الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رؤى العالم-2

رؤى العالم-2
11 سبتمبر 2007 23:27
بقدر تحول الشعر العربي إلى صنعة، مقترنة بالجهد الإنساني الذي يمكن للشاعر الصانع توجيهه في كل اتجاه، مادحا أو هاجيا أو راثيا أو واصفا··· إلخ، شاعت صفة القصيدة الحولية وتحكيك القصيدة، مقابل قصيدة البداهة أو الارتجال العفوي الذي يبدو معه الشاعر كأنه يمتح من بئر، أو يتدفق كالنبع، واقترنت الصنعة بوظيفة اجتماعية، يؤديها واحد من البشر لأمثاله من البشر، وتحولت الصنعة إلى تجارة، تستحق العطاء من القادرين الذين يتجه إليهم المديح أو ما في حكمه، وأصبح الشعر طبقات يتمايز فيها فحول الشعراء في الجاهلية والإسلام (عند ابن سلام) والعصر العباسي (عند ابن المعتز)· وكما اقترنت الصنعة بفكرة التميز، في المدى الذي يتميز فيه الشاعر الفحل على غيره تميز الفحول على الحقاق، اقترنت الصنعة بفكرة التعليم الذي أصبح موضوعا للتأليف، حتى من قبل الصناعتين لأبي هلال العسكري، و العمدة فى صناعة الشعر ونقده؟ لابن رشيق القيرواني كثير · واستمر مفهوم الصنعة قرين الرؤية الشعرية في دلالاتها المحدثة المنطوية على العقلانية التى جعلت أبا تمام يصف الشعر بأنه صوب العقول ، ويقع التمايز بين الشعراء بقدر فطنة كل منهم وبراعته العقلانية في جانب، وميله إلى الطبع الذي لا يخلو من الصنعة لا التصنيع في جانب ثانٍ· ولم تنكسر هيمنة الدلالة الجاهلية القديمة للرؤية (الشعرية) إلا بعد أن بَعُدَ العهد بفكرة الشياطين والكائنات العلوية أو فوق الطبيعية المتصلة بالشعر، أو الشاعر، خصوصا في تناقضها مع الإسلام وفكرة الوحي الإلهي الذي لا وحي إلا هو، ولا إلهام إلا منه· ولم يعد أحد يشغل نفسه في مدى دلالات الشعر بأكثر من كونه تصنيعا لا يخلو من التدقيق والمراجعة، أو طبعا لا يخلو من الصنعة بمعناها العفوي· وتحول الفارق بين أنصار الصنعة وأنصار الطبع إلى فارق بين أنصار الجديد من التصنيع الخارج على عمود الشعر القديم وتقاليده الغالبة (الطبع) والخارجين عليه من المحدثين، المتعاطفين مع البديع الذي أصبح نوعا من التصنيع، حتى من قبل أن يكتب ابن المعتز كتابه الشهير عن البديع الذي رآه خصومه - وابن المعتز منهم - خروجا كمّيا على التقاليد العربية القديمة التي لم تخل، قط، من معنى الصنعة في تجلياتها المختلفة· هكذا، أصبح الشعر، حتى في أحوال الطبع، صنعة قابلة للتعلّم والمدارسة، لها قواعدها التي تبدأ بحفظ أشعار السابقين، وتجاوزه إلى التدرب على إتقان تصنيع التراكيب وتوجيهها، والمهارة في المواءمة بينها وكل مقام أو مقتضى حال· وفرغ دالّ الشعر من أي مدلول دينى أو أسطوري بالكلية عند صانعيه والمنظرين لصناعته بأوسع من الحد الذي وصف به قدامة بن جعفر القصيدة بأنها مثل غيرها من الصناعات كالنجارة والحدادة والنسج وغيرها· وظل الأمر على هذا النحو إلى أن تزعزعت الهيمنة العقلانية في الأوساط الصوفية التي استبدلت الخيال بالعقل، والحدس بالصنعة، والعرفان بالمنطق، والبصيرة بالباصرة، والكشف الروحي بالنظر العقلي · وعندئذ، زاحمت الرؤية الرؤيا، وظلت العلاقة بينهما علاقة الثنائية الضدية التي باعدت ما بين طوائف المتصوفة والعقلانيين من الفلاسفة وأصحاب علم الكلام· والنتيجة هي صعود دلالة الرؤيا، في الثنائية الضدية، إلى أفق الشهود والكشف، حيث أحوال الصوفية، أو مواقف الصفاء الروحي بمعنى أقرب إلى التجلِّى الذي هو نوع من الشهود الذي تنزاح فيه الحجب عن قلب الصوفي فيبصر ما لا نراه، خصوصا في المدى الشفيف الذى يرى فيه الصوفي المطلق منعكسا على مرآة الوجود التي يحتويها قلبه، والعكس صحيح بالقدر نفسه، وذلك في دلالة غير بعيدة عن الدلالة المتضمَّنة في قول أبي يزيد البسطامي : كانت لي كالمرآة؟ ؟فصرت أنا المرآة، أو بيت ابن عربي الذي كان يرى العالم مرآة الحق، والحق مرآة العالم، مؤكدا أن قلب المحقق مرآة فمن نظرا يرى الذي أوجد الأرواحو الصورا ومن اللافت للانتباه، حقا، أن الثنائية الضدية التي باعدت ما بين رؤية العالم و رؤيا العالم، في التراث العربي، توازي ما يماثلها في الموروث اليوناني، حيث يقف أفلاطون والأفلاطونية إلى جانب فكرة الشاعر الملهم الذي يتلقى الوحي، ولا ينطق بلسانه، بل بلسان الآلهة التي تضعه في حال من الجنون الرهيف المعدي للمتلقين، وذلك على نحو ما أوضح أفلاطون في كل من محاورتي فيدروس و أيون ، حيث نقرأ عن الجنون الرهيف عند الذين تتلبسهم ربات الشعر، فينطقون وحيها، فالشاعر ملهم ، يُوحَى إليه من الآلهة، تبث ربات الشعر كلامها على لسانه، والبراعة في الشعر ليست فنا (أو صنعة) بل إلهاما، تنتقل رسالته من الآلهة إلى الشاعر، وتنتقل عدواه من الشاعر الممسوس بما ينطق على لسانه إلى المتلقين الذين يصيبهم المسّ بمعنى من المعانى، وذلك في حال أشبه بما يحدث مع حجر المغناطيس الذى يجذب إليه كل من يقترب منه، خصوصا القابلين للتمغنط· وعلى النقيض من هذا الفهم جاء الفهم الأرسطي مؤكدا المعنى العقلاني للشاعر الصانع وليس المجنون الملهم، وأصبح الشاعر يعمل وفقا لقانون الاحتمال والضرورة لا وفقا للحظ العابر أو المصادفة أو الوحي· ولذلك أصبح الشعر، مثل غيره من الفنون، محاكاة مقصودة، هدفها تقديم موضوعاتها، مضافا إليها ما يراه الصانع أو الفنان (ولا فارق كبيرا في الأصل اليوناني بينهما)· وكما أصبحت المحاكاة فعلا قصديا، في مدى الإضافة إلى موضوعاتها، أصبح للشعر منطقه النوعي، ومن ثم أصبح المستحيل المقنع أقرب إلى غاية الشعر، مثلا، من الممكن غير المقنع ·والنتيجة هي ضبط الشعر في قوانين تحديد ماهيته ووظيفته وأدواته، تحت عنوان البويطيقا، أي فن الشعر أو العلم به ·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©