ارتفاع أسعار القمح يكشف أزمة "الباجيت" الفرنسي

يفتتح الكاتب ومحلل الحضارات ستيفن كوبلان كتاباً نشره قبل أكثر من ثلاثة قرون تحت عنوان (مخابز باريس وقصة صناعة الخبر في فرنسا) بقوله: ''لا أعتقد أن هناك من يشك أبداً في أن خبز الباجيت أصبح رمزاً وطنياً لفرنسا ذاتها''· وتشير المحللة السياحية الفرنسية ستيفاني كورتيس في تقرير مثير نشرته على موقع متخصص على الإنترنت أن خبزة الباجيت (baguette) التي يبلغ طولها 50 سنتيمتراً ومعها ابنة عمها خبزة باريس (pain parisian) تحملان معاً من الإيحاءات الدالة على الهوية الباريسية أكثر مما يحمل قوس النصر وبرج إيفل· وفي فرنسا، لا بد أن يتألف فطور الصباح من شرائح خبز الباجيت المقطوعة بسكين منشارية توضع فوقها رقاقة من الزبدة الطبيعية تعلوها طبقة رقيقة من مربى الفواكه أو العسل أو قطعة من أحد أنواع الجبن الفرنسي اللذيذ التي يبلغ عددها 365 نوعاً· وتقول كورتيس: ''إنك إذا قصدت باريس ولم تحتفل بتناول هذا الإفطار التقليدي، فلن تكون قد زرت عاصمة النور بالمعنى الصحيح''· ويعود اكتشاف طريقة تحضير خبز الباجيت إلى الفترة التي أعقبت القرون الوسطى، وتعني ترجمة اسمها بالعربية (العصا القصيرة)، ونشأت مع ظهور الأفران وتطور فنون تخمير عجين القمح· واليوم، يفتخر الباريسيون بمخابزهم الشهيرة المتخصصة بصناعة (الباجيت) ويقدّر عددها بثلاثمائة، وهي تصنع كل يوم عشرات الأطنان من الخبز لتصدرها وهي طازجة بالطائرات والقطارات السريعة إلى العديد من دول أوروبا والعالم· وبقيت أسعار (الباجيت) ثابتة منذ انضمت فرنسا إلى منطقة اليورو، إلا أن الخبازين باتوا الآن يشتكون من الارتفاع الكبير في الأسعار العالمية للقمح، وأخذوا يطالبون بزيادة سعر خبزتهم· ويقول تقرير نشرته صحيفة (ذي وول ستريت جورنال) إن السعر العالمي للقمح بلغ رقماً قياسياً يقتضي من أصحاب المخابز زيادة سعر الخبزة الواحدة بنحو 5 سنتات· وما إن أعلن صنّاع الباجيت الفرنسيون عن هذه المطالب حتى هبّ صنّاع المكرونة والباستا الإيطاليون للمطالبة برفع أسعار منتجاتهم بنسبة 20 بالمئة تؤيدهم في ذلك الجمعية الإيطالية لصنّاع الباستا· وبالرغم من اختلاف طبيعة الاستهلاك بين المادتين، إلا أن (الباستا) لا تقل عن (الباجيت) أهمية بالنسبة للإيطاليين الذين يعدّونها أيضاً من أهم مظاهر تراثهم الحضاري· وفي هذا الوقت الذي تشهد فيه الصناعة العالمية للخبز حالة التوتر وغموض الرؤى، توقع خبراء شركة (بريميير فودز) الإنجليزية أن تشهد الأسعار العالمية للقمح المزيد من الارتفاع· ويعرض تقرير (الفاينانشيال تايمز) لأسباب ارتفاع أسعار القمح، فيشير إلى أن الأمر لا يتعلق بالقمح وحده، بل وأيضاً بالعديد من أنواع المنتجات الزراعية كالكاكاو والقهوة التي اشتعلت أسعارها بسبب الجفاف الذي ضرب مناطق زراعتها بقوة هذا الموسم، ويكمن السبب الثاني بالزيادة المسجلة في استهلاك هذه المحاصيل في الدول النامية نتيجة الارتفاع الاستثنائي لناتجها الوطني الإجمالي· ويتعلق السبب الثالث باستهلاك القمح والذرة على نطاق واسع في صناعة الوقود الحيوي المستخدم في دفع السيارات وخاصة منه الإيثانول· ويمكن تصوّر الأزمة التي يعيشها خبّازو (الباجيت) من خلال إحصائيات حديثة تشير إلى أن سعر القمح في أوروبا تضاعف هذا العام من 130 إلى 237 يورو (من 177,8 إلى 324 دولارا)· وفي سوق شيكاجو للسلع الزراعية قفز سعر الطلبيات الآجلة من القمح (تسليم أكتوبر) إلى 7,54 دولار للشوال (5,50 يورو) عقب صدور تحذير رسمي من كندا التي تعد ثاني مصدر للقمح في العالم بعد الولايات المتحدة، من انخفاض متوقع في إنتاجها من القمح قد يصل إلى 20 بالمئة عن إنتاج العام الماضي· ويقول التقرير إن الخبز يلعب دوراً أساسياً في الحياة اليومية للفرنسيين، حيث يستهلك معظم الناس هناك مشتقّاته أيضاً ومنها (الكرواسون) و(البريوش) بمعدل ثلاث مرات في اليوم· كما أن الغالبية العظمى من السيّاح الذين يقصدون فرنسا يضعون في حسبانهم التمتع بتناول (الباجيت) الباريسي مع كل وجباتهم اليومية· ولهذا السبب يمكن القول إن للباجيت تأثيراً في جذب السياح قد لا يقل عن تأثير برج إيفل أو قوس النصر·