الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القراءة.. خُبْزُنا المنسيّ

2 سبتمبر 2007 01:02
ساحرة تلعب بالبيضة والحجر، تتجدد كل لحظة، تولد أكثر من مرة في اليوم الواحد وتتكرر ولاداتها على مر الأيام والدهور· بها ومعها تخرج الحَيوات أو الأفكار من دفتي الكتاب، ترمي على المؤلف ''يمين الطلاق''، تغادر الورق وتمشي في دروب جديدة لم تعرفها من قبل، تترك أقدارها طيَّ السطور وتمضي إلى حيث تصنع القراءة لها أقداراً جديدة· تلك هي جمالية القراءة بل متعتها الخلابة، إنها تعيد صياغة ما بين أيدينا من جماد، تنفخ فيه الروح ليصبح صديقاً ورفيقاً لنا، وما أكثر ما عشنا لحظات حميمة مع كائنات الورق، وصادقنا شخصيات الروايات أو أبطال القصص مشينا معهم فوق جسر أو عبرنا نهرا، أو تلفعنا بشال صوفي يقينا البرد والزمهرير، أو انحدرنا من أعالي الجبال، وكم طفنا مدناً وسواحل ومرافئ وتلصصنا على حكايات البحارة أو الباحثين عن الذهب أو الغارقين في آلام تنتشر على امتداد بلاد الله الواسعة، وما أكثر ما استعنا على أمورنا بحكمة ''قرأناها'' في كتاب· هنا، وهنا بالضبط، يكمن سر هذا السحر الذي يلف القراءة، والبهاء الذي تمارسه في أعماقنا وهي تتدَخْلَن فينا، تحرك فكرة نائمة هنا، توقظ هماً غافياً هناك، وتصنع لنا صباحاً أجمل أو تأخذنا إلى ليل أكثر بهاء· القراءة التي تخصص لها ''دنيا'' تحقيقاً في هذا العدد، لا تحدث صدفة، وليست نبتاً شيطانياً يظهر فجأة، بل عملية طويلة المدى تبدأ مع سني الحياة الأولى، مع أول الكلام واللثغات الحلوة التي تعلن أن اللسان بدأ في العمل، وهي لا تقل أهمية عما ينبغي الاهتمام به - إن لم تكن الأهم على الإطلاق- في تربية الطفل، فبها، ومنها، ومعها، يكتشف العالم والناس والأشياء وكل تفاصيل الحياة صغيرها وكبيرها·· ومعها وبها تغادر الأحلام مرحلة الحبو وتصبح شابة قوية قادرة على مواجهة الريح وعواصف الزمن، لأن القراءة تمد الأحلام بنسغ الخيال الذي يضخ الروح في شرايينها ويحولها إلى أهداف يمكن تحقيقها على الأرض، ومنها - أي القراءة- يمكن للأب أو الأم أن يصل إلى حلول سحرية لمشكلات قد تستعصي على سبل التربية الأخرى، عندها، يأتي الكتاب، وتأتي القراءة، تماماً كما يفعل المارد الخارج من مصباح علاء الدين في الحكاية الشهيرة، تخرج القراءة - لأنها مارد بحق - لتقدم حلها وتخرج الحائر من حيرته وتهديه إلى سواء السبيل· القراءة، وإن تعددت وسائل المعرفة وتنوعت، تبقى المحراب المقدس الذي تجد فيه الروح ألقها الداخلي، وتستشعر في أفيائها كل معاني الجمال الإنساني والطبيعي، لكن القراءة هي السحر الغائب في حياتنا، فهي لم تعد هماً أو هاجساً يحتل الأولوية أو حتى يأتي في قائمة أولويات الأسرة العربية، التي غادرت بلاط الكتاب إلى ساحات الترفيه الحديثة، فتحول بقدرة ''عالمنا الديجيتالي والرقمي'' إلى مجرد بيت من الشعر نذكره كلما عنَّ على بالنا رثاء حاله، والإفصاح عن خرابه، في حين صار التلفاز والانترنت سيد الجلسات· أما سؤال القراءة فيبدو من تلك الأسئلة المعلقة على حوائط الذاكرة، تدور عليها الأيام والليالي وهي على حالها، ترفل في الغفوة تماماً مثل الكتاب، يتكدس فوقها الركام كما يتكدس فوق أرواحنا وهي تمضي إلى غفلتها عن سابق إصرار وتصميم، فيما يدور الحديث عن مشاكل وصعوبات الطباعة والنشر، وتكثر الشكوى من الإنتاج المرمي في مخازن الناشرين الذين يرثون لحال ''الألف'' نسخة التي لا تنفد من أي كتاب يطبعونه· لكن المشكلة لا تكمن في طباعة كتاب جديد بل في غياب المعني بالقراءة، في انشغاله عن الانشغال بالقراءة والمعرفة، وهذا يعني أن لدينا خللاً بنيوياً في التربية وفي العلاقة مع المعرفة وأوعيتها المقروءة· وهكذا، حين نصوغ السؤال الخاص بالقراءة لا نصوغه على النحو الصحيح الذي يؤدي إلى فهم الواقع، الواقع الذي يقول لنا كل لحظة إن الإنسان القارئ غائب، لا يكترث، لاهٍ أو متجاهل بل وغير مهتم البتَّة، وأننا نعاني في العمق أزمة قراءة، وهذا أمر فادح وكارثي! غياب القراءة هو لب المشكلة بعد أن أصبحت في نظرنا ترفاً، أو فعلاً لا جدوى منه، أو مضيعة للوقت الذي نحتاجه في تأمين شؤون حياتنا وملاحقة رغيف خبزنا، والأدهى تبرير هذا كله بأن ''القراءة لا تطعم خبزاً''، وفي عالم يطغى عليه الغث والسطحي وما يدخل في دائرة ''الترفيه والفرفشة''، يبدو لي أننا في حاجة إلى الكثير لكي تتحقق عودتنا المظفرة إلى القراءة، ومن ضمن هذا الكثير أن نربي إنساناً قارئاً، وهذا لا يتحقق إلا بتربية الطفل منذ البدء على حب القراءة والكتاب والمعرفة، بحيث يغدو الكتاب بحق ''خير جليس'' و ''خير صديق للطفل وقت الضيق''، وعندها، لن نحتاج إلى كل هذه الثرثرة الثقافية حول أسباب تراجعنا وأزماتنا التاريخية التي لا تنتهي أبداً· قال العدو مرة وقالت تقارير الأمم المتحدة مئات المرات: ''العرب شعبٌ لا يقرأ''، ومن يومها ونحن ''نطنطن'' بهذه العبارة في كل محاضراتنا ومنتدياتنا وفعالياتنا الثقافية وغير الثقافية، وربما نفصِّل فيها من دون أن يرفَّ لنا رمش من خوف أو خجل، ومن دون أن نسعى ولو على طريقة النمل إلى تغييرها· القراءة هي السؤال ''الفرض'' وغيرها من الأسئلة يبقى من ''النوافل''، ولأننا شعب لا يكترث غالباً بالفرض وينسى النوافل، ويترك الجوهر ويبحث عن العَرَض، بتنا نعيش مآزق مجتمعة، ونحكي عن أزمة في كل شيء حتى أصبحت الأزمة هي اللازمة التي نرددها مثل ''نشيد وطني''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©