الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جحيم السيّاب

جحيم السيّاب
31 ديسمبر 2014 22:42
هناك عالم عام لكل من يكتب الأدب، وبعد ذلك يقوم الشاعر بتوشية العالم العام بنكهته المحلية من جهة والشخصية من جهة أخرى. بالطبع يعتمد ذلك على اطلاع الأديب على العالم الأدبي ومدى قناعته به، فقد يكون اطلاعه ضحلاً فتكثر المكّونات المحلية في أدبه، في حين تنكمش هذه المكونات في ذاك الذي انساق مع الكون الأدبي الكبير. وربما كان السيّاب من أبرز الذين مثلوا الحالتين. ففي الخمسينات برزت قصائده الوطنية عن المغرب ونضاله، وقصائده الخاصة بالعراق، واشتهرت «أنشودة المطر» بأنها خاصة بالعراق- وهي كذلك برغم ما قاله النقاد في اقتباسها- لكنه فيما بعد عاش عالم الأدب بكل أبعاده المترامية، ولم يعد للعراق الصاخب، ولا للعالم العربي، الذي توالت فيه الانقلابات العسكرية، سوى اهتمام ضئيل عند الشاعر، فالتفت إلى عالمه الخاص ليوشي به ما تأثر به من الأدب العالمي. وسنختار من القصائد التي نظمها في «وفيقة» تلك التي تصف حديقة وفيقة، حيث أدخلنا عالماً آخر بعيداً عن عالمه الواقعي. إنه العالم السفلي كما قدمه الأدب الغربي، فليس في ميثولوجيا الرافدين أي عالم آخر يحشر فيه الإنسان بعد موته، ثم طعّمه بتجاربه العاطفية المؤثرة. عالم وفيقة عندما نظم السيّاب هذه القصيدة كان العراق يمور بالعنف والصراعات الحزبية، والتيارات السياسية والانقلابات والتمردات المتوالية فترة بعد فترة. فوجئنا بعالم جديد قد يتراءى لبعضنا نقيض نظرية «تين» الأدبية. وفيقة فتاة عراقية لها اسم حقيقي وكيان حقيقي وعائلة وانتماء. أحبها الشاعر ولم يوفق. فجعل اسمها وفيقة واستعار لها شخصية من الخيال الأدبي، والتقاها في العالم الآخر، أو في الجحيم كما يقال. والجحيم في الأدب العالمي يتلوّن بألوان المراحل والمذاهب، فالجحيم المسيحي الذي تحدث عنه دانتي مريع والنار ملء جنابه، بينما الجحيم السابق على المسيحية في الغرب هو شيء آخر، عذابه مختلف كل الاختلاف عن جحيم دانتي، وعلى هذا العالم اعتمد السيّاب في رسم عالم وفيقة السفلي، مهتدياً بقصيدة الشاعر سوينبرن «حديقة بروسربين». قال في وصف الحديقة: لوفيقة/ في ظلام العالم السفلي حقل/ فيه مما يزرع الموتى حديقه يلتقي في جوّها صبح وليل/ وخيال وحقيقه تعكس الأنهار فيها وهي تجري/ مثقلات بالظلال/ كسلال من ثمار كدوال/ سرحت دون خيال كل نهر/ شرفة خضراء في دنيا سحيقه... والحمام الأسود/ يا له شلال نور منطفي يا له نهر ثمار مثلها لم يقطف عالم هادئ ساكن يطبق عليه الصمت فلا حس ولا حياة ولا صخب، كأن الشاعر لا يعيش العراق الصاخب في ذلك الوقت، وربما في كل وقت، فحتى الآن يفور العراق كالبركان. ولا يلتفت إلى العالم العربي، كما كان يفعل في بداية انطلاقته الشعرية، بل يستطيب تصوير عالم انتزعه من الآداب العالمية، ومن تلك الصورة التي أبدع في عرضها هوميروس في ملحمته «الأوديسة» عندما زار بطله الجحيم، وهي التي استوحاها أيضاً سوينبرن. أين العراق في هذا العالم؟ موجود طبعاً، ولكنه على غير واقعه، وعلى غير غليانه الأبدي، وبيرقه الدامي. موجود بحسب قوانين العالم الآخر الأدبية. ففي ذلك العالم تربعت وفيقة على عرشه وصارت ملكته بتاج من الصمت الرصاصي الثقيل، هناك يسعى العراقيون إليها ولكنهم يمرون بها دون اهتمام، وقد انتقلوا من حال إلى حال. تسأل الأمواتُ من جيكور عن أخبارها عن رباها الربد عن أنهارها آه والموتى صموت كالظلام أعرضوا عنها ومرّوا في سلام والحديقه سقسق الليل عليها في اكتئاب مثل نافورة عطر وشراب وخيال وحقيقه. بين عالمينلكن هذا لا يعني أن يكون الأثر طبق الأثر لدى الشعراء، فهناك قصيدة للشاعر الإنكليزي سوينبرن صوّر فيها العالم ذاته الذي صوّره السيّاب بعنوان «حديقة بروسربين» لا نجد فيها ما وجدناه في القصيدة العراقية، ولكن الشبه بين القصيدتين كبير جداً حتى يكاد القارئ يذهب إلى أن السيّاب ترجم بتصرف بعض أبياتها. المواد المستخدمة ذاتها، والجوّ العام ذاته، والعالمان السوينبرني والسيّابي واحد، لا يفرقهما إلا الحصيلة العامة للوحة، ففي حين تخرج الأحزان الشرقية حارقة من قصيدة السيّاب، يحتفظ سوينبرن بصمت الرصاص الثقيل على لوحته، منذ مطلعها حتى نهايتها. يقول في المطلع: هنا، حيث العالم في صمت مطبق، هنا، حيث القلاقل كلها تبدو تمرّدَ رياح خامدة، وثورة أمواج هامدة في الرؤى المريبة للأحلام شاهدت الحقل الأخضر يتنامى بدلاً من شعب يبذر ويحصد، بدلاً من زمن الحصاد والدراسة، هناك عالم ناعس من الأنهار. نرى الناس هنا بلا اسم أو رقم/ في حقول لا تثمر قمحاً، ينحنون ويهجعون/ كل الليل إلى أن يولد ضوء/ مثل روح تأخرت/ عن الجحيم وفاتتها السماء/ ضغطها الغيم والضباب/ فخرجت من صباح الظلام. وهم، كما في قصيدة السيّاب، مسلوبو الإرادة حتى إن واحدهم، الذي كان قوياً قوة سبعة رجال يساكن الموت، ولا يسهر مع الملائكة في السماء، ولا يبكي الأوجاع في الجحيم. وحتى الذي كان يستريح للحب لا تراه في هذا العالم مستريحاً. أما الفرق بين برسربين ووفيقة فيظهر في مقطع سوينبرن: تنتظر قدوم فلان وعلان، وتنتظر كل المولودين وتنسى أمها الأرض، تنسى حياة الثمار والقمح والربيع والبذار والسنونو إنه فارق بين سوينبرن، الملتزم بجمالية التراث الأدبي، والسيّاب الذي يختار من هذه الجمالية ما يؤدي دوافعه العميقة، فأدخل موتى جيكور كبقعة أرجوانية في ذاكرته. وهذه لفتة بارعة من السيّاب، إذ غمس ريشته في حبر العراق الذي يخصه ولوّنها بذكرى صباه. أما الجوّ العام للقصيدتين فواحد، ففي العالم الآخر، أو العالم السفلي لا تشرق شمس ولا تظهر نجوم، ولا ضياء يتغيّر، ولا صوت ولا تنهيدة ولا رياح الشتاء ولا أوراق الربيع، ولا الأيام تحسب، ولا شيء يكون له يوم محسوب، بل نوم أبدي في ليل أبدي. سوينبرن والسيّابكان سوينبرن مخلصاً لوسطه، فبروسربين (برسيفوني عند الإغريق) رمز الإزهار والتفتح، وغيابها رمز لفترة الشتاء، ومن الطبيعي أن تنسى أمها الأرض (ديميتر) في هذه الفترة، وعندما تدخل عالم الموتى تخضع لنظامه، ولولا شفاعة كبير آلهة الأوليمب لما تركها زوجها ملك الجحيم تخرج لزيارة أمها، وهذا ترميز لعودة الإزهار في الربيع. أما السيّاب فيعتمد شخصية واقعية، فيستبدل اسمها ويدعوها في قصيدته وفيقة، وكان يحبها وله معها ذكريات. وعلى عادة الشعراء - كدانتي وأمثاله من أصحاب الحب الرفيع - يلتقيها في العالم السفلي، ولكن يا لها من لقيا، فقد خضعت لقوانين ذلك العالم الصامت الكئيب، فكان حظه في الآخرة كحظه في الدنيا، على العكس من دانتي. وهو لا يستطيع الاعتماد على الميثولوجيا الفراتية، فالإنسان فيها زائل ولا آخرة له. الآخرة، أو الخلود، من حظ الآلهة، كما تروي فتاة الحان لجلجامش، ولا نصيب للإنسان فيه. كان لا بد من استلهام العالم السفلي من الأدبين اليوناني والروماني، كما فعل سوينبرن تماماً، مع فارق واضح هو أن سوينبرن أخلص لذاك العالم الميثولوجي، بجمالية جديدة، في حين ألمح السيّاب إلى عالمه الخاص. لا ندري دوافع القصيدة السيّابية ومؤثراتها، ترى هل لاحظ أن كل من كتب عن العالم الآخر، كُتب له الخلود، فأراد أن يسهم إسهام الخالدين من أول رحلة في الأدب قام بها أوديسيوس حتى رحلة إينياس ورحلة المعري ودانتي وابن شهيد الأندلسي، وفوزي المعلوف ونسيب عريضة؟ لا ننكر أنه استعان بحديقة بروسربين في تصوير حديقة وفيقة، ولكن عبق الشرق يفوح من كل جانب من جوانب القصيدة، على عكس ما كان العراق يوم ولادة القصيدة، فقد أفلح في الدمج المتقن، وريشته لم تخطئ في اختيار الألوان الشرقية الحزينة، وخاصة تصوير موتى جيكور. ومن هنا يتأكد المقصود ب «الوسط» في نظرية «تين» وهو تلك الثقافة التي يتمتع بها الأديب والشاعر، فقد يتأثر بتراث يعود إلى آلاف السنين، أكثر مما يتأثر بما يلتصق به أحياناً. ولذا ندرك أن للأدب قوانينه التي صاغتها التطورات الكثيرة المتوالية، حتى غدت ذات سلطة أقوى أحياناً من سلطة الأشياء اليومية. وهناك وجهة نظر لدى بعض أصدقائنا وهو أن الحس المرهف بالموت والنهاية دفع السيّاب إلى هذه القصيدة وأمثالها. وهي وجهة نظر مقبولة، وإن كانت القصيدة أسبق من قصائد «الموت» التي نظمها السيّاب في أثناء مرضه الأخير، ويقينه من اقتراب الأجل. بيد أن الشيء الذي نؤكده أن «الحدائق المعلقة» لم توح له بشيء في هذه القصيدة، بل وصف حديقة تخالف تماماً تلك الحدائق التي اعتبرت إحدى عجائب الدنيا. ونلاحظ أن هناك بعض الصور لوفيقة لا تنسجم دائماً مع الجوّ العام للعالم السفلي الذي قدمه لنا. ربما يعزى ذلك إلى تنقل الشاعر من مذهب إلى مذهب، فقد ابتدأ بالواقعية الاشتراكية، ثم انتقل إلى مذهب إليوت في الشعر، ثم تأثر بالشاعرة سيتويل، ثم أوغل في وصف عبثية الحياة، مثل كامو، عندما شعر برحيله المحتم. ومن يقارن بين ما قاله في وفيقة وما قاله في «المومس العمياء» يرى الفارق الكبير في انتقال الشاعر من الموقف الواقعي إلى مواقف يجمع فيها عناصر فنية وأدبية متعددة. أما سوينبرن فيحافظ على موقفه، مثل بقية لفيف الشعراء الذين أطلوا علينا بمدرسة ما قبل الرفائيلية، فبروسربين عنده منسجمة مع ذاتها، والعالم السفلي دائماً في حالة كآبة، لا يزرعه الموتى، بل لا يأملون بالبذار والحصاد.. فقد مات الغد وحوّلهم السأم إلى أطياف خاوية. إن «الوسط» عند «تين» ليس الواقع المعاش، حتى لو كثر الشعر الذي يلتزم الواقع. إنه يشمل، بل يضع في المقدمة، ذلك الكون الكبير بعوالمه الثلاثة: الفوقي والسفلي والأرضي، كما رسمها الأدب ذاته عبر القرون الطويلة. في خمسينات القرن الماضي شاعت لدينا، في بلاد الشام، نظرية الناقد «تين» في الأدب، ومن عناصرها البارزة: العرق واللحظة والوسط (أو البيئة) فدفعتنا إلى النقاش في المهم والأهم. ومع اختلافاتنا الصغيرة والدقيقة انتهينا إلى نتيجة تكاد تكون واحدة، وهي أن من المستحيل أن يوازن الكاتب بين العناصر، كما أن من المستحيل أن يكون التأثير واحداً في نتاجه كله، فحيناً يبرز هذا العنصر وحيناً يبرز آخر، وهكذا. ولكن بعد ذلك عرفنا أن للأدب عالماً أقوى وأفعل من العالم الواقعي، فتسمع قصيدة الحنين مثلاً لشاعر قبل قرون سحيقة، فلا تفرقها عن أحدث قصيدة لأحدث شاعر. وتسمع قصيدة رثاء لشاعر رحل قبل مئات السنين فتجدها مثل قصيدة شوقي في الراحلين الكبار الذين رثاهم.. وهكذا حنا عبود
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©