الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

محمد خضير يبني قرية للحكّائين في بصرياثا

محمد خضير يبني قرية للحكّائين في بصرياثا
1 سبتمبر 2007 02:58
تكسب القصة العربية القصيرة بنتاج القاص العراقي محمد خضير خبرة فذة ورؤية مختلفة تتكون بفعل فهمه الخاص للخلق القصصي والكتابة السردية وثقافته المتنوعة وتمثله لمؤثرات جيله وإعادة تمثيلها فنيا· وإذا كان محمد خضير يحدثنا عن ''قرية الحكّائين'' بأسمائها المتغيرة، فأنه يشبّه ذاكرة القصاص بدكان عطار تختلط فيها روائح الأعشاب والبذور والزيوت، ومرة ثالثة يجد في مهنة ''كاتب العرائض'' المطل على شكاوى الناس وهمومهم من حافة منضدته والذي لا يكسب شيئا من القضية التي يعرضها محررا أو كاتبا، النموذج المثالي لقصاص الخمسينات ذلك هو محمد خضير: جامع الحكايات، العطّار، كاتب العرائض وهو في محترفه القصصي، منكبّ على أوراقه ليسجل ما حفظت عيناه من مشاهد وهو يجوب شوارع مدينة ''البصرة'' جنوب العراق حيث ولد في يوم ما من عام 1942م، ولم يفارقها إلا مرات معدودة إلى بغداد، والى مدينة أو اثنتين داخل العراق للعمل، أو لحضور ندوة، وبذا استحق لقب مواطن ''بصرياثا'' الأبدي· حين ترى محمد خضير بقامته القصيرة وجسده الضامر ووجهه الجنوبي البشوش المشوب بسمرة خفيفة، ستظنه ذلك المعلم الذي يعطي دروسا في اللغة الإنجليزية التي تعلمها ذاتيا، والمشرف طوعياً على حديقة المدرسة الريفية على أطراف مدينة البصرة لكن ظنك ذلك سيخيب حين تستمع إلى تعليقاته بصوته المنخفض الخجول حول قراءاته ومشاهداته التي تمثل شبكة هائلة وخليطاً من التراث والفلسفة والرواية ونظرية الأدب وحتى العلوم الطبيعية· لقد كان محمد خضير يهيئ نفسه ليغدو عالِماً، لكن القصة القصيرة التي عشقها إلى حد الاقتصارعليها دون سواها من فنون الأدب وأنواعه غيرت مسار حياته، وإن ظلت لدراسته العلمية آثار في بناء متاهاته القصصية الأخيرة لا سيما ''رؤيا البرج'' و ''صحيفة التساؤلات'' وكذلك في دفاعه النظري عن التأثير والتأثر عبر ما أسماه ''مجرّات التأثير'' وتدرجاتها ومنازلها ودوائرها ماعده بعض متابعيه إعادة إنتاج لرأي بورخيس حول العمل الأدبي وإمكان روايته بألسنة عديدة كما فعل بورخيس نفسه حين أعاد سرد حكايات من ألف ليلة وليلة وبعض المأثورات الشائعة· لكن هذا الرأي الذي دافع عنه محمد خضير دون أن يترفع عن احترام بورخيس والتأثر به والاستمداد الرؤيوي والأسلوبي منه، يتفق والرؤية الخاصة لمحمد خضير التي ترى في السرد القصصي مهمة شهودية لا يغض منها الحكي المستعار من مرجعيات متنوعة· هنا نحن إزاء ذاكرة محلية تكوكب الموقع القريب وتعليه بعد إضفاء الشعرية عليه وجعله مكانا خاصاً، بصرياثا هنا بصرة محمد خضير وحده وأي تطابق مع جغرافيتها الحقيقية ما هو إلا مناسبة للتعالي الخيالي والخلق وهذا واضح حتى في استرجاع تاريخ الأمكنة والأشياء الخاصة بالبصرة: القطار - السينما - الميناء- النخيل- الصيد- الأسواق···- فهي في استرجاعات محمد خضير ليست شواهد طوبغرافية للمدينة ككيان متعين، بل كأشياء تكونها الذاكرة والوعي بها- أعني بالأشياء ذاتها كما اكتشفها وعي محمد خضير وإدراكه وشعوره وإحساسه وعاطفته-· في مقدمة كتابه ''بصرياثا''-وعنوانه الجانبي''صورة مدينة'' الذي يدل على خصوصية ما يرسمه لها من أبعاد فهي ''صورة'' لا سجل أو وثيقة، يقول محمد خضير: فهذه المدينة لا تاريخ لها وإن سربلها الزمن برداء الحادثات، تبدأ تاريخها أنى تشاء، حين تستل من ردائها خيطا تحوك منه حادثة أو رواية، لذا فإن تاريخها لم يبدأ بعد، لا أستطيع أن أتصور في بصرياثا قوّالا بلا منبر، أو مواطنا بلا نول، المنبر والنول شعار هذه المدينة السرّي· بذلك يكون محمد خضير قد قام بنشاط ظاهراتي خلال الاسترجاع والكتابة· هذه في ظني هي الشفاعة الجمالية والمعرفية الممكنة لاختراعات محمد خضير ومخلوقاته وهي التي تبرر كذلك التصاقه الرحمي بها، فهو ''يخشى'' أن يغادرها، تماما كما كان يحصل للسياب حين يغادر جيكور، فيرى ''المدينة'' قاسية مخيفة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©