الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثيو أنجيلوبولوس.. صانع الأوذيسا المعاصرة

ثيو أنجيلوبولوس.. صانع الأوذيسا المعاصرة
9 فبراير 2012
غاب قبل أيام المخرج اليوناني العتيد وشاعر السينما الملحمية ثيو أنجيلوبولوس، في رحلة هي الأخيرة نحو ضباب الأسطورة التي اختار دائما مرافقتها بصريا واقتحام أحراشها البيضاء والسديمية من خلال مشهديات سارحة، وتأملات سينمائية طويلة وصبورة حد الذوبان في اللقطة، أملا في استدعاء التراجيديا الإغريقية الغائمة في الذاكرة، واستحضارها من منبعها الغامض والسحيق والمتحقق جماليا في قلب المأساة، وفي بؤرة الهدير الصاخب للزمن. يستحضر انجيلوبولوس المأساة بكامل تألقها الدامي، كي يشتبك مع حاضر يخصه ويعانق سيرته الذاتية وسيرة بلده المبتلي بالحزن التاريخي والانقسام الأيديولوجي والخراب الاقتصادي، ما يعكس جراحات واقع حي ومًعاش ولا يقل مأساوية عن ما خبره الأسلاف في مرقدهم البعيد، والمغمور بوهم الأبدية واستنفاذ الخلود حتى آخر قطرة من رحيق الخرافة ومروياتها. إبراهيم الملا رحل أنجيلوبولوس عن عمر يناهز السابعة والسبعين بعد أن صدمته دراجة نارية مسرعة في موقع تصوير فيلمه الجديد: “البحر الآخر” والذي قرر أنجيلوبولوس أن يكون آخر أفلامه بعد مشوار سينمائي منهك وحافل ومليء بالإخفاقات والإنجازات والشهرة والخيبة والآلام والإنتشاءات، والتي امتدت على مدار أربعين عاما، واختتمت بمشهد تراجيدي حقيقي هذه المرة، ولكنه لم ينتصر على روح المغامرة السينمائية الكبرى التي سطرها انجيوبولوس بلحمه ودمه وبكاميرته الجامحة والمخترقة لأقانيم الماضي السحري والغرائبي والبطولي، ولأسوار وحدود الراهن المقلق والمشمول ببؤس الإنسان وضراوة الأقدار ووحشية الأنظمة وصرخة الاقتصاد المنتحر في المحيط الشرس للرأسمالية ورصيدها الخاوي من الرحمة. ولد أنجيلوبولوس في أثينا عام 1935 ودرس القانون ثم ذهب إلى باريس ودرس فنون السينما، ليعود إلى اليونان ويعمل كناقد سينمائي في صحيفة “ديلي ألاجي” في العام 1967 وهي الصحيفة التي أغلقها المجلس العسكري الذي قفز للسلطة حينها بعد شكوك المجلس في الميول اليسارية لمحرريها. تشريح الألم وكانت تبعات حكم الجنرالات الذي امتد لسبع سنوات في تلك الفترة الداكنة من عمر اليونان الحديثة قد انطبعت بقوة في ذهن السينمائي الشاب، وظهرت بشكل علني وأحيانا بشكل ضمني ومستتر في جل أفلامه اللاحقة. وإثر سلسلة من الصدمات ومضايقات الرقابة والانتكاسات الاجتماعية والوظيفية قرر انجيلوبوليس الدخول في مغامرة الإخراج من خلال مشاريع صغيرة وأفلام قليلة الكلفة ولكنها لم تحقق طموحه السينمائي ولم تترجم ثيماته الجمالية والنظرية التي اختزنها في وعيه المتحمس والمتمرد على السائد، ولكن مع خروج فيلمه الروائي الطويل الأول “إعادة بناء” في العام 1970 لفت أنجيلوبوليس الأنظار لموهبته السينمائية التي تعالج الحدث من منظور تشريحي ونقدي لدوافع ومسببات هذا الحدث، والذي يؤسس لمفاصل القصة المروية بصريا ولتوتر الحبكة في تشعبات السرد الروائي. تناول فيلم “إعادة بناء” قصة مهاجر يوناني يعود من ألمانيا حيث يتم قتله على يد زوجته الخائنة بمساعدة عشيقها، ولكن المخرج لم يتناول الجريمة من جانبها البوليسي ولم يتقصّد إثارة المشاهد، بل ابتكر أسلوبا سينمائيا جديدا عرف بالمعالجة الدائرية للسرد من أجل تحليل الإشكالات الاجتماعية والظروف النفسية الغامضة والمعقدة التي تكمن وراء جريمة القتل، حصد الفيلم جائزة في مهرجان (دي هيريس)، وحظي بصيت جيد وانتباه نقدي لافت في مهرجان برلين السينمائي. وبعد انجازه لهذا الفيلم انطلق انجيلوبولوس لتحقيق ما عرف لاحقا بالسلسلة المتشابكة للتجربة الواحدة، حيث ينجز المخرج أفكاره على مراحل من خلال سلسلة أفلام تفترق قصصها وأحداثها ولكنها تجتمع على محتوى واحد ومفهوم مشترك، يسانده الأسلوب الفني المتماسك ذي البصمة أو الهوية الإخراجية التي تدلل على اسم المخرج منذ اتصال المشاهد مع اللقطات الأولى لأفلامه، وبدأت السلسلة الأولى من هذه (الكتلة الفيلمية) ـ إذا صح التعبير ـ عندما قدم انجيلوبولوس فيلمه “أيام الـ 36” في العام 1972 وألحقه بفيلم “الممثلون الجوّالون” في العام 1975، وأكمل السلسلة في العام 1977 بفيلم “الصيادون” حيث قدمت هذه السلسة ما أطلق عليه النقاد حينها بالمدرسة التأملية في تاريخ اليونان الحديث. وتوضحت ملامح السلسلة الثانية في المنجز السينمائي لأنجيلوبولوس من خلال ثلاثة أفلام متتالية أيضا هي: “الإسكندر الأكبر” عام 1980 ثم “رحلة إلى كيثريا” 1982 وأخيرا “مربي النحل” في 1984، وشهدت هذه الفترة ولادة الصداقة الروحية والعلاقة المضيئة مع الشاعر وكاتب السيناريو تونينو جويرا و ي العلاقة التي استمرت حتى النهاية مع هذا المخرج العبقري والمفتون بشعرية السينما حتى تخومها العصية والمستحيلة. العشب المحترق فاز فيلم “رحلة إلى كيثريا” بجائزة النقاد في مهرجان كان السينمائي، وكذلك جائزة أفضل سيناريو، حيث يروي الفيلم قصة مخرج يريد أن يروي من خلال كاميرته قصة والده العائد من الاتحاد السوفييتي بعد ثلاثين سنة قضاها في ذلك المنفى الموحش والرهيب. يصور الفيلم مشاعر الأب الذي بات الآن غريبا ومنسيا في موطنه الأصلي، إلا من بعض الذكريات الباهتة وفصول الطفولة المسحوقة تحت وطأة الاكتئاب والشتات الداخلي المزمن، حيث مقطع من قصيدة الشاعر اليوناني الشهير “جورج سيفيرس” يمكن لها أن تلخص مناخات الفيلم بمجمله عندما يقول: “لقد تحولنا إلى أرواح منسية ومحطمة في العشب المحترق”. تعرض الفيلم أيضا لمشاعر الخذلان وخيبة الأمل التي عانى منها أنجيلوبولوس شخصيا بعد انهيار كل الآمال وتبخر كل الوعود المبشرة بولادة ديمقراطية حقيقية في اليونان، بعد فترة مظلمة من حكم العسكر، واستمرار الفساد والفوضى والعنف داخل نظام جديد ولكنه متآكل من الداخل ومريض ومشوه حتى النخاع. في فيلمه اللاحق “منظر في الضباب” 1988 تناول انجيلوبولوس قصة طفلين يبحثان عن والدهما المتخيل، في رحلة معذبة نحو اكتشاف الذات، وتخطي الحدود، والعودة إلى الجذور وهي الثيمات الأثيرة التي تواصل صداها ووقعها في أفلام انجيلوبولوس القادمة مثل: “الخطوة المعلقة لطائر اللقلق” 1991 و”تحديقة عوليس” 1994 و”الأبدية ويوم” 1998، حيث ناقش في تلك الأفلام الثلاثة موضوع انهيار القيم وسقوط المرجعيات وانتكاسة الأيديولوجيا خصوصا بعد سقوط جدار برلين وخفوت الوهج الشيوعي وضمور المعسكر الشرقي وانتصار الاقتصاد الحر على نظم بائدة ومتحجرة لم تحقق العدالة والرفاهية المحلوم بها نظريا لشعوبها، وناقش فيلم “تحديقة عوليس” مشكلة الحدود الجغرافية التي تحدد قيمة وماهية البشر، وتصنع قيودا زائفة وأنماطا مشوهة لمعنى الهوية، وما تفرزه هذه الحدود الافتراضية من كراهية وعنصرية تبرر فكرة الانعزال، وتقمع مرادفات الإخاء الإنساني والحرية الذاتية والمساواة التي لا يفصلها دين أو لون أو عرق. سماوات قريبة ومع فيلم “الأبدية ويوم” الذي حاز من خلاله انجيلوبولوس بسعفة كان الذهبية ومثّل اليونان في منافسات جوائز الأوسكار في ذلك العام، أثبت انجيلوبولوس أنه من طينة المخرجين العظماء الذين أنجبتهم السينما الطليعية في عصرها الذهبي، وتم وصف الفيلم على أنه تحفة بصرية فاتنة، وهو عمل خلاق يجسد الارتحال الرشيق والسلس بين الماضي والحاضر، في اشتغال متجدد من انجيلوبولوس على تطوير تجربته السينمائية للوصول إلى النقاء والشفافية القصوى لما يمكن أن يعرضه الشريط السينمائي من أفكار قوية تتجسد في إطار متحرك من الألوان والظلال والشخوص والحوارات المنتمية والمترجمة بصدق لقيمة وأصالة هذه الأفكار. ومن أفلام أنجيلوبوس الأخرى التي لا يمكن أن تغادر ذاكرة السينما نسترجع فيلميه “المرج الباكي” 2004 و”غبار الزمن” 2008 حيث ينبثق في هذين الفيلمين اشتغاله المرهف على المزج بين الشعر والأسطورة، انطلاقا من واقع سردي يرفض الانصياع لشرط الواقعية الصارم، لأن الأحلام والإستيهامات المنتشية يمكن أن تخلق وطنا آخر للمحرومين والبؤساء والمفجوعين الذين تحرروا من آلامهم، واختار العيش في أرض الأفكار والخيالات الملونة والمحلقة نحو فراديس الطفولة وحدائق المستقبل المعلقة في سماوات قريبة وملموسة وواضحة حد اليقين. لقد تأكدت وبشكل ملحوظ موهبة وعبقرية انجيلوبولوس وأسلوبه المتفرد من خلال مختبره الفني الخاص ومشروعه السينمائي الأشبه بالأوديسا المعاصرة، والتي شاءت الحادثة المروعة التي أدت إلى وفاته في ترسيخها كمشروع لن ينتهي سوى بموت المخرج نفسه في موقع التصوير، وكأننا أمام مشهد ختامي قابل للتأويل ومرتبط بالأساطير اليونانية التي تمجد عذابات البطل وتضحياته للوصول إلى قمة الخلاص الفردي ومقاومة الموت من خلال استذكار الشخصية وتخليدها في الميراث الفني والأدبي الذي لا ينقطع ولا يمكن الرهان أبدا على خفوته وانهزامه أمام شرط الموت وأحكامه القاطعة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©