الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تأملات الصّحراء.. المعنى والضياع!

تأملات الصّحراء.. المعنى والضياع!
21 فبراير 2018 20:33
لا تبدوُ الصّحراءُ في تمثلاتِها مُجرد مكانٍ مُتخلى عنـه كما تُوحي بذلك دلالتُها الأولى، المأخوذة من القاموسِ المصري القديم، فهذا المصطلح المهجور يكتنفهُ ـ هوّ نفسـهُ ـ ترحالٌ مُستمرٍ كما هيّ الصّحراء من الخارج. استمدّ مصطلح الصّحراءُ هيروغليفيتهُ الأولى من فعلٍ لاتيني مُقفر، وسيأخذُ دلالةً متخلى عنها، ويتوقفَ قبل أن يستأنف المسيرَ في لغاتٍ مختلفة لن تلامسَ أبداً عمقها، فالصّحراءُ أبعادٌ مُتعددة، كثافة هائلة، ومعانٍ تتكاثرُ في المدى المؤثثِ بالحصى الذي ينحوُ مُتحركاً للمجهولِ في ترحالٍ حثيث يُعلّمُ بِه البدوُ الرّحل المشيَ لأطفالهم الذين ولدوا في الرّيح. وآفاقِ شاسعة تنمو فيها الدلالاتُ والأسئلةِ والعطش وتتفتُح فيها المعاني، وتذبل، ولا تنتهي حتى تبدأ من جديد كُثباناً عظيمة تحرسُ الليلَ من الذئابِ والغزاة، وحباتٌ رملٍ لا كينونة لها، وهيّ تتجاوزُ في المكانَ وتتصادمُ في الزّمان. تَرتبطُ الصّحراءُ في المِخيالِ بالمنفى والموتِ والعطش، وفوق ذلك هي مسالك متعددة لا تُفضي للأبدية، وتنضافُ لهذه الصورة التي تتوالدُ في ذهنِ من ينظرُ للصحراءِ كمجردِ لحظاتٍ قاسية في بهجةِ هذا العالم العائم، القافلة والجملَ المتداعي في الأحلامِ القلقة للرّعاة، لكنّ دلالاتٍ أخرى كانت لهذه الصّحراء الأخيرة، تجسّدت مَعاني تفيضُ صُوراً وكلماتٍ ومُزناً غوادي تُبللّ الظلّ والرّوح، الريح والرّمل، قُوسَ قُزحٍ في بلادٍ لا تُمطر، فكانت الصّحراء - العطشى للمفارقة - خصوبةٌ في الشِعر، ومرآةٌ للعزلة، وخيالاً دافئاً، وعرشاً قديماً للألوان اللامتناهية، ومكاناً تتقدُ في ثناياه شهوة الحلم! ولا تفتأ هذه الصّحراءُ تُربِكُ وتُبهر في تجلياتها الفريدة والغريبة، ففوقَ كونها مفزعةٌ للصّيرورة، لا سطوة للزّمن عليها، والمكان فيها مُتحرك، صحراءٌ لا تختلفُ في جوهرها الجلي والغامض في آنٍ باختلافِ الأنساقِ أو السيّاق، واحدة في التاريخ والجغرافيا بخصائصها وبطبيعتها، فكما كان السّحابُ هوّ البريدُ بين القارات، كانت هيّ الحمامُ الزاجلُ بينَ الأقطار، بذاتِ الرّملِ والنّفس، الذي لم يكن سِوى ريحٍ تهُبّ من أقصى أقاصي الشّمال حتى جنوبِ الجنوب، ولطالما حيّرتِ وأدهشت الفلاسفة والشّعراء! المعنى فبقدر ما كانتِ السّواحلُ تَغمرُ النّصوص حتى تنتهي لماءٍ تنموُ في طفولتـهِ أزهارُ المعاني لامعة وضّاءة ورقراقة، من بلاد المكسيك حيثُ أوكتافيو باث الذي كان شجرة وتكلمّ بستان حروف حين انفجرت موجة فراشاتٍ من الملح على ساحلِ موريتانيا على حدّ تعبيرهِ، وحتى مسيسبي فوكنر والقاضي الأخير جون غريشام، كانتِ الصّحاري هيّ الأخرى تنسابُ مجازاً في تِذكارِ العالمِ لنفسـهِ سرداً وشاعرية، وفي مخيلة الأعمى بورخيس الذي وهبَ الرؤية في عينيـهِ لبوينس أيرس التي لم تكن في معناها اللاتيني سوى استمرارٍ لهذه الانسيابية المذهلة للصّحراء التي لا يكبح جموحها الماءُ والشّجر في كلّ الخرائط، حيثُ تعني الهواء العليل أو الرّيح الطيبة، فكانت الصّحراءُ بريحها العليلة حاضرة بقوة في غابات السّرد، ضمن تزاوجٍ مخيف بين الغابات والكثبان، أبان عنه الإرثُ الفاتن لهذا الأرجنتيني الذي عمّ الظلامُ فجأةٌ بين يديه. لقد أغوتِ هذه الصّحراءِ الأبدية في كلّ الأزمنة والزوايا هذا الكاتب الفذ، فرفعتهُ أعلى من الأحلام، ورتبت وجهة نظرهِ للأشياء، تلكَ الأشياء التي لم يفقدها بفقده لبصرهِ، فمن خلال يومياتِ القارئ النّهم ألبرتو مانغويل الأثير نجدهُ يُشددُ في صفة القصيدة، وكيف يريدها «صحراءَ سرّية»، إذ لا تكفيه أن تكون «صحراء ساحرة» كما يُخبرنا مانغويل الذي وجدَ الكمالَ في «المكتبة في الليل» ولطالما وجدَ الكِتابَ مثل الرّمل «فليس للرمل وللكتاب أيّ بدايةٍ أو نهاية». وجذبت من أعماقِ السينِ في مدينة الجنِ والملائكة أدمونَ جابيس الذي لم يترك خلفهُ سوى الرمل وهوّ يمشي، حدّ أن صارت «أرضي وسفري وتيهي» كما همسَ لنا والأنوار السّاطعة تتصاعد منه. إنّ إغواءَ الصّحراء لا حُدود له، لاذع ومجنون، وطاغٍ، فلوكليزيو خلع لغتهُ على الزّمن، في أفقٍ صحراوي جعلهُ يتمدّد في روايتهُ التي عاشها بكلِ نفسٍ وشغف، حتى ألبيرتو فاثغس فيكيورا فقد استسلمَ لهذا الإغواءِ وغادر في هذه الصّحراء من خلالِ الرّجال الرزّق فصقلت ريحُ الصّحراءِ حروف لغتهِ الإسبانية، ولن تكفَ هذه الصّحراءِ حتى تنتهي حالة لدى أدونيس، إن كان قد بقى منها شيء بعد إبراهيم الكوني! الضياع في هذا الأفق، وبعد أن انطفأت كلُ الآفاقِ التي هرعَ نحوها واحداً تلو الآخر، ذاق «الأمير الصغير» أنطوان سانت أكسوبيري طعم الصّحراء فتواجدَ مع رمالها بعد أن سقطت طائرتهُ في «أرض البشر» رفقة وريغيل وغيوما قُربَ قلعة إنواكشوط الصّغيرة، وقد شبّه هذه المدينة التي أوجدَ فيها جداولَ الماءِ مرّتين بالجزيرة الضّائعة في البحر، وكان هوّ نفسـه ضائعاً في فندق الألف نجمة، في ليلِها اللامتناهيِ حيثُ الغزارة والعمقِ، وقد كانت كتابتهُ تكثيفاً لهذا الليل وهذه الصّحراء التي تكبرُ كلّ مرة. وفي ذاتِ الضّياع الفاتن كان ماكنساس تائهاً قبل أن ينتهي لوحة جمالية أخذ الضياعُ فيها معنى جميلاً، فنجدهُ في مذكراتِه يفردُ فصلاً عن سفره إلى موريتانيا (1923)، حيثُ يذكرُ أنه كان يَغتنمُ أخرَ ضياء النّهار ليعتلي كثيباً حتى يتمكنَ من مشاهدة غروب الشّمس، فبدا كأنه يريد أن ينقض، فلما اعتلى الكثيب أخذ يُشاهدُ الشّمسَ وهيّ تغيبُ خلفَ الكثبان ورأى بناظره من خلال تضاريس هذه الكثبان الخط الداكن للبحر الذي ظهر له من جديد، ليحددّ طريقهُ بعد ذلك. وكان ضياعُ أبناءُ هذه الصّحراء فاتناً، فقد كانتِ القدرة على قراءة الأرض لمعرفة موقعها خاصةٌ في الليل أمراً معروفاً ومثارَ اندهاش، فكانوا لا يضيعون الكثبانِ المعلقة عيونهم بها مهما ابتعدوا! الدلالة وفي روايات الأصول التي تُولد في نقاط التلاقي بين الأسطورة والتّاريخ ستحضرُ الصّحراء برمالها ورائحتها كتيمةٍ دالة على نحوٍ رقيق. وسوف تعطيّ روايات تأسيس المدن التاريخية في موريتانيا كذلك أهمية خاصةَ لـ«رائحة الرّمل» المنبعثة من الدفاترِ العتيقة للباحثِ الأنثروبولوجي الراحل بيير بونت الذي أفنى عقوداً طويلة في هذه الصّحراءِ، وستشكلُ الرّمالُ مطراً مُستمراً يَعبرُ منامـهُ الطّويل حتى لو حالت بينه وبين الصّحراء ريح باردة. إنّ هذا الرّملَ الذي يَجتمعُ ويتمُ طحنهُ وتركهُ منساباً للتعرفِ عليه باللمس سَيقودُ لتجربةٍ حسية فريدة حين تحضرُ معه صفة العمى في هذه الرّوايات. ومن الظواهر الغريبة والطريفة في تاريخ الصحراء، أن الدليل والتكشيف (أي قائد القافلة فيما بين بلاد المغرب وبلاد السودان) يكونُ غالباً أعور العين الواحدة ومريض الثّانية. لقد ختم عالم الإنثربولوجيا أنفِ الذّكر بيير بونت حياتهُ بنصٍ أخير، أبانَ عن رؤيةٍ جمالية فريدة ورؤيةٌ أقربُ للشّاعرية من الإناسة، بهذه القدرة الفريدة على خلقِ الصّور التي يتمتعُ بها هذا العالم الكبير الذي «قاد البحثَ في الدور المحوري للقرابة في التشكلات القبلية الصّحراوية (الطوارقية، البيظانية)، وهي «موضوع بحوثه الأكثر اتساعاً إلى مواضيع بحثٍ أخرى» حسب البروفيسور عبد الودود ولد الشيخ، وصدرَ النّصُ مترجماً مؤخراً في الذّكرى الرابعة لوفاته ضمن «بيير بونت، عالم أنثروبولوجيا غرب الصّحراء» (جسور، 2017م). وقد كانت بينه وبينَ المدير النّاشر لـ «جسور» الدّكتور محمد ولد بوعليبة صلات علمية وطيدة، فنقرأ من رسالةٍ كتَبها له نُشرت في مقدمة الكتاب: «... إنها إذاً أمور كثيرة سوف تُشغلني مع أنّ لديّ إضافة إلى ذلك بعض المشاريع قيد النّشر. إذا كان ذلك يُهمكَ سوفَ أحيطكَ علماً، وهناك إمكانية للتعاون خاصةً في ما يتعلقُ بقراءةٍ للنّصوص العربية من هذا المنظور». وكان الدكتور ترجم له كتابينِ أحدهما هوّ ملخصٌ وضعهُ المؤلف لأطروحتهُ حول «إمارة أدرار» في الشّمال الموريتاني، وآخر حولَ «رواياتُ أصول غرب الصّحراء». وذكرَ الأنثروبولوجي الرّاحل في هذا النّص الذي حملَ «رائحة الرّمل» أنّ بحوثهُ التي كان يقومُ بها قادتهُ إلى التّعرف على شكلٍ غيرِ متُوقعٍ على تمثلاتِ الرّمل: والرّملُ في ظاهرهِ مادةٌ لا تتميزُ إلا بلونها وتركيبتها التي تجلبُ الغبطة إلى نفوسِ السّواح إذا ما وضعتِ الألوان والأشكال في قارورةٍ من الزّجاج الأبيض الشّفاف على نحوٍ يبرزُ جمالها. وللرّمل أيضاً رائحة مميزة حسبَ المكان، ويذكرُ بيير بونت أنّ هذه الصّفة تبرزُ في بعضِ رواياتِ غربِ الصّحراء، تلك الروايات التي تُحدثّنا عن مميّزات الأماكن المؤنسة في البادية وفي مقدمّتها لكصّور (مفرد أكصر، مدينة قديمةً غالباً ما تكونُ ذات طابعٍ قوافلي. توجدُ على امتدادِ الطّرق التّجارية) القديمة، وكذلك الآبار والطرّقِ المؤيدة لها والتي يسلكها المنمون والقوافل. لينتهي بعد أن يتجاوز عاصفة الرّمل، إلى أنّ تكرار الشّخصيات الضّريرة في روايات غرب الصّحراء، أوحى له بالتساؤل إن كان الأمر يتعلقُ بشخصياتٍ حقيقة أم أسطورية؟ وأثار فضوله كون المرشد المفضل لثيودور مونو، اشتهر بضعفِ بصرهِ المتزايد خلال رحلتهما عبر الصّحراء، مساهماً بذلك في خلق أسطورة ثيودو مونو بثيودور مونو نفسه. والأساطيرُ في الصّحراءِ عالم آخر! إن هذه الدلالات والمعاني لن تتوقفَ على الرّمل وحسب، فحركة الرّياح تحتَ الخيمة هيّ ما يُحددُ بهِ سكانُ البدوي الجهات، والخيمة نفسها ستكونُ ذات دلالةٍ تتجاوزُ السّكني إلى الأيديولوجي والسياسي، فشكلُ بناءِ الخيام الخارجي يجسّدُ على نحوٍ جليٍ خط نسبٍ ممتدٍ في شكل عائلةٍ واسعة. وما تخفي الصّحراءُ أعظم، لكن متى كانت تُبدي شيئاً؟ سؤال يطرحُ نفسهُ، فهيّ السّرُ الذي سيظلُ يمزّقنا دائماً، ونحملهُ جثمانَ أبديةٍ نَسهرُ عليه، فرغم رحلتنا الطّويلة نحوها في محاولة للتّعرف عليها، إلّا أنّنا وجدناها تولدُ من جديد كلّ مرة، ما جعلنا نرتبكٌ، ونُهزم، دون أن يتّحققَ لنا ماضٍ، ظنناهُ كان في هذا السفر، حين دخلناها، وفتشّنا زواياها، ورغم الحفرِ، يتبينُ لنا، أننا لم نلامسِ أعماقها، فهيّ أكبر، وجذورها تمتدُ لآخر الصّدى، مع ذلك لا بدّ من محاولة الوقوفِ عليها أكثر ومساءلتها، والولوج لأعماقها لأنّها في البدِ كانت، لا بدّ بها أن نكون! المكان الأخير ألفّ الزعيم الطارقي مانو ديك الذي انتهى على نحوٍ مأساوي في انفجار طائرةٍ إبان مفاوضاتهِ مع حكومة النّيجر في التسعينيات كِتاباً عنونهُ بشاعريةٍ مذهلة: «ولدتُ والرّمالُ في عيني» ذكرَ فيه أنّ أمه أنشدتهُ أن لا يبتعد، وأوصتهُ وصايا الخلودِ بالصّحراء بصفتها المكانُ الأخير الذي يُنقيّ الرّوح، والموتُ في الصّحراءِ لعبة لغوية لدى الطّوارق ألبسها حارسُ الصّحراء إبراهيم الكوني «ثوباً لم يُدنّس بسمِ الخياط». ولنا أنّ نسألَ على هامش هذه الولادة التي كانتِ الرّمالُ فيها على العيونِ قربِ البئر الذي غرف منه أبديتهُ هل بعد هذه الولادة الأثيرة مِن ممات؟ فلا البداية ولا النّهاية قادرةٌ على إطفاءِ الرّوح حين توقظُ الرّمال فيها أعماقاً وأكواناً جديدة. إنّ في حبّة الرّملِ مجرة!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©