الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

صلاح حيثاني.. شعر يجرح الغيبوبة

صلاح حيثاني.. شعر يجرح الغيبوبة
12 فبراير 2013 16:28
شـهـيـرة أحمـد تمارس قصائد المجموعتين الشعريتين الصادرتين حديثاً للشاعر والفنان التشكيلي العراقي المقيم في هولندا صلاح حيثاني، والموسومتان بـ «مثلما تسقط ثمرة في نسيانها» و»ماء غيابكِ»، فضلاً عن قصيدته الطويلة «النظر إلى الأبدية من الأرض الحرام» حفراً آركيولوجياً لغوياً متعدد المستويات، إن لجهة التعبير اللغوي نفسه أو لجهة المضامين أو لجهة الصورة الفنية التي تتخايل في المنتج الحيثاني مثل عرائس ليل موشحات بغلالة شفيفة، لا تبوح بكل ما فيها وتدخر الكثير للعارفين القادرين على أن يجوسوا في غابات الشعر بأرواحهم وقلوبهم. كل الأشكال والإشكاليات البشرية والإشكالات الفلسفية، والتيه البشري، والعدم، الموت جداً و الحياة جداً (والعكس صحيح أيضاً) متوفرة في قصائد الشاعر. في محاولة العبور إلى النص الحيثاني تتعدد المعابر، لكن القصيدة لا تترك لك الفرصة لتحار طويلاً في كيف تدخل إليها.. إنها تمارس مكراً شعرياً رائعاً إلى الحد الذي تقوم فيه بتعطيل حسك النقدي لبعض الوقت، إلى أن تتذوق من دهشة الشعر ما يطيب لك، ثم تترك لك حرية التنقل في مباهجها على أكثر من حرف. ومع أول قطرة عطر في «ماء غيابك» تشتعل حواسك كلها لترتشف جماليات الشعر.. هذا الحافي المبجل الذي تخشع أمامه العبارة... فتترك النقد جانباً لتقرأ تلك القراءة الممتعة، تماماً كما تتنفس هواء منعشاً، نقياً، في صباح خريفي مشمس.. ثم، تعود مرة ثانية وثالثة لتلملم الأوراق التي تناثرت في أرض الغابة الشعرية بحثاً عن مفاتيحك النقدية التي نسيتها على طرقات القصيدة، ويكتب نصاً يليق بالشعر. لغة لا تعرف نفسها هنا اللغة ترتدي نفسها بكل ما أوتيت من قوة، تعض على غيابها بأسنان شعرية حادة. ببساطة شديدة العمق، يعقد صلاح حيثاني قران الحديقة على الغيم.. يأخذ الشعر إلى حقوله الفسيحة ليعلمه الطيران.. بقلب عصفور يرتب لك كمائنه الشعرية يضعك على أول حبائل المعنى ثم يترك لك أن تلفَّ ما شئت منها على عنقك. شعره جارح. يحفر عميقاً في الداخل كما لو أنه آركيولوجي يبحث عن فخارة نائمة ليوقظها من غبار العصور. بهدوء وتؤدة، يتوغل في الأعماق السحيقة ليس للإنسان فقط بل للكلمات أيضاً.. فالكلمات في نصوصه لا تشبه نفسها، ولا تكرر غيابها، إنما تجترحه طازجاً، جديداً، في كل مرة.. وهي أيضاً منبتَّة عن أمها اللغة في مألوفيتها وثباتها وسكونها، كأن صلاح حيثاني وهو يبحث عن طريدته الشعرية يبحث في الوقت نفسه عن حركة الحياة فيها.. عن شعرية ما، تدله على العدم، الذي يسير حافياً على بلاط النص/ الوجود.. لهذا، يمددها على طاولته، بعيداً عن العيون ويعكف على تقشيرها وتوضيبها وإلباسها ثياباً على قياس جمالي خارج على التصميمات اللغوية المكررة أو الاستعارات السائدة. وإذ يفعل تخرج الخبء الذي في أرضها وتهديه شعراً زاخراً بالاصطيادات الجمالية. يسير صلاح حيثاني في اللغة على مهل، كأنما يمشي على أطراف أصابعه كي لا تجفل منه العبارات كما تجفل الغزلان من الصياد.. متوتراً، أجل.. لكنه التوتر الذي يجعل الحرف يرتجف والصورة تندلق في صحنه الجمالي.. ولما تقع في إغوائه يشتغل عليها اشتغالاً علمياً، دقيقاً، مستنداً إلى معرفة واسعة تتشعب روافدها لتشمل الفلسفة والأدب والتاريخ والعلوم وعلم الآثار و(اللغويات) بشكل خاص، ومعارف أخرى تجعله يرى اللغة عبر نوافذ متعددة. ويبدو أن الحيثاني ينطلق من فهم خاص للشعر بوصفه تأسيساً وليس تعبيراً، وعليه، تبدو الطاقات الشعرية للقصيدة مدفوعة إلى تأسيس القول لا التعبير عنه.. هنا يلحظ المرء أن الوصف المجاني يقل بل لا يكاد يوجد في شعره.. ثمة وصف آخر يعنى به هو الوصف الذي يعمق القول الشعري، يكرسه ويرسخه وربما ليأخذه إلى حقول دلالية جديدة.. إنه يمارس نوعاً من ترتيب الوصف أو هندسته. ويعنى بالتفاصيل، أعني برصف التفاصيل في سياقاتها الفنية. في هكذا نصوص، لا تعود اللغة واصفة ولا شارحة ولا تعبيرية، بل أداة لخلق ممارسات نصية متجددة ومتنوعة، تتناسل وتتوالد بحيث لا تعود اللغة تعرف نفسها.. والحال، أنها تصبح وعياً للمجهول الإنساني أو الغيابات الكبرى في التاريخ والأسطورة والانشقاقات الحضارية المؤثرة وكل ما تجلى فيه ميراث البشرية في الزمان والمكان.. وعندها يحتاج الشاعر إلى طاقة أخرى يفجر بها طاقات اللغة.. ويبحث عن أداة لغوية أكثر كثافة فلا يجد أمامه إلا القول الصوفي.. لغة النقطة والحرف ومدلولاتهما الشاسعة التي تغنيه عن الشرح وتدخله في التأويل. فالقول الصوفي يقع في مستوى أعلى وأكثر اتساعاً وأرحب دلالة وقدرة تأويلية. ومن هنا أيضاً تأتي ابتكارات الشاعر المستندة إلى أسلوب المفارقة وما يمارسه من الإخفاء والإضمار في اللغة، وسعيه الدؤوب لإنشاء شبكة من الدلالات المتحولة والمتحركة، والاتكاء على الإيحاء من دون الإغراق في الغموض.. لكن هذا لا يعني أن قارئ النص الحيثاني ليس قارئاً نخبوياً. بلى.. هذا شعر يحتاج من القارئ أن يتوفر على مرجعيات قادرة على تفكيك الكلام واستخراج العلاقات النصية المراوغة أحياناً. تنجز قصيدة صلاح حيثاني تحققها الجمالي عبر الكثافة، كثافة اللغة وكثافة القول الشعري نفسه.. وهذا ما تحققه كتابة الغياب.. هذه الكتابة التي تصنع لها أجنحة وتحلق في ملكوت النص لتمارس الاصطفاء الإبداعي للصور الشعرية.. وكتابة الغياب هي في صميمها كتابة الخفي والمستور، ما تحجبه سواتر اللغة ومألوفياتها.. وما تقصيه اليقينية الفكرية التي ترتاح إلى استاتيكيتها ونمطيتها في حين أن كتابة الغياب تحرث هذه اليقينية بالأسئلة، تكتب الشك بامتياز، وفي الشك تحضر التشظيات والاحتراقات الروحية والعصبية والهواجس واستعصاءات النفس وغير ذلك مما يجعل الشاعر يبحث عن الغيابات اللغوية الكبرى ليحضرها إلى نصه، وإذ يفعل ينجز دلالات مدهشة بل مدوخة أحياناً. كل غياب كثافة.. كل كثافة شعر. هذه نتيجة تصح مع نصوص صلاح حيثاني، فهي اشتباك معلن مع اللغة وعلاماتها وثوابتها وقاموسيتها، وهي سعي حثيث لجرها من روحها إلى فضاءات مفتوحة، موارة بالحياة، مندّاة بالظلال التي تنسج حول المفردة الواحدة غابة من الدلالات.. وهي محاولة لإخراج اللغة من سجنها، والصورة من حصار المألوف لها، والقلب من رتابة الدقات لتعلن ليلاً مختلفاً واستثنائياً، ولذلك لا ينفع في هذا المقام البحث عن عيار الشعر فقط.. بل لا بد من البحث عن عيار القلب أيضاً.. فالشعر في النهاية نوع من ترتيب القلب في محاولة لترتيب الحياة وفوضاها. على ظهر الخيال ها هو الشاعر العراقي، سليل الحضارات الأولى، يرحل على ظهر الخيال، ربما على ظهور الأساطير، بالمقلوب، يمارس رحيلاً معاكساً في الزمن.. إلى الفكرة الأولى التي صاغت البشرية وشكلت جملتها العصبية على مدى العصور.. ها هنا لا بد أن يطل العراق بكل أوجاعه وآلامه ومختزنات الشاعر الجارحة.. وهو يرافق البشرية من منابعها السحيقة، يسنده في فعله هذا إلمام واسع بالآركيولوجيا والحضارات. يذهب صلاح حيثاني إلى معارف الأولين، يستهدي بهم لعل لديهم ما يجيب عن أسئلته الحيرى.. وإذ يولمون له زاده الفكري على نار السؤال الفلسفي الحارق، لا يضيئون من عتمته سوى ما يخرج به المخيط إذا دخل البحر... بالكلمة المتخففة من حمولاتها، المرتدية دلالات جديدة يعيدنا صلاح حيثاني إلى البعيد الوجودي، البعيد الغربي والشرقي في الآن نفسه.. وكأنه جماع حضارات التقت في أرضه الشعرية.. ها هو الشاعر يبدو مثل فيلسوف قديم، حمل عصاه من زمان وذهب يدق على بوابات الشرق.. هل يحضر ابن سينا وابن عربي ورامبو وسبينوزا واميل سيوران في القصيدة بهذه الصفة أم برغبة الاتصال بالذات الحضارية المغيبة في منافي الله؟ لا إجابة حاسمة هنا.. فالشاعر لا يجيب عادة بل يطرح الأسئلة. إنه ليس باحثاً وليست مهمته الإجابة.. جل ما يفعله الشاعر أن يفتح هاوية ليغلق أخرى، وهي مهنة يتقنها صلاح حيثاني بشكل يغبطه المرء عليه.. ربما يحاول إيقاظ الحياة من سباتها.. بالطبع، تشرق الشمس هنا كل يوم، لكن العفن كبير وهائل.. ما يجعل النص الحيثاني يؤكد في مواربة محببة أن المهم ليس شروق الشمس بل شروق الحضارات، لولا السومريون والآشوريون والآراميون كيف سيكون شكل العالم بلا لغة؟ ألم يتساءل أراغون: «كيف كانت اللغة لو لم يستنبط أولئك الشرقيون الرائعون مفردات مثل «الحياة» و»الموت» و»الخلود» إضافة إلى التقنيات الماورائية الأخرى التي كانت ضرورية جداً على مستوى المعمارية البشرية نفسها»، يعني لولا هذه التقنيات لراح الإنسان يتقهقر إلى الوراء. هذه التقنيات الماورائية هي التي تسعف الشاعر في ترحاله في الليل الوجودي.. هي فانوسه الذي يضيء عتمته المعرفية بل والروحية حين تحضر الأسئلة بكل شراستها، وتنشب مخالبها في عقله. فالأسئلة نفسها تبدو حاضرة في النص الحيثاني. وثمة ما يحرص عليه: الرغبة في إرباك هذه الطمأنينة وإقلاق الراحة الفكرية التي ينعم بها الخيال الذي يسجل تراجعاً دائماً في الحياة العربية التي تجفف منابع الخيال ومنابع الذاكرة أيضاً، الذاكرة التي تفترش نص صلاح حيثاني وتتمدد بل تتغلغل في نسيجه الكلي مثل خرافة، عريقة، ومتجذرة. ويبدو أن صلاح حيثاني أدرك جيداً أن العابر إلى تجربة الشعر الرؤيوي لا بد له أن يتسلح ليس فقط بالمعرفة الفلسفية بل لا بد أن يكون في روحه ذلك الاحتياطي الماورائي الذي يسمح له أن يدفع بعقله أو بخياله بعيداً.. إلى مسافات نائية ربما تحطم هيكله العظمي إن دخلها عارياً. أما أهم تقنياته الماورائية فهي الدهشة المخبوءة في اللغة.. باللغة يحمي الشاعر نفسه.. ليس اللغة التقليدية أو العارية التي لا تزيد عن كونها وسيلة اتصال (بتعبير رولان بارت) بل اللغة التي تفلح أرض الشعر أو الكتابة التي تتقن الحراثة في الغيب. وأما التقنية الأخرى فهي الخيال.. أجل حتى الأشياء، كما يقول بروتون، بحاجة إلى شيء من الخيال.. لماذا إذن لا يكون للماء والغياب خيال.. بل خيال محلق وجامح أيضاً. الخيال الخلاق الذي يأخذ الشاعر إلى أرض البعيد ليحيا في اللغة، يعايشها، يقيم في النص التاريخي أو الأسطوري، يندغم فيه، قبل أن يعيد توظيفه في نصه على نحو مكين. الذهاب إلى البعيد الوجودي تلك اللحظة الملتبسة بين الرجل والمرأة، هل هي تلك الخطيئة المعرفية التي يحمل تبعاتها كل بشري في جهازه العصبي؟. وهل تسجل المرأة في القصيدة حضورها/ غيابها (الحضور سرعان ما يتحول إلى غياب ليتحول الغياب إلى حضور في جدلية فلسفية) المادي أم تضيء ذلك البعد الميتافيزيقي للحب؟. لعلها استعادة لا شعورية لتلك الصورة التي ماتزال حية في اللاوعي الجسدي عن الأب الأول للبشرية، عن الإنسان الأول ومغامرته من أجل أن يكون بشرياً، هل كان يعرف الحقيقة الكاملة لهذا لم ينشغل في تلك اللحظة بالسؤال الذي شغل الفلاسفة والشعراء منذ كانت في الحياة حياة وإلى يومنا هذا: ما جدوى ذلك؟ إنه نفس السؤال العويص الذي يؤرق الشاعر أيضاً، وتحاول أكثر من قصيدة أن تطرحه في صياغات مختلفة. سؤال الوجود الذي تتكثف مشروعيته أمام وحشية الحرب، الحرب الهائلة في اتساع الأذى، القادرة على ابتلاع مدن بكاملها من دون أن تطرف لها عين.. الحرب التي ابتلعت أصدقاء الشاعر ومحبيه ووطنه وذكرياته وظلت تتجلى في قصيدته بوصفها العذاب الأبدي والاحتراق الذي لا يعرف الانطفاء.. هي جحيم البشرية وهاويتها التي لا تشبع من الدم والأشلاء ولا تنفك تقول: «هل من مزيد»؟ ألهذا السبب أطلق صلاح حيثاني على واحدة من أجمل قصائده «النظر إلى الأبدية من الأرض الحرام»؟.. وهي قصيدة ملحمية طويلة تتكون من (33) مقطعاً متصلة في الحال والدلالة يأخذ بعضها برقاب بعض، وتشكل كلها في النهاية لوحة فسيفسائية مشغولة بعناية، مصفاة ومنتقاة، وموضبة على نار شعرية هادئة جعلتها تنضج في جحيم إنساني مبجل... هذه قصيدة جحيمية، قطعة مكتوية بالأسيد، مكتوبة باللحم الحي، وفيها يمكن للدارسين المولعين بتتبع صورة الحرب في الشعر أن يعثروا على منجم من الصور العجائبية والأشلاء ورائح الدم والبارود وفتات الأقدام والرؤوس والبشاعات التي تهديها الحرب للناس بأريحية لا أدري من أين تأتي بها.. ربما من كونها تقوم في حضورها على الغيابات والنسيانات البشرية الكبرى.. ولا يتم لها التحقق الأيديولوجي كذا الجغرافي إلا في حالات الكسل الكبرى التي تعتور الضمير. ثمة في هذه القصيدة ما يفري القلب، ويأخذ الروح إلى التلف الكلي بلا هوادة.. ثمة حشائش وجودية تتهدل على جبين الأرض مثل أكاليل العار لا الغار.. أليس غريباً أن الكلمتين (العار/ الغار) لا تفرق بينهما سوى نقطة.. نقطة فقط قادرة على تنقل الدلالة من حقل إلى حقل مناقض تماماً.. ألهذا تحضر النقطة في شعر صلاح حيثاني بكل هذه الكثافة.. بالطبع، ثمة حضور لها في بعديها الصوفي والفلسفي.. لكنني هنا أتحدث عن اللغة في بنيتها الفنية الاستعارية.. وما أسهل العثور على مفارقات كهذه في قصيدة صلاح حيثاني. كأن صلاح يحاول أن يحدث جرحاً في الغيبوبة، الغيبوبة التي ألفها الناس وتعايشوا معها، هكذا ميكانيكياً، من دون أن يصرخوا أو تقوم قيامتهم أو يهزوا الدنيا أو يعيدوا النظر في تشكيل أنفسهم وثقافتهم وقناعاتهم.. إن الحرب هنا تبدو أشبه باللغز الأخير الذي يرتطم به قلب الشاعر، ونصه أيضاً... سحرية الشعر يتساءل القارئ في الواقع وهو يهاجر من نص إلى نص من نصوص الشاعر عن سر الثراء في الذاكرة، واللسان، وحضور السحر الكابوسي والفردوسي فيها؟ هل هو السحر في الأرقام التي تملك سحرية عجيبة في جميع الثقافات الإنسانية، السحر اللامرئي، الغامض، الذي وصفه «مالرو» مرة بـ «السحر الوثني».. ربما، وربما من قدرة الشاعر على تطويع معارفه وأساطيره ومختزناته العقلية والنفسية والشعورية لبناء نص ذاكروي تتناطح فيه المفردات حيناً وتتجاور آخر وتتلاقح حيناً ثالثا.. الفيصل هنا هو وعي الشاعر لما يريد أن يسرّبه في قصيدته للقارئ.. وربما يتأسس الأمر كله على ذلك الخيال الغرائبي بل وحتى السوريالي الذي يميز بعض النصوص.. تلك اللعبة الشعرية المدهشة التي تتوفر على قدرة لا أدري من أين تنزلت على الشاعر لتجعله ينفصل عن ذاته، ويحكي عنها كأنها كائن آخر.. ينفصل عن نفسه (يستخدم صلاح حيثاني النفس عادة بمفهومها الفلسفي متكئاً في الغالب على نظرية ابن سينا) وبدنه وجسده (مفهوم البدن غير مفهوم الجسد في النص الحيثاني) ليتحرك كل منهما في اتجاه.. وهو انفصال معرفي مقصود، محمل بدلالات ومواقف فلسفية، وليس ناجماً عن مجرد انفعال أو عاطفة وإلا لكان الأمر شبيهاً بالانفصال العادي الذي تمتلئ به قصائد الشعراء المعاصرين التي تجنح نحو العزلة، والوحدة.. في حالة صلاح حيثاني نحن أمام عزلة منتخبة، مشغولة بوعي، ومكتوبة بطرق شعرية وأبنية صورية ذات طبقات متعددة غايتها تكريس هذا الوعي العزلوي (إذا جازت لي العبارة).. لكن هذا لا يمنع من أنها، في مستوى ما، غربة الذات بل اغترابها الوجودي في أجلى صوره وأكثرها عدمية وعبثية. وليس صعباً على الإطلاق تلمس كميات العذاب التي تتكدس في النص المنجز. ومن هنا، ليس عبثاً حضور «رامبو» و»السهروردي» وابن سينا وجلال الدين الرومي وآخرين في النص الحيثاني، فهؤلاء رفاق الاغتراب الوجودي.. وكلهم، بشكل أو بآخر، استعاروا مشاهد أو إحالات أو إيحاءات لإدخال (أحاسيس أخرى متفجرة) إلى العمل الأدبي.. إنهم يكتبون بالنار ويعيشون على أهبة التفحم. مدارات النص.. دوائره حول نفسها لا تدور عبارة صلاح حيثاني، بل حول نفسه هو، ونفس كل قارئ يقرأ الكتاب، ونفس كونية كبرى محلها الثقافات والخطابات، ونفس وجودية تتسع مداراتها لتكون روح الكائنات بما في ذلك الجماد، ها هنا، يقترح الشعر علاقات جديدة غير العلاقات المألوفة مع العالم بكل ما فيه. علاقات لا يقيم أودها أحياناً غير السؤال الافتراضي.. ولأنه افتراضي، فإنه يشبه تحفيز الوعي بأحجية (أحجية قائمة على الإدهاش لجهة غرابة الفكرة وفرادتها)، ودفعه لقراءة المعنى الذي يظل قابعاً خلف التورية ينتظر التأويل. حول الغياب تدور النصوص الحيثانية أيضاً، وهي ثيمة بؤروية ومركزية تجري شعرنتها في أكثر من صيغة فنية، حيث تتناسل من فكرة الغياب أفكار أخرى غير بعيدة عن حقلها الدلالي، وبينها قرابات روحية ونفسية: العزلة، سطوة المفتقد سواء كان مكاناً أو إنساناً، التوحد في الحال الصوفي، التفاصيل الحميمة- ربما غير المرئية للآخرين- التي تنسج قماشة القصيدة. وما يميز نص صلاح حيثاني قدرته على صهر هذه الثيمات في جسد النص بحيث يبدو من لحمه ودمه وخيطاً ذائباً في نسيجه. ما يجعل من قصيدته حالة شعرية ذات سطوة روحية تمارس حضورها في القارئ بحميمية أخاذة. بالطبع لا يمكن نفي الصلة الواقعية بين مرتكزات الشاعر الغيابية بالمعنى المتخيل الميتافيزيقي ورديفاتها على المستوى الواقعي، فهو عاش الغياب بمعناه المادي، وتموضع بشكل حسي في نصه عبر مفردات السفر والرحيل والتيه والعزلة والعبور والهجرة والمطارات والقطارات وغير ذلك. هذه الموضعة المحسوسة لثيمات الغياب تطرح على الجانب الآخر ألق الحنين بشقيه: الحنين إلى المكان (العراق)، والحنين إلى الطفولة (الذاكرة)، والحق أن الذاكرة الثرة التي يمتلكها الشاعر واحدة من أسباب ثراء نصه شعرياً، أما الرحيل فيحضر في شكلين أيضاً: رحيل معرفي مجازي ورحيل جغرافي حقيقي وواقعي، وهذا سبب إضافي لثراء نصه المكاني (الذي يكتبه عن أماكن بعينها) بشفافية لا تخفى، ويخرج من صلبها نصوصاً تتدفق بالحياة. بل يمكن القول، بكل راحة، أن بعض نصوصه هن بنات المدن التي مر فيها..يحملن رائحتها وألوانها ووشومها وفرحاتها وخيباتها أيضاً.. أو ثراء الصيغة المكانية في النص الذي يجتاز مدارات جديدة ليجوس جغرافيا غير مطروقة للدلالات والقرائن والمفارقات التي يصنعها الغياب الحقيقي للشاعر خارج الجغرافيا العراقية.. ويبدو أن هذا الصنف من المبدعين ممن يفقدون مكانهم الأول تتشكل عندهم عن وعي أو غير وعي رغبة محمومة في أمرين: الأول هو القبض على المكان الراهن، خوفاً من فقده، بتوظيف أشياء المكان وكائناته وناسه وجماداته وأسماء الشوارع وغيرها مما يعد ملمحاً واضحاً في قصيدة صلاح حيثاني.. ولا أدري هل هو عبور حقيقي في المكان ورغبة في حيازته أم هي حيلة لا شعورية تلجأ إليها النفس القلقة لتطمئن على حضورها. أما الأمر الثاني فهو الرغبة في القبض على الزمان المتمثل في الحنين والذاكرة (وهو بالمناسبة نوع من اللاوعي للقبض على المكان القديم)، وهما (الحنين والذاكرة) متوفران بكثرة فادحة في هذه النصوص. بهذه النصوص المتشظية، التي تخلو ممراتها من أي يقين، ويزدهر فيها الشك، يحقق الشاعر خروجه الشعري من نص إلى نص.. يكتب انقطاعه الفني عن الآخرين.. ينجز كتابة بلا نسب.. وفي الكتابة لا أنساب بين الشعراء وكل نسب يوصل أرض الشاعر بأرض غيره نسب مذموم، لأنه في أحسن حالاته (تأثر) وفي أسوأها (انتحال). يكتب صلاح الحيثاني ليمحو.. ينشئ نصاً ويمحوه بنص جديد.. وبين النصين يكمن الغياب/ المعنى.. وعلى القراءة، أو هكذا يفترض، أن تتشمم أو تتلمس أو تتقصى أثر الغائب/ المعنى لتضيء عتمة النص، وعتمة الذات الشعرية.. لكن ما يجعل قراءة مثل هذا الشعر صعبة وتحتاج إلى معرفة ومكنة هو أن الشاعر شديد المكر، والمكر في هذا المقام محمود، فقد جوّد في بناء نصه كما يفعل (المعلم) إذا حذق الصنعة، وبقدرة عجيبة تمكن من إخفاء أي أثر لحضوره هو على أرض الغياب، فاتصلت الخطابات واقترنت وأنشأت علاقاتها في النص ونسجت قطيفتها اللغوية المبهرة وغياباتها الآسرة، وحنينها اليتيم.. وحين يصير حتى الحنين يتيماً، لا يبقى للنص الحيثاني إلا أن يغرز أظفاره في جسد الحياة، ذلك أن الاختبار دقيق ومأسوي وراعد...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©