الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قرأت على مسامعه قصيدة «أم الرجال الرجال» فصحح لي معلومة

قرأت على مسامعه قصيدة «أم الرجال الرجال» فصحح لي معلومة
15 ابريل 2009 23:25
في عام 1972 قمت بنظم ملحمة شعرية بعنوان: «أم الرجال الرجال». قدمتها للإذاعة، مستغلاً فرصة وجود الفنانة العربية المرحومة سناء جميل لتقوم بالدور الرئيسي في هذه الملحمة. أدت المرحومة سناء دور الأم التي تقف مع ابنها أمام منصة بحرية للبترول لتطلب منه الإصغاء إلى ما تقوله الشعلة النارية الصاعدة من فوهة المنصة البترولية. يقول الابن: النار ذي فوق بئرٍ إعلان خيرٍ عميمِ النفط يدفق منها دفق الندى من كريمِ ترد الأم: لو كنت تعرف مثلي تاريخ هذي البقاعِ وعشت فيها قديماً فوق المراكب ساعيِ الموج فيها صديق لحرمة لا يراعي يوماً تراه وفيّاً ينساب تحت الشراعِ وفجأة يتمطى مزمجراً لنزاعِ لا يستريح ويهدأ إلا بقتل جماعي لو كنت تعرف مثلي تاريخ هذي البقاعِ لجئت تصغي إليها تحكي فصول الصراعِ وتتولى الأم ترجمة ما تقوله نار فوهة البئر البترولية وتحكي عن تاريخ المنطقة والتضحيات التي قدّمها الأجداد ليظلوا في الوطن ويظل الوطن لهم. كنت فخوراً بتلك الملحمة وخاصة بعد إخراجها بصوت سناء جميل وبعض الأصوات الإذاعية الرائعة. وكنت أتوق لأقدمها للمغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الشيخ زايد لسببين: الأول: أنني أعرف مدى حبه للشعر وتقديره للشعراء. والثاني: إن الملحمة تتحدث في فصلها الأخير عنه كقائد للمسيرة. عندما أبلغت معالي الدكتور مانع العتيبة برغبتي طلب مني أن أكون جاهزاً في أي وقت لإلقائها أمام الرئيس.. ولذلك كنت أحملها معي أينما أذهب حتى لا أفاجأ بطلب إلقائها دون أن تكون في جيبي. ومرت الأيام والأشهر دون أن أتخلى عن الملحمة في كل مرة أزور معاليه في بيته في أبوظبي أو في غنتوت أو في الجرف. وفي ذات يوم كنت مع معاليه في الجرف «المعمورة» فأخبرني أن الشيخ زايد سيحضر بعد قليل لتناول طعام الغداء. وبالفعل حضر رحمه الله يقود سيارته بنفسه، ويرافقه جماعته وبعض الحراس من الحرس الأميري. استقبلنا سموه سعداء بهذه الزيارة.. وبعد أن قام بجولة في أنحاء القصر حان موعد طعام الغداء.. وفوجئت بالدكتور مانع يخبر الشيخ زايد ويقول: خليل، طال عمرك، لديه قصيدة يحب أن يلقيها أمامكم. رحب صاحب السمو الشيخ زايد رحمه الله وقال: عدها يا خليل.. ولأن الملحمة كانت طويلة.. والغداء كان جاهزاً فقد حاولت الاعتذار قائلاً: لكن طويل العمر.. قصيدتي طويلة.. والغداء جاهز.. وأطلب منكم أن تعطوني فرصة أخرى لإلقائها أمامكم. قال رحمه الله: كم تعتقد سيستغرق إلقاء القصيدة. قلت: لا أقل من عشرين دقيقة. قال: وكم الوقت الذي قضيته في نظم هذه القصيدة. قلت: حوالي شهر. قال: أنت تنظمها بشهر.. ونحن نبخل عليك بعشرين دقيقة.. عدها يا خليل. بهرني هذا الكرم الذي يفوق كل أنواع الجود المادي.. ولم أستطع إلا أن أسحب الأوراق من جيبي وأبدأ الإلقاء معتمداً على قوة الصوت في غياب الميكروفون. أصغى رحمه الله إلى قصيدتي بكل اهتمام وكنت ألمح على وجهه علامات الانفعال والتأثر.. ولم أحصل في حياتي كلها على جو إصغاء يفوق ذلك الجو الذي هيأه لي بحب وكرم ذلك القائد الذي أدركت في ذلك اليوم بالذات لماذا يحبه كل فرد من أبناء هذا الوطن. مرّت العشرون دقيقة بسرعة غير عادية لأن الأوقات الجميلة دائماً تسرع في عبورها. صفق لي رحمه الله.. وتبعه الجميع.. وهنأني على تلك القصيدة الملحمة وأذكر أنني حظيت يومها بمكافأة فاقت ما يمكن أن يتوقعه أي شاعر في ذلك الزمان. بعد القصيدة جلسنا لتناول طعام الغداء مع سموه رحمه الله.. وفوجئت وأنا أجلس أمامه بقوله: القصيدة فعلاً جيدة ولكن لي ملاحظة عليها. قلت: تفضل يا طويل العمر. قال: لقد صورت البطل صقر.. يرمي بنفسه في البحر مشهراً خنجره ليصارع الجرجور (سمكة القرش) والتي سميتها بالوحش. قلت: نعم.. قال: اقرأ ذلك المقطع قرأت: قال الرجال لنرجع فهنا البقاء دمارُ لا صيد يجري وهذا وحش البحار مثارُ فأجابهم بزئير إن الفرار لعارُ جئنا نصيد لتحيا أجيالنا فاختاروا إما نعود لجوع فوق الرمال يدارُ أو نستبيح قتالاً للوحش ذا فاختاروا قال زايد: لقد صورت المعركة باندفاع صقر إلى الوحش بخنجر.. وما هكذا تصارع الجراجير يا خليل.. وشرح سموه رحمه الله كيف يتم صيد الجرجور.. بل روى لنا تجربة شخصية عاشها ذات يوم.. عندما كان في مركب صغير مع بعض الرجال وعندما ظهر الجرجور أمامه أطلق عليه الرمح المربوط بحبل مثبت في المركب.. وما كاد الرمح يغرز في جسد الوحش حتى انتفض الجرجور بكل قوة وجر المركب خلفه.. ولما أيقن الشيخ زايد أنه إذا استمر الجرجور في جر المركب بتلك السرعة فإن المركب سيغرق.. ولذلك أسرع باتخاذ قرار قطع الحبل وقام فعلاً باستخدام خنجره في قطع الحبل والخلاص من ذلك الوحش القوي الذي كان سيغرق المركب. قلت: يا طويل العمر.. كانت قصيدتي تتحدث عن صقر كرمز للصراع مع الصعوبات التي عانى منها أجدادنا لتوفير حياة كريمة لهم ولأولادهم في الوطن. قال سموه رحمه الله: ما أجمل أن يكون الرمز مطابقاً للواقع. قلت: نعم يا طويل العمر.. ولو كانت لدي المعلومات التي سمعتها منكم الآن لتغير مجرى القصيدة. أذكر ذلك الحوار الآن.. بعد مرور أكثر من خمس وثلاثين سنة بقلب عاش الحب الحقيقي مع القائد العظيم.. حقاً اليوم غاب زايد.. ولكنه لم يزل حياً في القلوب. ولا تزال تلك القصيدة الملحمة تذكرني بالغائب الحاضر كلما عدت إليها على الورق أو أصغيت إليها على شريط التسجيل. أصغي إلى الابن في الفصل الأخير يقول: أكان بحراً لئيماً أم شاءت الأقدارُ أبتي يضيع وجدي التضحيات كبارُ ترد الأم: التضحيات شهود لشعبنا وفخارُ لولا بطولة قومي والعزم والإصرارُ لما استمرت شموع على الرمال تنارُ ويسأل الابن: والبحر؟ ترد الأم: البحر عاد كريماً أعطى بكل سخاء أكاد أجزم أني أثرته بندائي فجرت فيه دموعاً سخينة كبلائي غسلت فيها جراحي وجدت فيها عزائي يقول الابن: البحر يبكي ولكن بعزة وإباء يسيل نفطاً وخيراً على الرمال الظماء فيرتوي كل عرق في أرضنا بدماء فتكتسي بجنان على المدى خضراء المجد يضحك فيها لنهضة وبناء تقول الأم: يا ابني تحدث قلبي بكل ما أخفاهُ فاحفظ تراثك يا ابني يرد الابن: ما عشت لن أنساه فأنا أعيش بعز عرق الجدود بناهُ النور يغمر نفسي بالعلم ما أبهاهُ وأبو خليفة نادى لبّى الرجال نداهُ ومضى يعمّر يبني فاحفظه يا الله ولقد حفظ الله زايد في أعماله العظيمة.. في إنجازاته الكبيرة.. في شعبه الذي أحبه وسيبقى على هذا الحب جيلاً بعد جيل.. حفظ الله زايد.. في أولاده.. في خليفة القائد وولي عهده الأمين محمد.. وباقي أفراد أسرته.. ولا غرابة أن أراه في كل مرة أرى فيها واحداً منهم.. حفظهم الله جميعاً وحفظ الإمارات وشعبها العظيم. خليل عيلبوني
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©