الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بئر الحرمـان

بئر الحرمـان
29 أغسطس 2007 01:05
كان من الطبيعي أن تنتقل المعرفة بفوائد التحليل النفسي الفرويدي إلى الكَّتاب العرب الذين سعوا إلى كتابة قصص وروايات هي تجسيد للمكبوتات والعقد النفسية· ولذلك لم يكن من الغريب أن يكتب إحسان مجموعته القصصية ''بئر الحرمان'' التي تعالج ازدواج الشخصية، أو القرين بمعنى من المعاني· وهي القصة التي أصبحت فيلماً ذائعاً من أفلام السينما المصرية· والراوي في كل مجموعة إحسان القصصية هو طبيب نفسي مشهور، يرينا - نحن القراء - أن الإنسان في حاجة إلى غيره دائماً، وأنه إن لم يحزن على نفسه، يبحث عن شخص آخر غيره يحزن عليه، أو يتخيل نفسه بطل إحدى القصص المؤثرة، والتقمص الوجداني لأبطالها، بما يدفع به إلى تحمل ما يعانيه البطل الذي يتحد وإياه، نفسياً وخيالياً، فيحزن ويتألم مثله· والطبيب النفسي مثل غيره من البشر، لكنه كاتب قصة، تدفعه حرفته ''أو هوايته'' إلى أن يروي القصص العجيبة لمرضاه، وهي قصص الإنسانية حين ترفع عن وجهها القناع الذي يفرضه عليها المجتمع، فتبدو النفس البشرية، كما هي، غابة كثيفة موحشة، مخيفة، لا تخلو من دوافع الأنانية والحقد والحيرة، وأضدادها التي تصل بين الحب والحنان والتعاون والتعاطف والأثرة· وهو يروي بعض هذه القصص التي يقود فيها القارئ، حاملاً مصباح القص، خافت الضوء، ليكتشف أركان هذه الغابة الموحشة بأشجارها المفزعة التي تتحول إلى نقائضها، عندما تجد الرعاية والمعالجة المتأنية التي تصل بالتحليل إلى أصل العلة والداء، أو جذر العقدة· و''بئر الحرمان'' نموذج يدل على غيره من هذه القصص فهي تتحرك، سردياً، ما بين ازدواج الشخصية والقرين، ولا تخلو البطلة من أعراض الشيزوفرينيا، وطبعاً، كعادة التحليل النفسي الفرويدي، ترد أصل العقدة إلى الطفولة وإلي الغريزة الجنسية· وكلتاهما وجه للأخرى في اللاوعي الفردي الذي حاول فرويد أن يكتشف أقاليمه وأقطاره للمرة الأولى، مقدماً للدنيا بأسرها نوعاً جديداً من المعرفة، جعل فرويد أحد ثلاثة نهض على أكتافهم الوعي الحديث: ماركس وفريزر وفرويد، فالأول اكتشف قوانين الاقتصاد التي يتغير بها التاريخ، في حركته الجدلية ما بين التغيرات الكمية والكيفية، والثاني اكتشف القارة المجهولة من الأساطير التي انطوى عليها الإنسان، وظلت مطمورة في قرارة القرار من وعيه، والثالث اكتشف القارة المجهولة الموازية من اللاشعور الفردي، في المدى الذي أكمل فيه كارل يونج المهمة فاكتشف قارة اللاشعور الجمعي· وقس على هؤلاء نيوتن الذي اكتشف قوانين الجاذبية، وعلاقاتها بالزمن، وأينشتين الذي اكتشف قوانين النسبية وقد عرف إحسان عبد القدوس شيئاً من نظريات فرويد، خصوصاً بعد ترجمة بعض نصوصها إلى العربية، وتحولها إلى ''موضة ثقافية''، راجت بين المثقفين والأدباء، فضلاً عن ترجمة عدد من الأعمال الأدبية التي كان الكشف عن أغوار النفس البشرية، في صراعاتها وتعقيداتها وتشابكاتها، على رأس أهدافها· هكذا، كتب إحسان عبد القدوس أولى قصص مجموعته بعنوان ''بئر الحرمان''· وجعل بطلتها زوجة تعاني ازدواجاً حاداً في الشخصية، فهي تغدو امرأة بريئة، عادية، طيبة الخلق، في أحوال صحوها، ولكنها تنقلب إلى نقيضها في الأحوال التي تسيطر فيها أدغال اللاوعي، فتتحول الشخصية إلى نقيضها، حاملة اسماً مختلفاً ومظهراً مضاداً· ويدفع الطبيب النفسي مريضته إلى أريكة التحليل النفسي ويوجّه بأسئلته تداعياتها إلى مرحلة الطفولة شيئاً فشيئاً، وتمضي الجلسات العديدة، لكن دون أن يكتشف الطبيب مصدر العقدة، إلى أن يقرر الاستعانة بالأب، ويلاحقه بأسئلة تتعلق بابنته، إلى أن يحصل منه على ما يبدو مفتاحاً للعقدة، وعندما يتأكد الطبيب من صحة استنتاجه، بعد أن قاد الأب، بواسطة حدس الطبيب وخبرته، إلى أن يكشف له عن أحد الاحتمالات الممكنة لحل العقدة، ينتقل من الأب، عائداً إلى الابنة، بعد أن فعل مع الأب ما فعله مع الأطراف التي تركزت حولها تداعيات المريضة، فيضعها على أريكة التحليل، ويبدأ في إطلاق تداعياتها التي يوجهها ببراعة إلى قرارة القرار من أصل العقدة وسببها· وعندئذ، تصل المريضة بنفسها، ومن خلال ما تكشفه لها تداعياتها، إلى أصل عقدتها فتبرأ منها، فالمريض النفسي لا يشفى من عقده إلا من خلال التداعيات التي يوجهها الطبيب، ويمضي معها المريض، إلى أن يصل الثاني إلى ما يكشف له الجانب المظلم من أعماق لاشعوره، فيرتفع المظلم من اللاشعور إلى ضوء كاشف من الشعور، فيكتشف المريض المجهول من أعماقه، ويصل إلى بر النجاة، ومن ثم الشفاء، وبالطبع، يقود البحث عن أصل الداء إلى غريزة الجنس التي تظل مقموعة بواسطة الوعي الاجتماعي والعادات والتقاليد التي تستسلم لها الأنا، فتقمع كل ما تراه مخالفاً للوعي الاجتماعي، خارجاً على العادات والتقاليد، منتقلاً من مبدأ الواقع إلى مبدأ الرغبة الذي تستقر الغريزة الجنسية في مركزه لاتفارقة· ولقد وجَّه نقاد فرويد سهام نقدهم إلى مبالغته في تصوير دور الغريزة الجنسية وتضخيم أمرها بما جعلها أصل كل شيء في حياة الإنسان· وكانت البداية هي انقلاب علم النفس الاجتماعي على فرويد، في المدى الذي انتهى إلى علم النفس التجريبي بمدارسه الحديثة والمعاصرة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©