الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

دموع الحلاّق الأبكم

6 فبراير 2013 21:20
خير الدين جمعة الكلام كالإنسان رحلة من الخواء...فأعظم الأحاسيس هي التي تظلّ بلا أوراق ولا شمس ولا مطرْ..! كان لا بد أن أنتظر رأفة القدر بي حتى أدرك تلك الحقيقة البلهاء... في ذلك الصيف القائظ العنيد بلون الشمس، التقيته عند باب الكلية. فبدا لي مثل برعم يشرئبّ من ثنايا الذاكرة. إنه صديقي «عادل». أربع سنوات قضيتها معه على مقاعد الدراسة، وقد كنا على طرفيْ نقيض؛ كان سميناً ودائم الصمت لا يتكلم إلا نادراً في حين كنت نحيفاً وأحب الحديث والكلام إلى درجة الثرثرة. طوال تلك المدة كان يبدو لي عاجزاً عن مجاراة العصر والمجتمع ولكن لم يخفَ عليّ أنه لم يكن يشاطرني الرأي. وكان لابد أن تمرّ أربع سنوات حتى أعرف حقيقته. فقد طلب مني وهو يراني أحمل حقيبتي أن أذهب معه لنراجع امتحانات التخرج الشفهية في بيتهم. كنت أدرك أنه يستحي أن يراني أؤجر غرفة رخيصة لمدة أسبوع بما أنّ أغلب المبيتات قد أغلقت أبوابها، وجدتُني ألبّي دعوته خاصة حين قال لي: «دعني أودّعك فربما لن أراك مرة أخرى بعد التخرج حين تعود إلى مدينتك». ركبتُ خلفه على دراجته النارية واخترقنا شوارع مدينة تونس الخانقة، وعند وصولنا إلى بيتهم قابلتنا أمّه بفرحة زاهرة وبعدها ظهر أبوه بعينين لامعتين وهو يحرّك رأسه وعلامات السعادة بادية عليه، انتظرت أن يقول شيئاً ولكنه ظلّ صامتاً، وبعد قليل سمعته يطلق أصواتاً مبهَمَة وأمام استغرابي بادرني صديقي عادل قائلا بصوت خجول: أقدّم لك أبي ... هو لا يستطيع الكلام ... إنه... ولكن ازداد استغرابي حين قال لي إنه يعمل حلاقاً ولديه محل بالسوق القريب. فهم أبوه ما قال فنظر إليّ وأشار إلى ابنه بإصبعه، نفخ فمه مثل بالونة صغيرة ثم ضربه بسبابته فأحدث صوتاً مضحكاً. ابتسم عادل وقال لي: - إنه دائما يمزح معي بهذه الطريقة، يشير إليّ بهذا الشكل ليبرز أنني تافه وسطحي مقارنة به ليدفعني إلى الاجتهاد. إنه يمزح. وأنا أحب طريقته تلك لأنه ربما أوّل صوت سمعته من أبي وأنا صغير وهو يعرف أن ذلك الصوت يُشعرني أنني مازلت صغيراً... لقد رآني أحبو وأكبر وأتعلّم نطق الكلمات.. ولكنني يا صديقي لم أره يوماً ينطق حرفاً واحداً .. ربما ذلك أحسن أليس كذلك يا أبي؟! ابتسم أبوه وقد علم أن ابنه يريد تغيير موضوع الحديث. عرفتُ بعدها أن عمي «علي» يحب المزاح كثيرا وهو لا يتكلم إلا بالحركات المتوترة السريعة، فهو لا يطلق إلا صوتين: الأول حين ينفخ فمه وهو يتحدث عن ابنه عادل والثاني حين تضع زوجته الطعام على الطاولة وتنظر إليه لتعرف رأيه في ما أعدّت فيجيبها وهو يحرّك رأسه مبتسماً ومستحسناً: « بِهْ..بهْ...بِهْ..بِهْ». ظللت في بيت صديقي عادل خمسة أيام، وجدت فيها صعوبة لتعلّم الحركات التي يتحدث بها صديقي مع أبيه وفي كثير من الأحيان كان عادل يترجم تلك الحركات إلى كلمات، في تلك الأيام بدأتُ أشعر أن الكلام ثقيل مقيت وكاذب.. كل صباح كنا نستيقظ، نراجع دروسنا، نتغدى، وبعد الظهر نمرّ على محل أبي عادل فنراه يعمل بجدّ، وفي كل مرة يتوقف عن متابعة الحلاقة لزبونه ليروي بحركات سريعة حكاية مضحكة أو يعلّق على رجل يمرّ أمام المحل أو امرأة تتهادى وهي تعبر الطريق، وكان أغلب زبائنه لا يجدون صعوبة في فهمه لأنهم تعوّدوا عليه، كنا نجلس عنده قليلاً، أما هو فكعادته ما إن يرانا حتى ينفخ فمه ثم يفرقعه بحركة من سبّابته وهو يشير إلى عادل. لا نطيل عنده المكوث بل نذهب إلى المقهى المجاور. في تلك الأيام تعرفتُ على صديقي أكثر ونحن نحتسي فناجين الكاباتشينو، قال لي بعد صمت طويل وقد رأى الأسئلة تتراقص في ناظري إن أباه يهتم كثيراً بتخرّجه.. بل إنه ينتظر تلك اللحظة ليفتخر به بين أصدقائه وهو لا يريد أن يخذله ولو لحظة.. أعجبتني علاقته بأبيه فقد بدوَا لي مثل صديقين حميمين. جاء يوم الامتحان. استيقظ عمي عليّ باكراً. بعد الفطور دعانا لكي يحلق لحيتيْنا. كان أعدّ كرسيا وسط الدار إضافة إلى أدوات الحلاقة اللازمة. شجعني «عادل» بنظرة واثقة فقد كان متأكداً أن أباه يريدنا أن نذهب إلى الامتحان الشفهي نظيفين وحسنيْ الهيئة وهكذا حلقنا لحيتينا وعطّرنا ثم تأكد من تناسق هندامنا ونظافة ملابسنا. عانقني وهو يقول مربِّتا على كتفي: « به...به..به .. به « ثم عانق «عادل» بحرارة ثم التفت إليّ ونفخ فمه وكالعادة ضربه بسبابته ففرقع الصوت الغريب عند ذلك انفجرنا ثلاثتنا ضاحكيْن. انطلقنا بعد ذلك على الدراجة النارية نحو الكلية وطول الطريق كنتُ أشعر بتوتر صديقي وتيبّس عضلاته ونحن نخترق صباح تونس الندي الأخاذ.. اجتزنا الامتحان وقد بدا عادل صامتاً أكثر من العادة منغلقاً واجماً. لم أستغرب رغبته الملحة في الذهاب لمكالمة أمه من محطة الهاتف في الكلية ولكنه عاد أكثر اضطراباً وصمتًا، قال لي بكلمات باردة نافرة إن أباه لم يذهب للعمل وإنه ينتظر النتيجة التي ستظهر بعد ساعة على الأقل... كنا جالسيْن مع ثلّة من الأصدقاء على عشب حديقة الكلية حين عُلِّقت قائمة الناجحين على سبورةٍ خضراء معلَّقة على أحد الجدران.. فاندفعتُ وسط طوفان الطلاب باحثاً عن اسمي واسم عادل الذي ظلّ جالساً على العشب يرميني بنظرات فارغة تنضح خواء و رعباً. في خضم الأصابع التي تدبّ على الورقة كعقارب الجنوب الشرسة... وبعد تفحّص و تدافع.. رأيته .. نعم رأيته.. رأيتُ اسمي مشرئبًّا أمام ناظري كالأمنيات يرمقني في اعتزاز. نعم رأيتُ اسمي يكبر ويكبر حتى غطّى مبنى الكلية وسدّ عين الشمس..! ولكنني تذكرتُ عادل فأخذتُ أبحث عن اسمه.. بحثتُ ودقات قلبي تلهث في وقاحة.. تناقصَ عدد الطلاب وتراخى الاندفاع .. اقتربتُ أكثر من القائمة و ظللتُ أبحث: عادل.... عادل..... عادل..... عادل..... عادل..... عادل..... عادل...... لم يبق سوى قليل من الطلاب ومازال الأمل الكاذب يخدعني بأن يقفز اسمه ويولد من بين الأسماء. لا أدري كم بقيتُ واقفا ولكنني انتبهتُ إلى أنني أصبحتُ وحيداً.. اصبعي اليتيم يسيل على الورقة وأنا أنزل حينا وأصعد حينا. لا أريد أن ألتفت إليه. لا أريد أن أراه ... وفي لحظة ذاب الأمل كالنهار أو أشدّ. نزّلتُ يدي والتفتُّ إليه، لمحتُه من وراء الناجحين والمهنّئين.. جالساً في نفس المكان.. كتلة من الصمت والانتظار... اقتربتُ منه، لم أجد ما أقوله له، و لكنه قام من مكانه وبادرني قائلاً بصوت منهك كئيب: أظنك نجحت.. مبروك.. مبروك. عانقني، ظلّ يهتزّ بين أحضاني فترة ، ثم رفع رأسه وهو يمسح عينيه و يقول بتردد: لا أريد أن أعود إلى البيت.. اذهبْ أنت، خذ أغراضك وعدْ إلى أهلك.. اذهب الآن حتى لا يفوتك موعد القطار. أمسكته من يده وشددتُ عليها بقوة .. فواصل: لا تخف عليّ، سأعود إلى البيت لاحقاً، ولكن أريدك أن تبلّغ أبي بالخبر.. أنا لا أقوى على ملاقاته الآن.. أرجوك. كانت من أثقل اللحظات في حياتي.. استمرّت تتمطى كأنها دهرٌ طاعن في الحركة ....! دخلتُ بيتهم وحيداً لأول مرة و سأخرج منه وحيداً لآخر مرة. فتحتْ أمّه الباب، سلّمتْ عليّ، نظرت إليّ باستغراب حين رأتني وحيداً وهرعت إلى الداخل في انفلات أرعن. في الصالون رأيت عمي عليّ قد وقف مدّعيا التماسك. ظل ينظر إليّ مستغرباً ولكن ذكاءه جعله يتقدم مني وقد عصفت بوجنتيْه اختلاجات متوتّرة، حاول أن يخفيها بأن نفخ فمه، فهمت أنه يريد أن يتحدث عن عادل بالتأكد من أمرٍ مّا، ولكنني أمسكتُ بيديه قبل أن يفرقع فمه وعانقتُه، أحسستُ ارتعاد قلبه المذعور في حياء... ضمّني إليه وهو يطلق صوت الارتياح ذاك: «بِهْ..بهْ...بِهْ..بِهْ ...»، رفع رأسه وعيناه تدوِّيان بالأسئلة فقد ازدانت بدموع الصمت وغيوم الخريف فقلت له: سيعود عما قريب.. لا تخف عليه. كانت الدموع الخرساء ترتطم بالخواء على خديه فتنثر صخباً وتزرع ليلاً وترى عجزاً مكابرْ! أما أنا فإني في اليوم الذي بدأت أفهمه وأنفذ إلى ظلال الضياء في أعماقه، كان لابد أن أغادر... كم بدت لي الكلمات حقيرة في تلك اللحظة وكم بدا لي الصمت مدوِّيًاً و مختالاً برداء الوجع ... وما أجمل الحب حين يكون صامتاً بلا أغنيات!! جمعتُ أغراضي بسرعة ثم توجّهتُ إلى الباب، عانقتني أمّه والصمت يعربد في البيت في تعنّت ومكابرة ... كم كان الكلام كاذباً في حياتي!. وكم بدا الإنسان عظيماً بلا كلمات ولا صوت ولا قمرْ!!.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©