الثلاثاء 7 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قلوب وحيدة : قصة كلاسيكية بمعالجة حديثة

قلوب وحيدة : قصة كلاسيكية بمعالجة حديثة
2 سبتمبر 2007 00:57
شاعت في أميركا في الأربعينيات موضة صحفية، تمثلت في تخصيص حيز تعبيري للأرامل والمطلقات بعنوان ''قلوب وحيدة''، تبث النسوة الوحيدات من خلاله برسائل متبادلة مع عشاق مفترضين، وتحمل هذه الرسائل قدرا كبيرا من الأمل في العثور على (دون جوان) بديل يعوض نقصهن العاطفي ، ويؤسس لعلاقات رومانسية تقفز من منطقة الجفاف والواقع الرتيب ،إلى منطقة المثاليات والأحلام الوارفة، هذه المساحة التعبيرية الحرة تفصح في النهاية عن رغبة الأرامل في العودة للحب وامتلاك البهجة، وتنفس الحياة من جديد· فيلم ''قلوب وحيدة'' lonely hearts الذي أخرجه وكتبه ''تود روبينسون'' يغرف بقسوة من ذاكرة تلك الفترة، ونؤكد على كلمة (قسوة) لأنها تترجم وبواقعية جارحة ما حدث لبعض النسوة الثريات اللاتي سقطن ضحايا لدون جوان متوحش، استغل وسامته ولباقته وتعابيره الشعرية والأدبية لنصب الفخاخ اللامعة لهؤلاء الأرامل، وامتصاص ثرواتهن بحيل ماكرة ووسائل دنيئة· ويبدو أن ثمة ذاكرة عائلية تجمع بين مخرج الفيلم وبين تلك الأيام البعيدة، فهو يهدي الفيلم في ''تتر'' النهاية إلى جده، وسنكتشف في سياق الأحداث أن هذا الجد هو المحقق ''إلمر روبينسون'' الذي يلاحق المجرم طيلة الفيلم، ما يؤكد ارتكاز القصة على وقائع حقيقية يحتفظ بها الأرشيف الجنائي لشرطة نيويورك، وسجلات الصحافة الأميركية عن تلك الحقبة· انتحار وغموض تتوزع خيوط السرد الروائي في هذا الفيلم المليء بالتفاصيل على محورين رئيسيين· المحور الأول يتعلق بحياة التحري ''إلمر'' ــ يقوم بدوره جون ترافولتا ــ الذي يفاجأ بانتحار زوجته في عيد زفافهما دون أسباب واضحة، فتضعه الحيرة النفسية في حالة من الشرود والكآبة وتأنيب الضمير، تنعكس على علاقته بإبنه الوحيد، فهناك مساحة روحية هائلة تعزله عن هذا الابن، وكل منهما يتهم الآخر بالتلميح والإشارات المضمرة أن له يدا خفية وغير مباشرة ساهمت في إنتحار الأم· في هذا الجزء السردي من الفيلم تتلامس أجواء التصوير مع الحالة النفسية للأب، فنرى التداخل الموفق للإضاءة الكئيبة والخافتة مع الإيقاع البطيء والمكتئب لشخصية التحري، والذي يعبر لشريكه في التحقيقات ''شارلز''ــ يقوم بدوره جايمس جاندولفيني ــ عن ضيقه بالحياة وبالوظيفة، وأن انتحار زوجته أصبح مثل العقدة التي لا يمكن له الفكاك من أسئلتها الضارية والاستحواذية· عندما يرد خبر انتحار إحدى الأرامل في نادي ''القلوب الوحيدة'' تستيقظ لدى التحري ''إلمر'' غريزة البحث عن إجابات لحوادث الانتحار الغامضة، فيحاول القفز على خسارته الذاتية وتعويضها بالبحث عن مسببات هذا الانتحار، وتشير الدلائل إلى خلو الحادثة من مسببات جنائية، بينما ينظر لها التحري ''إلمر'' من زاوية أخرى، تقوم على تحليل الدوافع، والنبش في الأرضية العاطفية المهتزة التي نبتت فيها مأساة تلك الأرملة· واعتمادا على هذه الحادثة يمكن أن تتنقل بسلاسة للجزء السردي الآخر من الفيلم والذي يمثل الثقل الموضوعي فيه، والمستند على التدرج القصصي المرافق للتشكلات المريبة في شخصية القاتل، فهذا الدون جوان الذي يتواصل مع الأرامل من خلال رسائل ملتهبة بعبارات العشق والغرام، لا يوفر أية وسيلة للإغواء الذكوري، وإضفاء الســحر والجاذبية على شـــخصيته المصطنعة· الدون جوان المزيف في لقطة ذكية وبانورامية يبتكرها مخرج الفيلم، يظهر العاشق الدونجواني: ''رايموند فرناديز'' ــ يقوم بدوره جارد ليتو ــ وهو يقابل عشيقاته في بهو الفندق واحدة تلو الأخرى في لقطات متواصلة مع وجود فارق زمني تلخصه زوايا التصوير وملابس العاشق المتغيرة في كل لقطة، هذه التوليفة البصرية المدهشة توضح إمكانات المصور ''بيتر ليفي'' في شرح إمكانات هذا (العاشق /الداهية) من خلال مزج المكان الواحد مع الأزمنة المتعددة، دون أن يؤثر ذلك على مصداقية المشهد وتأثيره المكثف على المتفرج· بعد أن يحيك العاشق المحتال خيوطه العنكبوتية والحريرية على ضحاياه ويوهمهمن بعلاقة رومانسية وزوجية دافئة، يقوم باستغلال كل الفرص المتاحة لسرقة ما خف وزنه وغلا ثمنه، وترك الأرامل في حالة مضاعفة من الصدمة والذهول والإنكسار العاطفي· وعندما يصادف العاشق ضحية جديدة تدعى ''مارثا بيك'' ــ تقوم بدورها سلمى حايك ــ يكتشف أنها مختلفة عن كل النساء اللاتي وقعن في حبائله، فهي جميلة وشرسة في ذات الوقت، وتجمع بين السحر والذكاء، وعندما يحاول سرقتها يكتشف أنها احتالت عليه بدورها في رسائلهما المتبادلة، فهي فقيرة ومعدمة ولا تملك شيئا من الثروة التي تحدثت عنها في تلك الرسائل، هذه الإحباط يتحول إلى إعجاب، ثم إلى شراكة عاطفية وإجرامية، ملؤها الغيرة والخوف من انجراف العاشق في علاقات حقيقية مع الضحايا· ودخول مارثا في حياة رايموند أسس لانعطافة محورية في إحداث الفيلم، فالعاشق الخفيف والمتبخر مثل لص، تحول مع مارثا إلى مجرم محترف، يقتل ضحاياه بدم بارد، ويصفي ضحاياه بشكل وحشي ومجاني ودون أي وازع للضمير· نكهة الأربعينات أما مارثا نفسها فإن طفولتها المعذبة ساهمت في تكوين شخصيتها الانتقامية، إنها شخصية مركبة لدرجة أن الحدود الفاصلة لديها بين الحب والكراهية تكاد تكون معدومة تماما، قدمت سلمى حايك في هذا الفيلم جرعة أدائية ملفتة، واستطاعت أن تغوص في ثنايا الشخصية المعقدة لمارثا بيك القاتلة التي شغلت الناس والصحافة، وأصبحت مثالا حيا للشخصية الإجرامية في دراسات علم النفس· ينتهي الفيلم باكتشاف المحقق ''إلمر'' لمكان هذين القاتلين الذين دوخا السلطات الأمنية في أميركا، فيقودهما إلى نيويورك التي شهدت جرائمهما المبكرة، ويستقبلهما الكرسي الكهربائي، مختتما بذلك فصلا من الجحيم، وأرشيفا هائلا من الدماء والأشلاء والانتهاكات الجسدية البشعة· ''قلوب وحيدة'' يكشف عن طموح ذاتي وفني، فالمخرج يتسلل من خلال قصة واقعية متماسة معه شخصيا، إلى فضاء بصري مبتكر ومعبر عن الفضاء الداخلي للشخصيات، يمزج الفيلم بين القصة الكلاسيكية ذات المنحى النوستالجي، وبين المعالجة السينمائية الحديثة، وكان للمونتاج والتصوير دوريهما في تقديم وجبة بصرية متخمة بالتفاصيل، وأمينة لديكورات الطبيعة في الأربعينات، الفيلم قدم نكهة سينمائية ذات قيمة انطباعية، وأثر نفسي لا يمكن له أن ينمحي بسهولة مع إطفاء الشاشة أو بمجرد تركنا لصالة العرض·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©