل المخرج تأثيرات الضوء وانعكاساته القادمة من ميراث مسرح الظل، وكذلك لعبة الأقنعة القادمة من تأثيرات المسرح الياباني، وتقاليد المسرح الإيطالي، ومن الثراء الإيحائي لمسرح الغروتيسك، ومن هنا الملامح والملابس والاكسسورات الافتراضية في العمل مهجوسة بالزمن الأسطوري والرواية المتراوحة بين الرمز والتأكيد، وبين الحكاية القديمة ومرادفاتها في حاضر المكان ومستقبله· تبدأ أولى مشاهد المسرحية بخلفية زرقاء وصوت مواويل بحرية يطلقها بحارة فقراء من خلال أداء حركي وإيحائي يتناوب بين النشوة والإعياء، ووسط هذه الأجواء المتقلبة نرى شخصاً غريباً محايداً ويرتدي قناعاً غامضاً وهو يستطلع المكان، ويبيّت شراً لسكان هذا الساحل· وبعد قطع مشهدي تمارسه موسيقا إيقاعية مليئة بحس مقلق وتشاؤمي، نرى أشخاصاً يساقون بشكل تعسفي أمام جنود أشداء يمارسون أشكال العنف والاضطهاد على هؤلاء السكان العزل والضعفاء· ولكن هذا المشهد على واقعيته لا يبدو حقيقياً بل يمزج بين الحلم والكابوس، ويتراوح بين الشك واليقين، وبين الملهاة والمأساة، ولكن المأساة تتحقق والنذير يصبح واقعاً عندما يقع هؤلاء السكان تحت رحمة الطاغية الذي يدعى ''الضحّاك'' ويحمل على كتفيه ما يشبه ثعبانين يخرجان من جسده ويخيف بهما الناس، ونكتشف أننا على بعد أربعة آلاف سنة عندما يحتل الضحاك مدينة بابل ويعيث فيها فساداً وقتلا وتدميراً· في المشهد التالي نرى الحداد (كابي) القادم من أصفهان وهو يخرج من خلفية القاعة متوجهاً ناحية خشبة المسرح ويصرخ وسط الجمهور : ''قتل أبنائي·· قتل أبنائي '' ويقصد بالقاتل الضحاك، وينادي بالثورة عليه من خلال منشورات يوزعها على سكان بابل، وعندما يسأله الأهالي عن الشخص المؤهل لأخذ مكان الضحاك، يتم اقتراح اسم النمرود بن كنعان، المشهور بقوته وجبروته كي يزيح الضحاك ويحلّ مكانه· يهزم النمرود الضحاك ويسجنه في مغارة، وتتحول نرجسية النمرود إلى شكل متصاعد من العظمة، تصل به إلى إدعاء الالوهية، وقتل كل من لا يؤمن به كإله وحيد على الأرض وفي السماء، ويصل به جنون العظمة إلى بناء برج بابل والوقوف على قمته لإثبات ربوبيته· وفي سياق مشهدي زاخر بالمؤثرات السمعية والبصرية ومكملات الفرجة المسرحية، يستمع النمرود لأصوات غامضة تناديه للحرب ضد عدو منتظر، وعندما يتأهب مع جنوده لملاقاة هذا الجيش القادم من الغيب، يفاجأ النمرود وجنوده بجيش هائل من البعوض المتوحش الذي يمعن في الفتك بالجنود وتحويلهم في لحظات إلى هياكل عظيمة عارية من المجد والحياة، وتتسلل بعوضة إلى أذن النمرود فتحيل حياته إلى جحيم ويظل يخبط برأسه في الجدران والأعمدة وينادي على الناس كي يضربوه على رأسه، وهنا يتسابق الناس المظلومون وينادون على بعضهم: (من أراد الإنتقام من النمــــرود فليــأت) والنمــــرود يرد عليهــــم بلا وعي: (أضربوني على رأسي) وتنهال الأحذية على رأس النمرود حتى يموت، وينتهي بموته فصل من الجحيم، وصفحة من سيرة تاريخية ملوثة بالدم والأشلاء والعذابات، نهاية تمزج بين المهزلة والصدمة، وبين الكوميديا والألم، كي تعبر عن النهايات الدرامية لحكم الطغاة، وكي تقول إن الطاغية مهما علا وتجبر سيجابه مصيراً عنيفاً وهزلياً يلغي كل تاريخه المبني على الوهم والكبرياء والمسنود على العسف والتخريب والفوضى· قام بأداء الأدوار المختلفة في العرض وبشكل متناوب من خلال الأقنعة الغرائبية حوالي ثلاثين ممثلا، وأدى شخصية النمرود الممثل الإماراتي القدير (أحمد الجسمي) والحاضر في جميع المسرحيات التي كتبها صاحب السمو حاكم الشارقة، وتميز الفنانون أحمد عبدالرزاق وأحمد ناصر وعادل الراي بأدائهم الحركي المتناغم مع رغبة المخرج في تحويل الجسد إلى وسيط تعبيري يتجاوز الشكل الحواري التقليدي والمعتاد في المسرح المحلي والعربي بشكل عام· ''النمرود'' في النهاية عمل يخرج عن أسر التناول الكلاسيكي للنص، ويحقق شروط الفرجة المسرحية عبر استغلال المساحات التأويلية للحكاية، وتحويل الخشبة إلى فضاء تجريبي وورشه للارتجال والابتكارالأدائي، وتطويع الجسد لصالح الجو الإيحائي والضمني للنص·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©