الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«كونار» الجنيّ العارف

«كونار» الجنيّ العارف
12 فبراير 2014 22:28
سوالف الجن وقوى الطبيعة الخفية حكايات قديمة ما زالت تتردد في كثير من القرى والأحياء الشعبية، وتبدو وسائل العلم والتكنولوجيا المعقدة في عصرنا لبعض الناس أشبه ما تكون بعجائب السحر. ورواية هند سيف البار «كونار» الفائزة بجائزة الإمارات للرواية ـ فئة الرواية القصيرة، تدخل في هذا الباب، ولكن بطريقة شبابية واعية واطلاع واسع على علوم العصر وتطلعاته المستقبلية، بلغة واضحة بسيطة وجميلة، تستحق الجائزة، التي حصلت عليها بجدارة. وحكاية «كونار» تذكرنا بقصة علاء الدين والمصباح السحري، كما تذكرنا بسيرة «سيف بن ذي يزن» وكان جيل آبائنا مولعاً بقراءتها في سهرات الشتاء. مفتاح وإشارة تبدأ الرواية بهذه العبارة: «يعيش الإنسان على هذه الأرض منذ قرون.. لكن ذلك لا يعني أنه يعرفها.. أو أنه مطلع على جميع أسرارها وخباياها وكائناتها». وهي تشكل مفتاحاً وإشارة رمزية لكل ما يجيء بعدها. بطلة الرواية رقية تعيش مع جدتها ونتابع أحداث الرواية من خلالها. ومن البداية تطلب الجدة من رقية أن تنظف قبو البيت، وهناك تعثر على لوحة لوالديها.. وهنا تخبرنا بحادث المرور الذي أدى إلى وفاتهما، وقد نجت منه وكانت تحلم حينئذ بأن يأخذها والدها إلى حديقة الحيوانات المائية. وهي تستحضر ذكرى والديها بألم. ثم تواصل تنظيف القبو: «وبعد أن فرغت من نفض الأتربة عن الجرار، أخذت تمسح الفوانيس...»، ورغم أنها تفاجأت بصعود الدخان من أحد الفوانيس فألقته على الأرض..»، وكان هذا ردة فعل عفوية، لكنها تتمالك نفسها حين يظهر الطيف، وتسأله إن كان «المارد الذي سمعت عنه في القصص القديمة». فيظهر لها الشاب «كونار» وتتعامل معه بوعي وهدوء، لكنه يهددها بقتل جدتها إذا لم توافق على خدمته لمدة سنة، وتوقيع العقد القاضي بتلك الخدمة. ولا نرى في الرواية من الناس غيرهما وبعض الشباب الذي شهدوا حادث المرور ويمر ذكرهم سريعاً، وكل ما تبقى من العمل يدور في عالم الجن حتى تقترب من النهاية حيث تلتقي «شهد» الموظفة في المكتبة، والتي كان الجني «شهاب»، صديق كونار، متعلقاً بها. والهدف التربوي واضح من البداية، لأن الكاتبة كانت حريصة جداً على إبعاد كل مظاهر الخوف والشر عن بطلتها، وبالتالي عن كل من يقرأ أو يسمع حكايتها. ويطير بها كونار إلى عالم الجن، ونعرف منه ومن أحاديثه مع الآخرين أنه كان يتآمر على ملك جن الجبال، لذلك حبسه في الفانوس ورماه بين البشر. ويبدو واضحاً للقارئ أن قبو البيت أو المستودع وما فيه من أشياء عتيقة يرمز للماضي، وكل ما يتعلق به من أحداث وقصص. وخلال متابعتي للقراءة، استغربت أن رقية لم تشعر بالضيق والحزن لفراق جدتها، رغم مرور ثلاثة أشهر، وهي في عالم الجن. لكن الكاتبة تعرف أن مقياس الزمن في عالم الجن غير مقياسه في عالم البشر، لذلك تفاجئنا عند اقتراب الرواية من نهايتها أن كل ما جرى مع رقية لم يستغرق أكثر من ساعتين من النوم، كما تشير الجدة إلى ذلك. وهذا يعني أن القصة كلها كانت مثل الحلم، لكنه حلم مليء بالأحاديث والصراعات ومشاهد الجمال الرائعة كالأزهار والقلعة، التي صممها كونار للجنية هدى. وخلال خدمة رقية لكونار، يطلعها على غرفة الأحجار الكريمة وتعرب له عن محبتها لتلك الجواهر، كما أننا نتعرف على كثير من الأدوات الموضوعة لخدمة عالم الجن والتي تقوم بالعمل السريع نيابة عنهم، وهذه إشارة ذكية إلى ضرورة الاستفادة من معطيات العلم الحديث واختراعاته، دون أن تقول ذلك صراحة، لكنها تتركها لاستنتاج القارئ أو السامع، وخاصة الأطفال وهم الهدف من هذه الحكاية. وتتعرف رقية أيضا على اثنين من أصدقاء كونار وهما «شهاب» و«أمير»، ثم نتعرف إلى «هدى» في وقت لاحق. المفاجأة في هذه الرواية وقوع رقية في حب «كونار»، وإن كان من طرف واحد، خاصة أنها لم تكن تعرف أنه جني شرير، وأنه يخطط للقضاء على الجن، وهذا سبب خصامه مع ملك جبال الجن. ويبدو أن هذه العداوة كانت مدبرة من بعض الجن. وهو لا يكشف لصديقيه السر بأن رقية من البشر. وتبدأ حبكة القصة بالتوتر والتشويق حين يطلب منها الذهاب إلى السوق لشراء حاجات البيت، ومنها «الندى الأحمر»، الذي يبدو كأنه العنصر المرتبط بكونار والدال عليه، فتقع رقية في ورطة وتضطر للكشف عنه بأنه موجود، ولكن سرعان ما يظهر، ويخلصها من الآخرين الذين يخافونه ويلوذون بالفرار منه. مستويات الجن وكما أن البشر درجات، من جميع النواحي الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، نرى أن الجن من مستويات متعددة: كونار من المستوى العاشر، وهو أعلى المستويات وأقواها، وصديقاه من مستوى أقل، ولذلك يقول عن رقية بأنها بلا مستوى، لكي يتجنبها الجميع ولا يطمعون بها أو يتطاولون عليها، وخاصة أنها في حمايته، وهم يستغربون كيف اختارها خادمة له، وهو في غنى عن ذلك. ومن تصرفات كونار الغريبة أنه يحصل على دمعة من رقية ويحتفظ بها، ويبدو أن لها فاعليتها في عالم الجن. ويحاول أن يحصل على الندى الأحمر بمساعدة رقية، وخاصة أن هذه المادة موجودة عند الجنية «هدى»، التي تحب كونار، وهو لا يهتم بحبها. لكنه يتظاهر بالأسف ويرجو أن تسامحه حتى يحصل على رضاها، ويستعيد أجواء الصفاء معها في حيلة خفية، لكي تبحث رقية عن الندى الأحمر الذي كلفها بالتفتيش عنه، وتتمكن من الحصول على جرة منه، ويبدو أن لهذا العنصر أهمية كبيرة في حسم معركة الصراع بين كونار والشيطان في خاتمة الرواية حيث ينضم ملك جبال الجن إليهم لأن الشيطان خدعه أيضاً. وفي المعركة النهائية بينهم وبين الشيطان، يكون كونار هو الضحية، وينتصر الخير على الشر وتعود رقية إلى جدتها وقد تغير كل شيء في حياتها. فقد صارت تفهم لغة الأزهار وتزداد الحياة جمالاً. المهارة والدقة والغاية الإنسانية النبيلة التي اتبعتها الكاتبة في سرد قصتها على لسان رقية أنها جعلت المحبة أهم شيء في الحياة، كما كشفت أن حصول رقية على الندى الأحمر لم يكن بالحيلة ولم تحصل عليه بالسرقة، وإنما كانت هدى على علم بذلك، ولم تعد تقف من رقية موقفا معاديا، وخاصة حين علمت أنها من البشر. وتساعد رقية صديقها شهاب بعودته إلى فتاة المكتبة «شهد» وينتهي كل شيء على أكمل وجه من الخير والصفاء والمحبة، فقد تم القضاء على الشيطان، رمز قوى الشر في هذه الحياة، كما أن كونار يدفع حياته ثمنا لخططه الشريرة، تاركا الجميع يتأسفون عليه. جمال هذه الرواية بأنها تجعل القارئ يتأملها ويفهمها في أكثر من مستوى، متنقلاً من الجن إلى البشر، ومن السحر إلى العلم، ومن الصراع والكره إلى الصداقة والمحبة، ولكن الهدف العلمي والتعليمي والتربوي واضح في كل ذلك. ويبدو أن الكاتبة الشابة هند مهتمة بأخبار العلوم الفضائية وغرائب الاختراعات الحديثة والاكتشافات الحديثة في عالم الكيمياء والفيزياء من أجل سعادة الإنسان على هذه الأرض ولكي يعيش بخير وأمان وازدهار. ويكفي هنا أن نشير إلى الصفحة (61)، حيث تقول على لسان الجني شهاب: «أنا كغيري سمعت عن قسوة البشر، فهم يقتلون ويعذبون وينهبون ويسرقون طيلة الوقت دون أن يشعروا بالذنب، ودون أن تؤنبهم ضمائرهم، وأعتقد شخصياً أنهم متوحشون». ولعل هذه الإشارة تكفي لتوضيح الهدف الإنساني النبيل في هذه الرواية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©