الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المباخر... زغرودة الطيب في غياهب الجمر

المباخر... زغرودة الطيب في غياهب الجمر
8 سبتمبر 2007 23:23
تفتح قلبها للنار، فيرقد الطيب على وسادة الجمر، ليفوح الأريج كزغرودة تطلقها بفرح· إنها العاشقة التي تشرّع أحضانها لاستقبال البخور وحرقه، ومن سوى المبخرة، عاشقة تحرق من تحبه؟ لهذه الحسناء- المعمّرة، سيرة ذاتية موغلة في التاريخ القديم، يُرجح أنها ولدت على يد الإنسان البدائي، الذي اكتشفها و ابتكرها بفعل المصادفة، حين احتاج إلى وعاء يضع داخله أوراق النباتات والأغصان الصغيرة وصمغ جذوع الأشجار والزهور العشوائية، ليدقها بعصاه حدّ هرسها، ويدهن نفسه بمزيجها، من قبيل التعطر أو التداوي· ما وصل إلينا عبر أساطير الشعوب، يحمل في طياته طرائف عن المبخرة، بعضها غريب يصل حد الخرافة، ففي أسطورة أرمينية قديمة، تقف شابة أسفل جبل آرارات وقد جعلت باطن كفها محملاً لجمرة -شعلة نار- تضيء درب سفح الجبل، لحبيبها الفارس الهارب من الأعداء، من دون أن تحترق يدها! وثمة كتيبات ولوحات تشكيلية وصور فوتوغرافية تشير إلى هذه الجزئية في الأسطورة··· بينما كتب التاريخ تذكر لنا زمن ظهور المبخرة أو المجمرة بتوثيق ومعلومات أدق· ابنة شرعية للشرق تضيء لنا هذه الكتب، جوانب إنسانية واجتماعية من حضارات الشعوب القديمة، كالصين التي تتقاطع بعض العادات والتقاليد فيها مع بعض العادات المتوارثة في الشرق منذ نحو ألفي عام قبل الميلاد، وعلى وجه خاص، فيما يخص المباخر التي كانوا يضعون بداخلها زهوراً عطرية وأعشاباً وبخوراً مستخرجاً من جذوع الأشجار، احتفاءً بالأعراس أو بالحصاد الوفير أو بالانتصار· أما في كتاب فنون الحروب القديمة الذي رصد بعض الحروب بين الفراعنة والسوريين القدامى، وصولاً إلى معاهدة قادش بين الفراعنة والحثيين، فقد ذُكر أن الفراعنة حين مضوا لتوقيع المعاهدة حملوا معهم مباخر خشبية عظيمة طُلي داخلها بمعدن يحتمل النار، حتى إذا وصلوا بوابة سوريا الشرقية، وضعوا بداخلها جمراً يُشعل زهور اللوتس فيفوح عبيرها، إشارة منهم إلى السلم، بينما كانت مجامر الحثيين كبيرة الحجم ومصنوعة من الأحجار، مخصصة لشعلات النار بهدف الإضاءة· بما يؤكد أن مهد المباخر هو الشرق· أقدم مبخرة في الخليج لعل أكثر ما يؤكد تاريخ ظهور المباخر، هو تاريخ إنتاج اللبان والبخور، وقد شهدت منطقتنا المتاجرة بهما خلال فترة النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، عبر المحيط الهندي ساحل مالابار · ويضم المتحف العماني في جنباته، مبخرة من حجر الكلس لها أربعة قوائم وبداخلها مادة سوداء كأثر اللبان -بخور محروق- وحدد تاريخ المبخرة من 2100- 2200 ق · م· وهي بذلك أقدم مبخرة في العالم· ويبدو جلياً أن الجزيرة العربية ومنطقة الخليج عرفت صناعة وتجارة المباخر الفخارية، بخاصة وأنه عثر على أوانٍ فخارية في معظم دول المنطقة، يشير بعضها إلى أنه استورد من جنوب بلاد الرافدين، حيث يشير اكتشاف الأواني الفخارية في قبور حفيت إلى تاريخ 2700- 3100 ق · م· كما أن أول انتاج للفخار المحلي تزامن مع تعدين النحاس واستخدام الخرز المعدني· سر الأيادي الماهرة تعتبر صناعة المباخر عبر التاريخ، سر اليد الماهرة، التي تشكلها كقطعة فنية في أثاث الدور والقصور، فمنذ القدم تفرّغ الصناع لإنجاز مباخر من الفخار والجص والخشب والنحاس الأصفر والأحمر والخزف والمعادن، كما صنعت من الخيزران ثم البرونز، بعدة أشكال هندسية ونماذج بديعة· وكانت تصنع من خلال اختيار نوع التربة وتنظيفها، وإضافة الماء عليها وتدويرها عبر الحرق بالنار وتصميمها، بحيث يحتاج تصميم مبخرة أو مجمر فخاري واحد أكثر من ساعتين من العمل، لكن التطور الذي مرّت به المبخرة منذ نحو 3000 عام وحتى يومنا هذا الذي تصنع فيه من مواد معدنية مطورة و ألمنيوم مُعالج، وتستخدم الطاقة الكهربائية أو الغاز من دون الحاجة إلى الجمر، جعل عملية التصميم تتطلب دقة في عمل التشكيلات والقوالب، قبل وضعها في فرن حراري حتى تجف، سواء كانت المباخر فخارية أو نحاسية أو معدنية· هذا ما يراه السيد محمد النظامي (مدير بيت العود والعنبر والعطور- العين) الذي يقول إن صناعتها -من الفخار اليدوي- في الخليج العربي، تدخل في إطار إحياء التراث والمحافظة عليه، على اعتبار أنها إحدى مهن الأجداد التقليدية، وبذا شكّلت الإمارات سوقاً اقتصادية واسعة للمباخر، تستوردها من شرق آسيا وأوسطها، ومن مصانع السعودية والتشيك· الفاتنة الفارعة تشبه المبخرة غالباً، جسداً بشرياً، فلديها قدمان -قاعدة- وخصر نحيل -وسط- يساعد على إمساكها منه، ولها رأس -المجمرالذي يوضع فيه الفحم المشتعل والدخون والبخور- بحيث يميل شكلها إلى الطول، أياً كان نوع الخامة المصنوعة منها أو حجمها· كما اشتهر الإغريق بصناعة مباخر من الحجر والمرمر، بعضها على هيئة تماثيل بشرية أو حيوانات أو طيور· أياً يكن نوعها أو شكلها أو حجمها، لا يخلو بلد وربما بيت عربي من وجود هذه الفاتنة الفارعة فيه، ففي باطنها يأج مزيج العطور والبخور وخشب العود، فتنشر الأريج العطر في أرجاء المنزل، وتعطّر الثياب والجسد وأثاث وزوايا المنزل على حد سواء· أما في حالة استقبال الضيوف فإن لها طقوساً وتقاليد تتصل بتدخين وتعطير الضيف، حيث يُقدم له العود في المبخرة ليُنسم منه إليه بحركة من يده، ويقوم بهذه المهمة شخص بعينه وهو نفسه ساقي القهوة العربية، أما في مجلس النساء فتقوم مدبرة المنزل أو إحدى الفتيات بالمهمة· ويراعى أن تكون كمية البخور والمواد العطرية ضعف كمية الجمر· دلالات واستخدامات تجمع المباخر في كيمياء قوامها و استخداماتها، العناصر الأربعة الأساسية في الكون: الماء والتراب والنار والهواء· لذا تعتبر لدى العامة مبروكة مثلما يُعتبر العود والبخور على أنواعه فأل خير· ساد هذا المفهوم لدى العامة منذ وقت قديم، متكئاً ربما على تقاليد وممارسات منتمين إلى الأديان السماوية، يرون أن البخور طارد للنجس والشر· فقد جاء في عدة مواقع إلكترونية على شبكة الإنترنت- استقطبت مادتها من مصادر علمية وكتب تاريخية- أن المصريين القدماء وكذلك اليهود استخدموا المبخرة في طقوسهم الدينية، كما استخدمها المسيحيون في كنائسهم خلال القداس والاحتفالات الدينية، وكذلك استخدمتها المدينة المنورة، حيث كان نعيم بن عبد الله، وهو مولى عمر بن الخطاب، يقوم بتبخير مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم · ويروي المقريزي: عرفت المبخرة أيام مجد وعز في العصر الفاطمي، فقد اهتم الفاطميون بتبخير المساجد خاصة يوم الجمعة الذي يلقي فيه الخليفة الخطبة · وقد ذكرت المبخرة في الوقفيات لتبخير المساجد والمدارس، كوقفية الحاكم بأمر الله للجامع الأزهر، ليتم تبخيره أيام الجمع وطوال شهر رمضان· أما اجتماعياً فقد استخدمت المبخرة في مناسبات كثيرة كالزواج، والاحتفال بسبوع المولود، وختان الأطفال، و تبخير الموتى، يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): إذا أجمرتم الميت فجمِّروه ثلاثا · ومما لا شك فيه، وأياً كان رمز المبخرة روحياً أو معنوياً أو تراثياً، فإن مجسماتها تملأ الفنادق الكبرى والمؤسسات البلدية والشوارع والدوّارات ومداخل المدن خاصة في دول الخليج العربي، في إشارة واضحة إلى مكانتها الكبيرة في النفوس· رمز تراثي تنجز أندية التراث والجمعيات النسائية، مئات من أشكال المباخر الفخارية للبيع خلال مهرجانات التراث، أو لإهدائها كرمز تراثي ينتمي إلى بيئة الإمارات· ذهب وكريستال يتراوح سعر المباخر في الإمارات من درهم واحد فخار إلى 10 آلاف درهم مذهبة أو كريستال · كما تتعدد أحجام ومقاسات المباخر بدءاً من ارتفاع 3 سنتمترات إلى ·150 أسماء العرسان بعض المحال المتخصصة يمكنها حفر علم الدولة أو بيت شعري أو أسماء أو صورة على سطح المباخر، بحسب طلب العروسين أو أصحاب المناسبة· سوق المباخر لا تزال مباخر الفخار تباع في منطقة ميناء أبوظبي، ويتوافر سوق صغير خاص بها·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©