الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رتشارد شتراوس.. النازي البريء

رتشارد شتراوس.. النازي البريء
9 فبراير 2012
رتشارد شتراوس مؤلف ومايسترو ألماني من أعمدة نهايات الحقبة الرومانسية والموسيقى الكلاسيكية تبعا لتعريفها في الحلقة الأولى من هذه السلسلة. اشتهر بشكل خاص بأعماله الدرامية و”قصائده السيمفونية” (الموسيقى السيمفونية التي تتولى “شرح” العمل الدرامي)، وبذلك أكمل شتراوس نمو هذا التيار الموسيقي الذي ابتدعه فرانتز ليست ووظفه بكثافة رتشارد فاغنر. وقد شكل مؤلفنا مع هذين الأخيرين أعمدة التيار الطليعي المعروف باسم “المدرسة الألمانية الجديدة”، كما أوردنا في سيرة فرانتسز ليست. وهو التيار الذي نجد طرفه المعاكس في أعمال المحافظين وأبرزهم يوهانس برامز. صلاح حسن ولد رتشارد شتراوس بميونيخ في 11 يونيو 1864 لأبيه فرانتز شتراوس الذي كان عازفا مرموقا للبوق في دار الأوبرا الملكية بالمدينة. وتلقى منذ صغره تعليما موسيقيا على يد أبيه “المحافظ”، وكتب أول مؤلفاته وهو في سن السادسة. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن الكتابة حتى مماته في 8 سبتمبر 1949. ويحكى انه في ختام أول عرض موسيقي من تأليفه في صباه الباكر وقف أمام الأوركسترا وانحنى تقديرا لتصفيق الجمهور. فارتفع صوت أحدهم وهو يقول ضاحكا: “انظروا الى ذلك الصبي الشقي ينحني أمامنا وكأنه المؤلف”. ولك ان تتخيل دهشة الرجل عندما أخبروه بأن ذلك الصبي هو فعلا المؤلف ولا أحد سواه. تنشئة محافظة كان شتراوس محظوظا منذ صغره إذ أتاح له عمل والده في دار الابرا الفرصة لحضور بروفات الأوركسترا. ولما رأى مساعد قائدها شغفه العظيم بالموسيقى تولاه برعايته وأغدق عليه تعليما خاصا في الموسيقى النظرية والتوزيع إضافة الى فنون قيادة الأوركسترا. في سن العاشرة استمع شتراوس لثلاثة من أعمال فاغنر الأوبرالية، تركت أثرا عميقا على مؤلفاته اللاحقة. وهذا رغم ان أبيه حظر عليه دراستها باعتبار فاغنر “الطليعي” عنصر إفساد عندما يتعلق الأمر بالتنشئة الموسيقية. ولم يتمكن شتراوس من دراسة فاغنر حتى سن السادسة عشرة حين اتيح له الحصول على نسخة من نوطة أوبراه “تريستان وايزولدا”. عام 1882 التحق شتراوس بجامعة ميونيخ حيث بدأ دراسة التاريخ والفلسفة، وليس الموسيقى. ولهذا فقد ضاق ذرعا بها فرحل الى برلين وحصل فيها على وظيفة مساعد للمايسترو هانز فون بولو الذي كانت اروكسترا ميونيخ تخضع ايضا لقيادته. وفي العام 1885 استقال هذا الأخير من وظيفته في ميونيخ فخلفه فيها شتراوس وسرعان ما لمع نجمه باعتباره مايسترو موهوبا. انتقل شتراوس إلى برلين عام 1898 ليعمل في دار أوبرا برلين، وبدأ تأليف القصيد السمفوني “حياة بطل”، وأوبرا “أزمة نار”. وفي عام 1901 قدم أولى حفلاته في فيينا، وتنقل في جولات موسيقية في أوروبا. وفي عام 1904 قام بجولته الأمريكية الأولى قدم في خلالها “السمفونية المنزلية”. وكالعديد من فناني بداية القرن العشرين، وقع شتراوس تحت تأثير سحر دراما “سالومي” لأوسكار وايلد، وسرعان ما حولها إلى أولى أوبراته الناجحة، وقُدِّمت في درسدن عام 1905 بنجاح كبير. تعاقبت الدعوات من العواصم الأوربية مثل فيينا وباريس وبروكسل وأمستردام وروما لإحياء حفلات قدم في خلالها أعماله، فانهالت عليه الألقاب والأوسمة من كثير من الجمعيات الثقافية والموسيقية. تتوزع سيرة رتشارد شتراوس الموسيقية إلى ثلاث حقب، يمكن تحديدها على النحو التالي: ? الحقبة الأولى، 1880 ـ 1887: في هذه الفترة من حياة شتراوس، كانت مؤلفاته “محافظة” (تماما كما أراد لها والده)، على خطى روبرت شومان وفيليكس ماندلسون ويظهر فيها تأثره الواضح بالأسماء الكبيرة في الحقبة الرومانسية، وخير مثال لها كونشيرتو البوق رقم 1. ولهذا السبب يتضح ايضا أن هذه المؤلفات لم تكتسب النضج والتفرد الذي ميز أعماله اللاحقة. ونضيف هنا أن أعماله من هذه الفترة نادرا ما تؤدى اليوم إذ لا تعتبر في مصاف الموسيقى الكلاسيكية الراقية كونها مؤلفات غير أصيلة. والواقع ان هذه الحقبة هي الأولى من ثلاث واضحة الحدود في حياته الموسيقية. ? الحقبة الثانية، 1887 ـ 1904: في هذه الفترة أتقن شتراوس فن التوزيع وبدأ مساهمته المهمة في بلورة القصيدة السيمفونية وعمادها الرئيسي الـ«لايتموتيف» (ابتدعها فاغنر وهي الجمل الموسيقية المخصصة لكل شخصية في العمل الدرامي فترتبط بها وتصبح بالنسبة للمستمع تنبيها الى ظهورها). وساهم ايضا في استكشاف آفاق جديدة في الهارموني وفي تشكيل الاوركسترا السيمفونية الحديثة. وأهم أعماله في هذه الفترة الوسطى “دون خوان” (1888)، و”ماكبث” و(1890)، و”الموت والتغير” (1890)، و”هكذا تحدث زرادشت” (1896)، و”دون كيخوت” (1897). ? الحقبة الثالثة، 1904 ـ 1949: هذه هي فترة الأعمال الأوبرالية الكبيرة التي تعتبر بين الأهم في القرن العشرين وأولها “سالومي” في 1905. بعدها دخل شتراوس في شراكة موسيقية ناجحة مع كاتب السيناريو هوغو فون هوفمانشتال أثمرت عددا من الأعمال البارزة. ومن هذه “اليكترا” (1909)، و”امرأة بلا ظل” (1919)، و”هيلين المصرية” (1928)، و”أرابيلا” (1933)،على سبيل المثال. وبعد ممات هوفمانشتال ألف شتراوس عددا من الأعمال مع كتاب سيناريو آخرين لكنها لم تصب درجة النجاح نفسه. ومن هذه “المرأة الصامتة” (1935)، و”دافني” (1938)، و”كابريشو” (1942). في عام 1894 تزوج شتراوس السوبرانو بولينا دا آنا. وقد اشتهرت هذه المغنية الأوبرالية ايضا بحدة الطبع وتقلب المزاج وإلقائها الأوامر يمنة ويسرة. ومع ذلك فقد كان سعيدا بها وقال إنها ظلت مصدر إلهام موسيقي عظيم له. وفي هذا الصدد فلنذكر أنه كتب دور البطولة النسائية لصوت السوبرانو في السواد الأعظم من أعماله. وفي العام 1948 كتب شتراوس آخر أعماله باسم “أربع أغان أخيرة” في ما يعرف بـ”ليدر”، وهي أغنية لصوت بشري وحيد بمصاحبة البيانو. ورغم انه كتب عددا كبيرا من هذه الأغاني طوال حياته، تظل الأربع الأخيرة منها الأكثر شهرة وشعبية. وهذا رغم “شدة كلاسيكيتها” بالمقارنة مع التيارات “الثورية” الجديدة التي شهدها القرن العشرين. وافته المنية في سبتمبر 1949 بموطنه المانيا عن 85 عاما، وقاد له الموزّع الموسيقي غيورغ سولتي (الذي كانن سيتولى إدارة الحفلة الموسيقية في عيد ميلاده) اوركسترا عزفت له أناشيد وداعية. لكن ثلاثة من المغنين عجزوا عن إكمال أشعارها بسبب انخراطهم في البكاء الواحد تلو الآخر. ولحقت به زوجته بولينا بعد ثمانية أشهر على وفاته وكانت في الثامنة والثمانين من العمر. شتراوس والنازية ثار في فترة ما جدل كبير في الغرب حول موقف شتراوس السياسي بعدما تولى الحزب النازي السلطة في المانيا. فالثابت انه عين ـ بدون استشارته ـ مديرا لمكتب موسيقى الدولة. وقد قبل بهذا المنصب ولكن بدون نشاط سياسي. وقال البعض إن مجرد قبوله المنصب يجعل منه جزءا من الرايخ الثالث ويتحمل بالتالي مسؤوليته عن الفظائع التي ارتكبها. لكن آخرين أشاروا الى ثلاث حقائق تبرئه من الانتماء للنازية: الأولى هي أنه طُرد من منصبه هذا بعد عامين فيه بعدما رفض إزاحة اسم كاتب السيناريو ستيفان تسفايغ من ملصق أوبراه “المرأة الصامتة” لأنه كان يهوديا. والحقيقة الثانية هي أن كنّته كانت يهودية، وبالتالي قيل إنه قبل ذلك المنصب لأنه كان يخشى على أفراد اسرته من عواقب رفضه الصريح لما كان يعتبر، رسميا على الأقل، شرفا يتسابق اليه الموسيقيون. أما الحقيقة الثالثة فتتمثل في أنه كتب خطابا الى أحد أصدقائه ينتقد فيه الممارسات النازية نقدا لاذعا. ولكل هذا فهو اليوم يعتبر على نطاق واسع بريئا من التعامل معها بمحض إرادته الحرة. جرأة وعنف ? أذهل رتشارد شتراوس جماهير نيويورك في 1904 بسيمفونية “جبال الألب” التي وظّف فيها مع الأوركسترا أجهزة وماكينات لإحداث أصوات الرياح القوية والرعد ليصوّر العاصفة. ? أثارت أوبراه “سالومي” لدى عرضها في نيويورك العام 1907 سخط المستمعين لما حوته من عنف وجرأة فمُنع عرضها. ? تعلٌم من تجربته هذه فكتب في 1909 أوبراه “إليكترا” بأسلوب أقل عنفًا عن سابقتها وكأنه يعتذر للجماهير ويسترضيها بعد استقبالها الغاضب لسالومي. من أقوال رتشارد شتراوس: ? “الصوت البشري هو أفضل الآلات الموسيقية... وهو في الوقت نفسه أكثر الآلات استعصاء على العزف”. ? “قد لا أكون مؤلفا من الدرجة الأولى، لكنني في الدرجة الأولى عندما يتعلق الأمر بالمؤلفين من الدرجة الثانية”. ? “لا تنظر الى آلات الترومبون، فقط ستشجعها على المضي في العزف”. ? عند بلوغه الثامنة والسبعين قال: “في الحقيقة لم أعد راغباً في تأليف الأوبرا، بل في شيء نادر. إني لا أسعى للغنائية أو الشعر، أوالعاطفة المتكلف، بل أبحث في مسرح عقلاني ذي فكاهة مجردة”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©