الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

راتب "المحليات" يعادل 3 أضعاف راتب "التربية"

راتب "المحليات" يعادل 3 أضعاف راتب "التربية"
12 سبتمبر 2007 03:04
على مدى سنوات طويلة شكل العمل في وزارة التربية والتعليم وتحديداً في سلك التدريس خياراً استراتيجياً لقطاع عريض من المواطنين وخاصة المواطنات، حيث ظلت التربية والتعليم بما يتوفر لديها من خصوصية في العمل أحد مراكز الجذب الوظيفي البارزة على المستوى الاتحادي، وخلال العقود الثلاثة الماضية ارتفعت أعداد العاملين في وزارة التربية والتعليم والمناطق والمكاتب التعليمية التابعة لها الى أرقام قياسية مقارنة بوزارات أخرى، ففي الوقت الذي كان فيه عدد الموظفين في الحكومة الاتحادية بوزاراتها ودوائرها ومؤسساتها 58 ألف موظف وموظفة كانت وزارة التربية والتعليم تستحوذ على نصيب الأسد من هذا العدد، بل إن الوزارة من خلال ديوانيها في أبوظبي ودبي ومناطقها ومكاتبها التعليمية سجلت نسبة تتراوح بين 45% الى 60% من أعداد القوى البشرية في الوزارات والمؤسسات الاتحادية· كان الإقبال على العمل في ''التربية'' في هذه العقود مرتبطاً بمجموعة من العوامل التي تدفع بشباب الخريجين والخريجات للانخراط في هذا القطاع، وفي مقدمة هذه العوامل تلك الخصوصية التي كانت توفرها المدارس أو العمل في التربية للخريجات بصفة خاصة لدرجة جعلت كثيراً من طالبات المرحلتين الثانوية والإعدادية يحددن خيارهن التدريسي مبكراً، بل ان جُل الخريجات كن يتجهن الى التربية دون تردد أو تفكير طويل، فقد وفرت التربية من خلال العمل بها بيئة مثالية تحفظ للمرأة خصوصيتها من خلال عدم الاختلاط أو الاحتكاك بالرجال في مواقع العمل التي ظلت مقصورة على المعلمات والإداريات فقط· الأكثر جاذبية وعلى الرغم من تدني المكانة الاجتماعية للمعلم ونقص الراتب وزيادة الجهد والعبء التدريسي الذي يقوم به فإن قطاع التربية والتعليم ظل هو القطاع الأكثر جاذبية والأكثر بريقاً للمواطنات من حملة شهادات الثانوية العامة والتأهيل التربوي والجامعات، حيث وجدت الخريجات في قطاع التربية والتعليم ملاذاً آمناً للتميز الوظيفي والإبداع، وسجلت مدارسنا نماذج كثيرة وقدمت صوراً وتجارب تعليمية متميزة لمعلمين ومعلمات في مختلف التخصصات· سنوات طويلة لا يملك فيها المعلمون والمعلمات سوى الصبر على تلك المعوقات التي تعترض طريق مهنتهم وخاصة فيما يتعلق بتدني المكانة الاجتماعية والمادية وعدم وجود حوافز مالية أو وظيفية تدفع بهم للاستمرار في هذه المهنة، وفي الوقت الذي كان ينتظر فيه هؤلاء بارقة أمل تعيد الى نفوسهم البسمة وتفتح أمام صدورهم أشرعة مضيئة على مستقبل مشرق لمهنة التدريس، وجد المعلمون والمعلمات أنفسهم رهناً لتصريحات صحفية لا تغني ولا تسمن من جوع· الأحلام والوعود وطوال تلك المدة لم يجد المعلمون والمعلمات من وزارة التربية والتعليم التي تعاقبت عليها قيادات تربوية متتالية سوى الوعود، إذ عادة ما يبدأ العام الدراسي الجديد بوعود وكلام معسول حول زيادة الرواتب المخصصة للمعلمين، ثم ينتصف العام الدراسي ولا تتحقق هذه الزيادةن ثم يشارف العام على الانتهاء وعيون المعلمين معلقة على بداية العام الذي يليه، جميعهم ينتظر قراراً يعيد الى هذه المهنة دورها الإنساني والرسالي كمهنة إنسانية سامية تبني الفرد والمجتمع وترسخ القيم والهوية، وتفتح نوافذ الإبداع على مصراعيها أمام النشء والشباب· انتظر المعلمون والمعلمات كثيراً ومضغوا ''الحُصرم'' وتناقلوا الشائعات وتبادلوا رسائل التهاني على الزيادة المالية والكادر الجديد الذي حل فوق رؤوسهم، ولكن سرعان ما تتبخر ''أحلام اليقظة'' هذه مع كل شائعة من هذه الشائعات التي تطلقها ''الأماني الخفية'' للمعلمين والمعلمات أملاً في أن ينصلح حالهم وتتعدل درجاتهم ويجدوا تقديراً مالياً عند ماكينة الصراف الآلي· فرحة لا تتم مرات كثيرة نتلقى فيها اتصالات هاتفية من المعلمين والمعلمات كلها تؤكد أن كشوف الزيادة اعتمدت وأن جهات اتحادية ومحلية دخلت على الخط، وأن المالية بصدد إرسال الكشوف الجديدة الى البنوك، أحلام كثيرة نسجها المعلمون والمعلمات وهم يلتحفون شظف العيش، وتلهب ظهورهم أشعة الشمس في مدارس عز علينا أن نمد فوقها مظلة من ألواح الصفيح، معلمات كثيرات انهارت حياتهن الأسرية بسبب أعباء مهنة التدريس، فالرجل الشرقي ما زال في معظمه كما هو يريدها جارية في ''الحرملك'' ويتأفف عندما يجدها تحمل فوق صدرها كومة من الكتب وكراسات التلاميذ الى غرفة المعيشة تصحح وتعدل وترصد الدرجات· شهد قطاع التربية والتعليم مبادرات حميدة لتشجيع الانخراط في هذه المهنة في مقدمتها مكرمة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة (حفظه الله) للمعلمين وكذلك مكرمة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وجائزة حمدان بن راشد آل مكتوم للأداء التعليمي المتميز وغيرها من الجوائز التربوية التي ترتقي بالمتميزين والمبدعين في هذا القطاع، ولقد كان ولا يزال لهذه المكرمات وتلك الجوائز دور كبير في الارتقاء بالعملية التعليمية، ولكن يظل المعلم هو حجر الأساس في هذه العملية، وهو أكثر عناصرها معاناة· المعلم بالدولار في كل الدراسات المسحية والوصفية والتشخيصية والعلاجية المحلية والإقليمية والدولية التي قام بها خبراء من هنا وهناك للنهوض بقطاع التربية والتعليم كان المعلم ولا يزال هو القاسم المشترك بين التحديات والمعوقات التي تحول دون الانطلاق نحو التقدم والازدهار في قطاع التعليم، ولا أنسى علامات الاستغراب التي ''أكلت'' وجه الخبير الأجنبي العجوز الذي أخرج من ''مخباه'' آلة حاسبة ليحول راتب المعلم من الدرهم الى الدولار وصرخ الرجل عندما وجد راتب المعلم الوافد بالكاد يتجاوز ألف دولار، والمعلم المواطن راتبه يتراوح ما بين ألفين و ثلاثة آلاف دولار، وقال الرجل كلمته المشهورة ''إذا لم تتجه أصابع الجراح نحو استئصال أورام المعلم فإن أورام التعليم ستظل تتضخم الى ما لا نهاية''· في العام الدراسي الماضي نشطت عملية الحديث عن كادر المعلمين، ونشطت معها الأماني والطموحات ورأى المعلمون ''بشارات'' خير في تصريحات صادرة من هنا وهناك عن مسؤولين في التربية، ومضى العام الدراسي، وقلب المعلمون صفحة جديدة فتحوا فيها أكفهم بالضراعة الى الله أن يكون العام الحالي عام خير وبركة، ويتحقق فيه المأمول من الكادر، وتتغير فيه الدرجات المالية الى الأفضل، ويجد هؤلاء الذين ينتمون الى فئة الوظائف المساعدة في التربية من أمناء المكتبات والمختبرات والسكرتارية والاخصائيين الاجتماعيين من ينصفهم مالياً ووظيفياً· رمضان والكادر بالأمس تداول المعلمون والمعلمات رسائل للتهنئة بقرب حلول شهر رمضان ولم تخلُ هذه الرسائل من دعاء الى الله أن تتحقق في هذا الشهر الكريم بركات ليلة القدر ويظهر الكادر وتعم الفرحة، خاصة في ضوء تلك الحالة التي تشهدها بعض المناطق التعليمية مما يطلق عليه ''الهجرة العكسية''، وهي الهجرة التي حمل فيها نفر من المعلمين والمعلمات استقالاتهم على أكفهم وذهبوا بها الى ''التربية'' غير عابئين بخصم 25% من نهاية الخدمة حسب اللوائح التي تحددها الخدمة المدنية لمن يستقيل في غير المدة المحددة لقبول الاستقالات· ومع بداية الأسبوع الثالث للعام الدراسي الحالي فإن الاستقالات لا تزال تقرع أبواب مسؤولي التربية؛ وذلك لوجود بدائل أفضل كثيراً من وجهة نظر مقدمي هذه الاستقالات من العمل في التربية، ففي إحدى المؤسسات المحلية التنموية تم إقرار كادر تم بموجبه ''حرق'' جميع المغريات التي يمكن أن ترصدها التربية للمعلم، فالخريجة التي تلتحق بهذه المؤسسة ولم يجف بعد الحبر الذي كتبت به شهادة تخرجها تحصل على معاش لا يقل عن 19 ألف درهم، في حين تحصل زميلتها التي تلتحق بالتربية على 9 آلاف درهم، ولا تحصل مديرة المدرسة التي بدأت حياتها في التربية قبل 15 عاماً على راتب الخريجة الأولى· إن المنافسة التي يشهدها ميدان التدريس في التربية والتعليم فيما بين المعلمين والمعلمات على ''الانعتاق'' من هذه المهنة لا يشير الى تدني مكانتها الاجتماعية فحسب، بل الى حالة الإحباط التي يعاني منها المعلم اليوم جراء تدني المردود المادي الذي يحصل عليه· إن وزارة التربية والتعليم وكذلك المناطق التعليمية لديها من الإحصاءات والبيانات ما يشير الى معدلات قياسية في الهجرة العكسية من التربية الى مؤسسات أخرى، بل ان كوادر قيادية في الوزارة وبعض المناطق التعليمية آثرت ترك ماضيها التربوي بكل ما فيه من جهد وعناء، ومدت ساقيها للريح للحاق بقطار ''المحليات'' قبل فوات الآوان· نائب المدير وعلى سبيل المثال لا الحصر فإن نائباً لمدير إحدى المناطق التعليمية ظل يعمل في قطاع التدريس ثم في الإدارة على مدى عقدين من الزمن لم يتجاوز راتبه الشهري طوال هذه المدة أكثر من 13 ألف درهم، وقد وجد الرجل عرضاً للهجرة الى ''المحليات'' وتصور الرجل أنه عندما يفصح عن هذا العرض فإن الزملاء سيقيمون الدنيا ولا يقعدونها تمسكاً به، فإذا بهم يقولون له: على بركة الله، في موقعه الجديد في المحليات لم يطلب من الرجل جهد يعادل 20% من ''الكرافة'' التي كان يقوم بها ليل نهار في التربية، بل أصبح بمقدور الرجل الحصول على امتيازات لم يكن يحلم بها في مقدمتها علاج وجراحة الأسنان، وزراعة الأسنان، وتجميل الفكين، وبدل تعليمي يصل الى أكثر من 85 ألف درهم، وشهرين إجازة وتذاكر سفر الى تلك المنتجعات التي لم يكن يعرف خرائطها إلا في أحلامه· عتمة الليل يؤكد صديقنا الذي أنعم الله عليه بالهجرة الى ''المحليات'' على أنه لم يعش الدنيا من قبل، فلأول مرة يعرف صديقنا أن هناك شيئاً يمكن أن تشربه في الدوام اسمه ''الكابتشينو''· كما يمكنك خلال الدوام أن تزور مواقع عمل أخرى وأن ترى المدينة في عز الظهر بدلاً من تلك المدينة التي كان لا يراها إلا في عتمة الليل أو عند ساعات الصباح الأولى عندما يهرع الى مكتبه في التربية، ويحمد صديقنا الله الذي استجاب لدعائه في ليلة مباركة وكلل جهوده في الانتقال الى المحليات بالنجاح، مترحماً على تلك السنوات العجاف التي كان يواصل فيها الليل بالنهار والصيف بالشتاء وفي النهاية خرج منها خاوي اليدين· السحب على المكشوف قيادة تربوية أخرى بدأت السلم من أوله وجابت مختلف مناطق الدولة ''كرافة'' حتى انتهى به المطاف الى منصب الشخص الثاني في منطقة تعليمية أخرى وهناك وبعد سنوات من ''كشخة'' المنصب وبرستيجه وجد الرجل نفسه ضيفاً ثقيلاً شهرياً على بطاقات الائتمان الإلكترونية، وعليه أن يرتب أموره شهرياً مع أحد الأصدقاء في البنك، بحيث يستطيع السحب على المكشوف، صاحبنا أيضاً جاءه عرض للهجرة الى ''المحليات'' ولم يتردد، فقد كان معاشه في السنة الواحدة في ''المحليات'' يعادل ثلاثة أضعاف المعاش في الزمن الغابر في التربية، قدم صديقنا استقالته وعمل بالمثل العالمي المعروف ''انظر وراءك في غضب· وانظر أمامك في أمل''· إن هذه الحقائق تدعونا للإسراع في إنقاذ ما تبقى من كوادرنا التربوية التي تمضغ ''ملح'' المهنة يومياً وتئن داخل المدرسة وخارجها وتنتظر بارقة أمل تعيد لمهنة ورثة الأنبياء وقارها الذي نبحث عنه منذ سنوات، فهل سيطول انتظار هذا الأمل؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©