الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

إعادة الاعتبار للإنسان الذي غيَّبته الأيديولوجيات الشمولية

إعادة الاعتبار للإنسان الذي غيَّبته الأيديولوجيات الشمولية
26 أغسطس 2007 03:45
يعلن المفكِّر السوري أحمد برقاوي في كتابه الأخير (الأنا)، بداية انطلاق مشروعه الفكري، وذلك بعد مجموعة من الكتب الفكرية والفلسفية أصدرها في سنوات ماضية· ينطلق برقاوي في كتابه هذا من إعادة تعيين (الأنا)، ويبحث في الصلة بين ماهية (الأنا) ووجوده المتحقِّق، في مواجهة فكرية مع أنظمة متعالية كالقيم والجنس والنظام السياسي· الهاجس الذي وقف وراء تناوله للأنا، هو التذكير بالأنا الذي ضاع في خضم النسيان من جرّاء الإعلاء من شأن (النحن)· فهو يريد أن يعيد الاعتبار للأنا كوجود ذاتي، يفرح ويحزن ويكره ويحب ويتألم ويتعذب ويكظم الغيظ··إلخ· ويرى برقاوي (الأنا) كوعي منفصل، فيميز بين (الأنا) كما هو، و(الأنا) كما يجب أن يظهر· ولأن كل (أنا) يعيش وعيه الذاتي على هذا النحو، فإنه يعمِّم هذا الوعي على كل (أنا) أخرى· وهذا مردَّه إلى أن كل (أنا) في وعيها للآخر تفترض دائماً لدى الآخر ما يخفيه وما يظهره، لأنها تعيش التجربة نفسها· تعيش حالة السر وحالة انفضاح الآخر أحياناً· ومن هذا السؤال الفردي: (من أنا؟)· ينتقل برقاوي خطوة أخرى ليتساءل (ما الأنا؟)· فيرى أن (الأنا) كمفهوم مجرد ليس جوهراً مفكراً، وإنما واقعة أو حالة لا وجود لها إلا ككلية و كوحدة جسدية، روحية، نفسية، أخلاقية· كما أن (الأنا) ليس فرداً منعزلاً، بل شخصية حاضرة دائماً في تجمع إنساني، بمعنى أنها حالة اجتماعية ثقافية، لا تكتسب تمايزها إلا بالوعي الذاتي· ولأنها وجود متمايز في العالم، فإن العالم قائم فيها· لكن وجود العالم في (الأنا) ووجود (الأنا) في العالم لا يلغي موضوعية العالم، ولا موضوعية (الأنا)، فالعلاقة بينهما علاقة ترابط كما هي علاقة تنافر، وهذه الأخيرة هي التي تؤدي إلى انشطار (الأنا)· العالم الذي يعنيه برقاوي هنا هو العالم الثقافي والسياسي والاجتماعي والأخلاقي والقانوني، وبالرغم من أن هذا العالم هو من صنع (الأنا) تاريخياً، لكن ليس هناك من (أنا) صانع له بمفرده· وهذا العالم ليس حيادياً تجاه (الأنا) بل يفرض عليه أن يعيش وفق مشيئته· ولأنه أمر موضوعي، فهو متعالٍ على (الأنا)، ويفرض عليه الالتزام بقوانينه، كسلطة قاهرة تقف فوق الجميع· وينتقل برقاوي للحديث عن (الأنا) وعلاقته ببنية المجتمع في الحاضر أو الزمن التاريخي المتعين، ومتناقضات هذا الزمن وانعكاساتها في الأنا· ويرى أن الزمن التاريخي أغنى وأعقد من النظام المتعالي· ويشير إلى أن الأنا الواحد قد يعيش أزماناً متعددة في زمن واحد، ويعكس بنيات مختلفة، وبالتالي فهو يعيش تناقضات لا يحس بها، تؤدي إلى انشطارات بنيوية في الأنا، وهي حالة غير موعى بها، فيما عمر (الأنا) هنا لا يقاس بالسنين التي يعيشها فعلاً، وإنما بالزمن التاريخي· وفي تحديده لعلاقة الإرادة بالتاريخ، أفرد برقاوي فصلاً آخر من كتابه للحديث عن (الأنا) في الأسر، باعتبارها أسيرة البنية، فعدم وعي التناقض بين (الأنا) و(اللا أنا) لا يعني في رأيه سوى أن الأنا أدمنً الأسر، وما عاد بمقدوره أن يميز نفسه عن غيره· ولكن (الأنا) الذي صنعته بنية ما، والذي يصعب عليه الانتصار على هذه البنية، ليس عليه أن يستسلم لها برأي برقاوي· بل إن تمرّده على هذه البنية قد يثمر عن تحطيمها· ويدلف برقاوي في تحليله إلى العلاقة بين الأنا والآخر، ليفسر نفيه· فيرى أن كل ما قدّر تاريخياً لتنظيم العلاقة بين البشر، هو من أجل لجم نفي الآخر، لكن كل الجهود لم تنجح حتى الآن في لجم نزوع الإنسان لنفي الإنسان· وهذا النفي يتخذ أشكالاً عديدة منتشرة ومستمرة عبر التاريخ، كالقتل والكذب· ويخلص إلى أن نفي الآخر ليس مردَّه الصراع من أجل البقاء، وأن حال الاستئناس للآخر ليست بأكثر من حال الخوف منه· عندما أعلن ديكارت مقولته الشهيرة (أنا أفكر إذاً أنا موجود)، فقد جعل من (الأنا) جوهراً مفكِّراً في المقام الأول، لكن برقاوي في تعيينه (الأنطولوجي) للأنا أراد أن يعيد الاعتبار له كوجود ذاتي، ويكشف عن طبيعته، لكنه لم يقتصر في تحليله على تشريح (الأنا) فقط، وإنما نظر إليه كما يجب أن يكون، وما هي الشروط التي تجعله قابلاً لأن يكون كائناً حراً· فالمشكلة الحقيقية برأي برقاوي أن الفكر العربي عندما ناقش مشكلة الحرية، تحدث عن حرية الأمة وحرية الجماعة ونسي (الأنا)، جراء الإعلاء من شأن (النحن)· يبدو كتاب برقاوي خارج السياق، فالمفكِّرون العرب الآن منشغلون بقضايا أخرى كالحداثة والعلاقة مع الغرب، والأصولية، والصراع العربي ـ الصهيوني، لكن برقاوي يرى أنه لا بد من العودة إلى جذر المشكلة، وهي الإنسان الذي نسيته الأيديولوجيات واعتبرته مجرد أداة في خدمتها، (الأنا) الغائب الذي يجب أن يعي ذاته على أنه كائن حر فاعل
المصدر: دمشق
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©