الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإقامة على حافة السفر

الإقامة على حافة السفر
12 فبراير 2014 22:29
أدب الرّحلات هو تناصٌ بين علم الجغرافيا وأحد أهم فضاءات السّرد وهو الفضاء المكاني الذي يصبح في هذا النوع الأدبي سيد المحكيّات على لسان الرّحّالة، وإذ تمّ تعريفه كأدبٍ، فهذا يعني إحالة واضحة لكونه فناً، تدخل فيه ذاتية الرّحالة سواء بانطباعها المباشر عن المكان أو غير المباشر وذلك بمقارنة المكان بفضاء مكاني آخر وبنفس الوقت هو علم يقتضي تسنّمه الإلمام بعلم الجغرافيا من حيثُ هو علم له قواعده وأسسه ومكوناته، وهذا يفتح بدوره إلى علوم أخرى كالاجتماع والحيوان والنبات والجيولوجيا وغيرها الكثير. لا ريب، قد اختلط أدب الرّحلات منذ القديم بغيره من العلوم وخاصة التّاريخ، فمن هيرودتس إلى علم التّاريخ المقنّن حالياً بأسلوبه العلمي المنهجي الصّارم، نرى أنّ التّاريخ يكتبه المنتصِر وفق رؤيته الذاتية ويقصي هامشاً مهماً جداً، وهنا يأتي دور الرّحّالة فيما ينوه إليه عبرة شذرات استطاع من خلالها علم التاريخ المقارن من إعادة كتابة الكثير من الرّوايات التاريخية بعد نقدها وتمحيصها. تغدو شهادة الرحّالة، عندما يقصد بلداً أو يقيم فيه، لها قيمتها الكبيرة وخاصة في زمننا، حيث تُكتب بعيداً عن أعين السّلطة وبنفس الوقت لا تخلو من ارتهانات لكن عادة ما تكون في حدود مقبولة وخاصة عندما تصبح الشهادة شأناً شخصياً حياتياً وجودياً كما نجد لدى الشاعر الرّحّالة باسم فرات في كتابه الجديد «مسافر مقيم/ عامان في أعماق الأكوادور» والذي فاز بجائزة ابن بطوطة لعام 2013 ـ 2014. لم يكن التّرحال لدى باسم فرات إلّا خياراً وجودياً، أوجده حال بلده ورغبته الذاتية، فتضافرت المعطيات لتنجز منه رحّالة يقول في كتابه: «وأنا الشّرقي العراقي المهووس بالدّهشة وحب الاستكشاف الصّادم الذي لم تفسده القراءات، أريد أن آتي للمكان كما آتي للشّعر بلا حوامل وخلفيات ومؤثرات» تغدو هذه الجملة بوصلة حقيقة للحفر السّردي الترحالي في الأمكنة التي زارها الشّاعر الرّحّالة، فبقدر ما كان القصد من الزيارة واضحاً وهو تدوين حيثيات هذا الكتاب، ترك الرّحّالة للشّاعر متنفساً كبيراً وهكذا امتزج الأدب بالرّحلة خير امتزاج. عبر سردية وهنا شرفة أخرى يقدّمها الكِتَاب، فمن خلال تجواله في الأكوادور وتسجيل ملاحظاته عن جغرافيته ومدنه وأنهاره وسكانه ولغاتهم العديدة، ظهرت شخصية الكاتب وكأنّنا أمام السّيرة الذاتية التي تختلط بالروائي المتخيّل، لكنّها هنا اختلطت بسرد الترحال: «المنافي الفردوسية ليست تفاخرًا بل هي قدرة مَن تصالح مع غربته على تحويل الجحيم إلى جنة تجري من تحتها الأحلام، والإصرار على تحويل الألم إلى تجربة للارتقاء، ولو لم تمنحني المنافي سوى اللغة الإنجليزية التي كانت عقدتي أيام الدراسة، لكفاني الشّكر لها، فكيف وبفضلها حققت الكثير مما حلمتُ به، كم كنت أحلم أن أزور بلدانًا كثيرة ومميزة وألتقي بمئات الأعراق والجنسيات والثقافات، وأن أملك تجربة خاصة بي لا تشبه تجارب الآخرين قراءة وترحالاً وكتابة». حضور الشّعر لا ريب أنّ الشّاعر كان حاضراَ بقوة وكان ينتهز الفرصة، ليُقحم سرديته في العمل القصدي لتدوين يوميات الترحال، ففي جبل «تشيمْبوراسو» في يوم ما من تاريخ أميركا الجنوبية كتبَ بطلها سيمون بوليفار قصيدة وهو ذاته من خلده رائد الواقعية السّحرية غابرييل غارسيا مركيز في رائعته «ليس للجنرال من يكاتبه» وجد الشّاعر باسم فرات نفسه يدوّن هذه القصيدة على جبل ارتفاعه 5000 متر، فيقول: «على جبل تشيمْبوراسو/ جلسَ سيمون بوليفار/ يكتب قصيدته حالمًا بوحدة أميركا الإسبانية/ هل كان يظن أن حلمه يتحقق/ لقربه من القمر/ بوليفار سفكَ حلمَهُ مع الدم ولم ينزع عنه بزّة العسكر/ في بلادي جلس الضباط الجهلة/ في ثكناتهم يحلمون بالوحدة العربية/ فخرجت عروبتهم هاربةً عبر الحدود/ ورطوبة الثكنات قرّحَت شفتيها/ في هذا الخلاء الأبيض/ سقط الناب الوحيد للقمر/ فتهاوت قصائد العشاق/ حيث الحبيبات مليئة وجوههنّ بالتضاريس». جمهوريات الموز الأكوادور بلد في أميركا الجنوبية سكانها الأصليون من الهنود الحمر احتلها الإسبان واستقلت في عام 1820 عاصمتها كيتو، وهي أول مدينة اعتبرتها اليونسكو تراثا إنسانياً يجب المحافظة عليه. يجول باسم فرات في أهم معالمها الجغرافية والتاريخية والمعمارية مصوراً بالكلمة والفكر والإحساس زمكانيتها ووجودها عبر رصد دقيق ورؤيوي مع مقارنة تأخذه لبلده العراق مروراً بنيوزيلندا واليابان وغيرها من البلاد التي زارها، فالرّحلة لديه هي جدل معرفي يتنامى في محيط الإنسانية الكبير. نختتم هذه المقاربة بمقطع من إحدى تجوالاته في الأكوادور الذي تحوّل لديه إلى بلد للسّكن والعمل: «حين بدأت مزارع الموز وجوز الهند وسواها تأخذ حيزًا كبيرًا من مسافة الطريق الحافلة بالخضرة والوجوه المتصالحة مع الفقر، وكانت مزارع الموز لها حصة الأسد تنهدتُ بألم قائلاً: وأخيرًا رأيت مزارع الموز فعلاً، هي جمهوريات وما أقساها من جمهوريات!. لم أرَ في جنوب شرق آسيا مزارعَ للمَوزِ بسعة وحجم هذه المزارع، فكانت رؤيتي لها في لاوس مصحوبة بالدهشة بينما هذه المزارع زرعت الألم في نفسي وسيطرت صورة الانقلابات وتجارة المخدرات على تفكيري، إذ البؤس سيد المكان، الْتَحَفَ به الجميع، نَمَتْ إلى تفكيري حالات الاغتصاب، ليس الجنسي فقط بل الإنساني، حيث إهدار كرامة الإنسان والتفنن في استغلاله من خلال شركات تمتد وتتشابك بعلاقات مع مراكز قرار تدعي تبنيها لحقوق الإنسان». «مسـافرٌ مُقـيم/ عامان في أعماق الأكوادور» لباسم فرات حائز على جائزة ابن بطوطة للرحلة المعاصرة لعام 2013 ـ 2014.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©