الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«معبر الحضارات».. متحف الغرائب والعجائب

«معبر الحضارات».. متحف الغرائب والعجائب
12 فبراير 2014 22:10
عندما يعتزم المرء القيام بزيارة متحف ما، متخصص بالآثار أو اللُقى التاريخية، يَعِدُ نفسه بـ«وجبة دسمة» عن ثقافة البلد، الحاضن للمتحف، خصوصاً في العالم العربي، لأن المتاحف في بلداننا - بالغالب الأعم - تشرف عليها مؤسسات رسمية، تهتم، بل تقوم بالأساس على مبدأ أوحد، هو تجميع الموروث الثقافي للدولة، كونه يمثل فصلاً من فصول تاريخها في الماضي البعيد أو القريب، وفي الوقت عينه يشكل عنصراً مهما من عناصر هُويتها الوطنية أو الثقافية. والمعروف أن المؤسسات المتحفية تحتاج إلى موزانات سنوية ضخمة لتوظيف فريق كبير من المتخصصين المحترفين، للقيام بأعمال التجميع والحفظ والتوثيق والصيانة أو الرعاية، ناهيك عن أعمال الحراسة من اللصوص وعبث العابثين. إلا أن «متحف معبر الحضارات» الذي افتتحه سمو الشيخ ماجد بن محمد بن راشد آل مكتوم رئيس «هيئة دبي للثقافة والفنون»، الأسبوع الماضي في قرية الشندغة التراثية، هو متحف مغاير أو مفارق للمألوف أو المعروف من المتاحف العربية. نعم هناك محاولات فردية معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة، في مجال تأسيس المتاحف بالعالم العربي، منها على سبيل المثال «متحف قصر موسى» في بيت الدين بقضاء الشوف - جبل لبنان، الذي أسسه من الباب إلى المحراب ـ كما يقال ـ المثال اللبناني العبقري موسى المعماري، بدءاً من نحت حجر المبنى حجراً حجراً، حيث استغرق إنجازه أكثر من ثلاثين عاماً، وافتتح عام1997، وصولاً إلى تصميم معظم مقتنياته، التي تمحورت على عرض الحياة في لبنان خلال القرنين الماضيين، من خلال مجسمات شمعية، هذا بالإضافة إلى مجموعة من الأسلحة القديمة من العصر العثماني حتى الانتداب الفرنسي، تُعد من أكبر المجموعات بالشرق الأوسط، حيث يبلغ عددها 32 ألف قطعة سلاح. بينما «متحف معبر الحضارات» أراده المنصوري منذ البداية أن يغطي الإرث الحضاري للإنسانية جمعاء، فبعضها يوناني وروماني، والبعض الآخر صيني وهندي ومغولي وفارسي، فضلاً عن حضارات بلاد الرافدين ومصر القديمة واليمن، بالاضافة إلى الإرث الإسلامي، والأوروبي رجوعاً إلى عصر النهضة. وتعود بعض المقتنيات إلى الألف السادسة قبل الميلاد، ما يجعل المتلقي يضرب أخماس باسداس في متاهات شاسعة من عالم الاعجاب والاستغراب. صدق أو لا تصدق القراءة الأولى بـ«متحف معبر الحضارات» تدفع بالزائر إلى أقاصي الدهشة، بل تجعله يتأرجح على عتبات الحلم والخيال، حيث تلوح التساؤلات المحيرة والمربكة، أو بمعنى أدق، تَتَبَدَّى أطياف الغرائبية والعجائبية، تحت عنوان «صدق أو لا تصدق»، على مستويات عدة: المستوى الأول من الإعجاب، يُحيلُ المتلقي إلى الدهشة من عظمة وروعة محتويات المتحف، الكمية والكيفية، بكل المعاني الجمالية والفنية والمادية، التي لا يمكن اعتبارها ثروة ثقافية فقط، وإنما كنوز من عوالم «الف ليلة وليلة»، ولكنها حقيقية، ماثلة أمام عينيه، ويمكن أن يتلمسها بيديه. وتُوغل الدهشة بعالم الغرابة والعجب، عندما يكتشف المتلقي أن هذا الإنجاز الهائل، قائم على جهد فردي، صاحبه أحمد عبيد المنصوري، مؤسس المتحف، ومديره، من دون أن يتلقى أي شكل من أشكال الدعم أو المساندة، سواء من جهات رسمية أو أهلية أو أفراد، ما عدا المبنى، الذي قدمته بلدية دبي لإحتضان مقتنيات المتحف، وهو بيت حشر بن مكتوم آل مكتوم، الواقع في قرية الشندغة التراثية. ولا تقتصر الدهشة على حدود الجهود المبذولة، لتجميع هذه الكمية من اللقى الآثارية الفائقة العَظَمَة فحسب، وإنما أيضاً بقيمتها النقدية، إذا ما فكر صاحبها بمنطق تجاري وعرضها بالمزادات العالمية، فالحقيقة التي لا يخطئها العقل، أن تقدير أثمانها أمر لا يخلو من صعوبة، إن لم نقل يفوق قدرة المرء على جمع الأرقام وغوايتها وسحرها على الذات البشرية في عالم يتصحر ويتشيء فيه حتى الإنسان. في المستوى الثاني، لا يمكن وصف المتحف بأي شكل من الأشكال، بأنه متحف وطني، أو خليجي، أو عربي، وإنما هو بحق متحف عابر للحضارات الإنسانية، بمختلف أمكنتها وأزمنتها على مر التاريخ، إذ إن المتحف يحوز على كنوز ثقافية، تمثل علامات أو دلالات وهّاجة، على عبقرية الإعجاز الإنساني، الكامنة في روحه المتمردة، الثائرة على العسف والمظالم، المصممة بعزم ويقين، وإرادة لا تفتر أو تلين، على إشاعة الفن والجمال، بمواجهة القباحات وكل أشكال الموبقات، منذ فجر الإنسان الأول. المستوى الثالث من الإعجاب، يحيل المتلقي إلى الدهشة من الاحتراف العالي المستوى، والخبرة العميقة، بالمعنيين التوثيقي والتحقيقي، التي تميز بها مؤسس المتحف، فالمنصوري حرص على إعداد قاعدة بيانات وافية وشاملة لكل مقتنيات المتحف، وتحقق من صحة نسخ الكثير منها بالوسائل العلمية الحديثة، ومن خلال مؤسسات دولية معروفة تواصل معها، بغرض التثبت من أصالة القطع المعروضة بالمتحف، بعيداً عن شبهات التقليد أو التزوير، وهو يواصل بجهده وعلى نفقته الخاصة، التثبت من بقية مقتنياته، سواء منها المعروضة حاليا بالمتحف، أو التي ما زالت محفوظة لديه، بسبب ضيق المكان، حسب تعبيره. المستوى الرابع، يحيل الزائر إلى الدهشة من مفهوم المنصوري ورؤيته المبكرة، إلى مسألة التسامي الإنساني على كل ما يخدش أو يشوه المنجز الثقافي، أيٌ كانت هُويته، وتعاليه على النزعات العنصرية أو الشوفينية بكل أبعادها الإثنية الدينية أو العرقية، لجهة إشاعة روح التسامح على المكان برمته، بحيث يبدو ذلك جلياً، على جميع ملامح مقتنيات المتحف، من خلال حرصه الشديد على عرضها بأناقة معرفية وتوثيقية باذخة، بما لها وما عليها، كموروث ثقافي إنساني، يجب الاحتفاء به وتقديره بذات الدرجة سواء أكان محلياً أم إقليميا أم دولياً. المستوى الخامس، يحيل المتلقي إلى الدهشة من معرفة المنصوري العميقة بتاريخ دبي ودولة الإمارات عموماً، التي كانت تعرف تاريخيا باسم «ساحل عمان الشمالي»، كون المنطقة كانت منذ فجر التاريخ، إمّا مقرأ أو ممراً للحضارات الإنسانية قاطبة، كدلالة ناجزة على أصالة وعمق ثقافة التسامح، التي حرص قادة الدولة منذ لحظة الاستقلال والتأسيس على ترسيخها وتعميمها في كل مناحي الحياة، وفي كل منظومات الدولة الثقافية، وكل تطلعاتها أو أهدافها وآمالها المستقبلية. مجسمات أسطورية يتألف «متحف معبر الحضارات» القائم في بيت الشيخ حشر بن مكتوم آل مكتوم في قرية الشندغة التراثية، من أربعة أقسام ومكتبة، تضم بمجملها حوالي تسعمائة قطعة أثرية مختلفة الأنواع والأشكال. ويتكون القسم الأول من حوالي سبعين قطعة ما بين منحوتات برونزية ونحاسية وفخارية وخشبية بأحجام وقياسات مختلفة، تدور حول مجسمات لملوك وشخصيات تاريخية من حضارات متعددة، وبعض المنحوتات لحيوانات طبيعية وأخرى خرافية وأسطورية وطيور برية مختلفة الأجناس، أهمها منحوتة وعل يحمل على قرنيه مزهرية، تعود إلى «حضارة بني عبيد في أوروك»، التي كان يمتد نفوذها من بلاد الرافدين إلى منطقة الخليج وأجزاء من فارس، قبل خمسة آلاف وخمسمائة عام. وإلى جانبها مجموعة من المنحوتات الصغيرة الحجم لحيوانات بعضها متشابهة والبعض الآخر لوعول بذات الشكل السابق، تحمل مزهريات على قرونها. وكذلك منحوتات فرعونية، يعود بعضها إلى الألف الثالث قبل الميلاد. ومنحوتة من الحجم الصغير، مصممة من حجر «الألبستر»، تعود لمحارب حميري يتمنطق بسيف. وأخرى لثلاثة محاربين يقفون إلى جانب بعضهم البعض، وتعود إلى دولة حمير في الألف الأولى قبل الميلاد. سيوف وبنادق القسم الثاني يضم مجموعة كبيرة من السيوف والخناجر العربية والهندية والمغولية استخدمها أبناء الخليج في الأزمن الغابرة. بالإضافة إلى مجموعة أخرى من البنادق والطبنجات المختلفة الأنواع والطرازات، بعضها عثمانية وهولندية وبرتغالية وفرنسية وانجليزية وألمانية. ويعود بعضها إلى أربعة قرون مضت. القسم الثالث يضم مجموعة من المخطوطات والكتب المطبوعة، في الدين وعلوم الطب والجغرافيا والفلك والطبيعيات، عمرها قرابة ستة قرون. ومن ضمن المخطوطات «الموسوعة التاريخية الطبيعية» للباحث الروماني بلينوس عمرها قرابة الألفي عام، ونسخة قرآنية مخطوطة على الجلد، تعود للقرن الثالث الهجري، ومخطوطة «تقويم الأبدان في تدبير الإنسان» لكاتبها ابن الجزلة أبو علي يحي بن عيسى بن علي البغداداي من القرن الخامس عشر الميلادي. ونسختين من مخطوطة «كتاب تلخيص الآثار وعجائب الملك القهار» تأليف البحر الهمام العالم عبدالرشيد صالح بن نوري الباكوي (806 هجرية 1403 ميلادية)، الأولى باللغة الألمانية تعود إلى القرن الخامس عشر، والأخرى مكتوبة بالعربية والفرنسية تعود للقرن السابع عشر. القسم الرابع يضم كتباً مطبوعة، يعود بعضها إلى القرن السابع عشر، من بينها أول دراسة علمية طبعت في كتاب، عام 1806 حول معدة الجمل وسعة خزانه المائي، وسرعته في الصحراء وقوة احتماله البدنية. مؤلف الكتاب هو العالم الألماني رينيل جيمس. ومن أهم مقتنيات القسم الرابع صينية نحاسية من الحجم الكبير، نُقِشَ في وسطها صورة نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو يجلس على عرش مصر، وحوله مجموعة رسوم تشخص يوسف النبي الله وهو يفسر حلم أخناتون، وأخرى يقص فيه رؤياه على أبيه نبي الله يعقوب عليه السلام، وثالثة ليعقوب النبي وهو يرسل الغلام يوسف مع أخوته، ورابعة ليوسف النبي وأخوته وهم يُلقونه بالجب، وخامسة لإخوته يعودون بقيمصه لأبيهم، وسادسة للسيارة الذين يخرجون يوسف النبي من البئر. وتم تزويد جميع الصور بشروحات توضح حكاياتها كما هو معروف بالقصص القرآني. وتعود الصينية إلى أفغانستان في القرن السابع عشر. مسكوكات نادرة وتحتوي المكتبة على ستارة نادرة من كسوة الكعبة الشريفة مطرزة بخيوط من الذهب والفضة، تعود إلى عهد السلطان العثماني سليمان القانوني في العام 950 هجرية، وتتوافق الستارة المعروضة في «متحف معبر الحضارات» مع جميع تفاصيل الستارة الموجودة في قصر «توبكابي» في إسطنبول، كما أن الفحص الكربوني الذي أجرته جامعة تويبنجين الألمانية، وهي أقدم جامعة ألمانية متخصصة في التاريخ، قد أثبتت أن عمر الستارة مطابق للتاريخ المكتوب عليها. وتحتوي المكتبة على مجموعة نادرة من المسكوكات النقدية، تقارب سبعة آلاف قطعة، نصفها دنانير ذهبية صحيحة وأنصاف وأرباع الدينار، والنصف الآخر دراهم فضية. وتعود إلى العهود الأموية المتأخرة والعباسية والسلجوقية والغزنوية والفاطمية. كما تضم مكتبة المتحف على خرائط جغرافية، تعتبر من أقدم ما دون عن الخليج العربي، وذكرته باسمه العربي لأول مرة في التاريخ. مرسومة بطريقة (chartographers)، ويعتبر مدونوها من أشهر الرسامين الجغرافيين المعروفين بالعالم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©