الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العراق و الدرس الإيرلندي

1 سبتمبر 2007 22:40
للوهلة الأولى، تُقدم التطورات الأخيرة في إيرلندا الشمالية بعض الأمل في إمكانية إصلاح الأوضاع بالعراق· والحال أن السلام الآخذ في التجذر في بلفاست احتاج إلى أربعة عقود من أجل أن يتحقق، وفي ذلك درسٌ لمن يريدون عقد المقارنات مع بغداد· أما الدروس التي يمكن استخلاصها من الاحتلال العسكري البريطاني الطويل، فكثيرة ومتعددة؛ غير أن عنصر الوقت يظل أهمها· عندما أُرسلت القوات البريطانية إلى إيرلندا الشمالية لأول مرة في ،1969 كانت بذلك ترمي بنفسها في نزاع طائفي بين البروتستانت والكاثوليك· في البداية، رحب الكاثوليك في بلفاست بالقوات البريطانيية وسط توقعات بقدرتها على فصل الأطراف المتناحرة وتوفير الأمن· ولكن بعد مشاهدة العمليات البريطانية، التي بدا أنها كانت تركز بشكل خاص على الكاثوليك، سرعان ما تغير هذا الموقف وظهر ''الجيش الجمهوري الإيرلندي'' باعتباره القوة المتمردة الرئيسية المعارضة للاحتلال البريطاني وللهيمنة السياسية البروتستانتية· والواقع أن دعم بريطانيا في أوساط البروتستانت كان هشاً أيضاً؛ ففي ،1972 وبعد أن أثبت البرلمان المحلي ذو الأغلبية البروتستانتية عجزه عن التوصل إلى تسوية سياسية، فرض ''التاج البريطاني'' بعدها ''الحكم المباشر'' على إيرلندا الشمالية، وهو ما دفع الكثير من البروتستانت الذين كانوا راضين عن الوضع القائم إلى التشكيك في التزام بريطانيا على المدى الطويل· وهكذا، سرعان ما تحول ما بدأ كنزاع بين طائفتين إيرلنديتين إلى نزاع ثلاثي أصعب وأكثر مرارة· وزادت من تعقيد هذا الوضع مساهمةُ البيئة الدولية· وفي نهاية المطاف، أدرك البريطانيون أنه يمكن الاستفادة من بعض دروس محاربة تمرد ''المالاي'' (1945- 1989) في إيرلندا الشمالية؛ حيث ساد الوعي بأهمية المعلومات الاستخبارية في اقتناص أعضاء ''الجيش الجمهوري الإيرلندي''، غير أن هذا الأمر لم يكن ممكناً إلا عبر مساهمة السكان الكاثوليك المحليين· والحال أن السكان المحليين لم يكونوا ليقدموا أي معلومات استخبارية إلا إذا شعروا بأن الحكومة المحلية تخدم مصلحتهم عبر توفير الأمن والعمل والتعليم، وهي أمور كان ''الحكم المباشر'' يوفرها في الواقع، ولكن العملية كانت بطيئة وصعبة· وخلافاً لما كان عليه الحال في ''ملايا''، فإن البريطانيين كانوا محصورين سياسياً في إيرلندا الشمالية؛ حيث كانوا لا يستطيعون تبني سياسات قوية ومتشددة مثل الحد من حصص المواد الغذائية، واستعمال تدابير صارمة لمراقبة السكان، وهي الأمور التي أرغمت المتمردين الشيوعيين على الخروج من غابات ''بورنيو'' في مالاي· وبالمثل، لقيت القوات الأميركية ترحيباً في بغداد باعتبارها قوات محررة في ·2003 ولكن في غضون عام، وجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة تمرد حقيقي، تزعمه في البداية النشطاءُ السُّنة الذين كانوا يرون أن الولايات المتحدة متحالفة مع الشيعة· وعلى غرار ما حدث في بلفاست، كان يُنظر إلى الجيش العراقي الجديد والشرطة العراقية باعتبارهما منحازيْن إلى أحد الأطراف؛ فكان سُنة بغداد يخافون ''فرق الموت'' الشيعية التي يديرها رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر (والذي كان ''جيش المهدي'' التابع له يهاجم الأميركيين أيضاً)، ويخشون الشرطة الوطنية التي يهيمن عليها الشيعة· ونتيجة للزيادة الحادة في أعمال القتل الطائفية في العاصمة، أصبحت بغداد مركز الثقل في الاستراتيجية الأميركية، الأمر الذي كان من نتائجه الزيادة في عدد القوات الأميركية الربيع المنصرم· والحال أنه بعد رؤية ازدياد مستويات التعاون بين القوات الأميركية والزعماء السُّنة في إقليم الأنبار، فإن الشيعة اليوم هم الذين باتوا يرتابون في الأميركيين بشكل متزايد؛ حيث ظهرت توترات حادة مؤخراً بين الجنرال ديفيد بترايوس، قائد القوات الأميركية في العراق، ورئيس وزراء العراق الشيعي نوري المالكي· وهكذا، باتت المليشيات الشيعية اليوم أكبر خطر يهدد القوات الأميركية في بغداد· لقد شكلت إيرلندا الشمالية وضعاً صعباً وشائكاً؛ غير أنه من حيث التعقيد، فإنها كانت بمثابة لعبة بسيطة مقارنة مع رقعة الشطرنج ثلاثية الأبعاد التي بات عليها حال العراق· ذلك أن ما بدأ كحرب بسيطة تقليدية بين الولايات المتحدة والعراق تطور اليوم إلى عش من التعقيدات والصعوبات· فعندما تقوم الولايات المتحدة بشيء ما لدعم أو تهدئة طرف ما، فإنها تخلق بالمقابل عداوة في اثنين على الأقل من اللاعبين الداخليين الآخرين، ولاعب خارجي واحد أو أكثر· وعلى غرار البريطانيين في إيرلندا، منعت الولايات المتحدة نفسها أخلاقياً من الانحياز إلى أحد الأطراف وقمع أو قتل من تبقى؛ ولكن نتيجة لذلك، فإن ''الأرضية المشتركة'' الوحيدة في العراق هي الأرضية التي تشغلها القوات الأميركية اليوم· وإذا كان البريطانيون في إيرلندا الشمالية قد احتاجوا إلى 38 عاماً كي يدفعوا الأطراف المتناحرة إلى الأرضية المشتركة لعقد السلام والانسحاب، فإن أي شخص يزعم بأن الولايات المتحدة تستطيع حل الأزمة في العراق بسرعة أكبر إنما يرتكب خطأً فادحاً· كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة ''كريستيان ساينس مونيتور''
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©