السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مدينة الحياة والفن وثقافة الاحتفالات

مدينة الحياة والفن وثقافة الاحتفالات
14 سبتمبر 2007 00:49
لطالما شدني التاريخ واستهوتني المدن التي تزخر بحكايات الماضي والأحداث المميزة؛ ولأن درجات الحرارة بدأت بالارتفاع في مدينتي الغالية أبوظبي، قرَّرتُ السفر وزيارة جزء مهم من أوروبا، ذلك الجزء المعروف على خريطة العالم بـ ''ولاية بافاريا''، وبالتحديد كانت رحلتي إلى ميونخ ''منشن''، كما يسميها أهلها الذين يتذكَّرون بهذا اسم الراهب ''منشن'' الذي قطن الناس حول ديره، وكانت تلك ميونخ الأولى وبداية نشأتها· بدأتُ يومي الأول في المدينة التي قال عنها الروائي توماس مان: (ميونخ تضيء)، بدأتها بجولة استكشافية داخل أحيائها سيراً على الأقدام، فأنا أؤمن بأن السياحة الحقيقية هي أن يتجوَّل السائح على قدميه بين شوارع المدينة التي يزورها والتعرُّف إلى عامة شعبها· أصدقاء ألمان من حسن حظي أن زيارتي الأولى كانت متزامنة مع وجود أصدقاء ألمان من المدينة نفسها كانوا قد عاشوا في الإمارات لسنوات سابقة، فرأوا أن فرصة إرشادنا ومرافقتنا كانت تعبيراً منهم عن الامتنان والمحبة للإمارات· وفعلاً كانوا خير دليل ورفيق· بداية الجولة كانت من المدينة العتيقة حيث المعالم المهمة في مركزها التاريخي الممتد بين بوابة إيزر وبوابة زندلينج وبوابة كارل وساحة ادويونس بلاتز· بدأت جولتي الفعلية من ساحة مارين بلاتز حيث يشعر المرء أن كل شعوب العالم انتقلت إلى هنا لشدة الازدحام لدرجة أننا وجدنا صعوبة في إيجاد طاولة في مقهى لتناول المرطبات· في المارينبلاتز يمكن للمرء أن يتوقَّع مصادفة ما لا يخطر له ببال أن يراه فكثرة السياح العرب تجعلك تفكِّر مرّات ومرّات إن كنتَ في دولة عربية أم أنك في ميونخ حقاً؟· تعتبر ساحة مارين بلاتز قلب المدينة النابض؛ إذ يتجمهر الناس ليستمتعوا بموسيقى الأجراس التي تدقُّ كل يوم، وليروا الأشكال التي تدور في برج البلدية الجديدة للمدينة التي تعتبر تحفة معمارية تبعث المهتم بالفن إلى التأمُّل، إذ تضمُّ واجهة مبنى البلدية أشكالاً ورسومات جميلة تعتبر الأجمل في وسط المدينة · أخبرتني زوجة صديقنا الألماني أثناء متابعتنا للرقصات التي تقوم بها الدمى المتحركة في برج البلدية أن هذه الرقصات هي إحياء للفرح الذي عمَّ بافاريا قديماً حين تخلَّصوا من وباء الطاعون، فصارت هذه الذكرى مناسبة للرقص والابتهاج خلَّدها مهندسو المدينة على هذا النحو المعماري الجميل· ومن أمام برج البلدية توجهنا يميناً نحو شارع تياتيز شتراسة الذي يتميز بمحاله الأنيقة والمعارض والمقاهي الخلابة، ومنه استقبلنا ساحة أوديونس بلاتس، فوجدت نفسي أمام مَعلَم هندسي مميز؛ فكنيسة تياتينز التي تعكس جمال وروعة الطراز الباروكي وتظهر مدى تأثير الفن الايطالي في أوروبا· لم يمنحني فضولي الكثير من الوقت لأقرِّر دخول الكنيسة والاستمتاع بمحتوياتها من لوحات وتماثيل رخامية أروع من أن توصف· قبالة الكنيسة كانت حديقة هوفن جارتن التابعة لمقر الإقامة الملكي ''ريزيدنس'' الممتد من ساحة الريزيدنس إلى ماكس جوزيف ويضم مقر الإقامة هذا متحف الإقامة الملكية وغرف الكنوز الأثرية التي حوت روائع ونفائس المجوهرات والمقتنيات المتنوِّعة، والتي يرجع تاريخ بعضها إلى القرن الحادي عشر· كل ذلك كان مدهشاً، لكن الأروع فيما رأيته هي تلك الأواني الخزفية التي رسمت عليها لوحات فنية تسلب الألباب بروعتها· فعلمتُ، بعد ذلك، أن لهذه الأواني قصة، وهي أن الملك كان مولعاً باللوحات الجميلة، ولشدة حرصه عليها أمر الفنانين أن يرسموها على شيء لا يحترق، فقاموا برسمها على تلك الآنية المفخورة، وبذلك تمكَّنوا من الاحتفاظ بتراث فني غاية في الأهمية التاريخية والجمالية· وبمروري خارجة من متحف الإقامة الملكي، رأيتُ المارَّة يمسحون بأيديهم على أنوف تماثيل لأسود كانت أمام المدخل، فعلمتُ من أصدقائي أن أهل بافاريا يعتقدون أن لمس هذه الأنوف يجلب الحظ السعيد، وفي ساحة ماكس جوزيف على بُعد خطوات من المتحف الملكي يوجد ''المسرح الوطني'' الذي يضمُّ ''دار الأوبرا'' التي بنيت على غرار معبد يوناني قديم· واصلنا الجولة سيراً على الأقدام إلى شارع ماكسمليان شتراسة الفاخر الذي بني بأمر من ملك بافاريا ليكون مكاناً يرتاده الأثرياء والمترفون، ومازال حتى اليوم بنمط عمرانه الانجليزي يزخر بأهم محال ملابس الموضة لكبار المصممين العالميين ومن هنا أطلق عليه السائحون العرب اسم شارع الماركات· قلعة القيصر مررنا بعد ذلك بخندق القلعة والقصر القديم ''إلتن هوف'' الذي كان مقر إقامة القيصر· ومن حسن حظي يومها أننا وصلنا إلى مطعم هوفبرويرهاوس في ذلك الوقت، لأن الجوع أخذ منا مأخذه فتناولنا وجبة الغداء المتأخر فيه، وعلمتُ أثناء جلوسنا للغداء أنني أجلس في أشهر مطعم في العالم بأسره إذ طلب صديقنا الألماني من مدير المطعم إطلاعنا على البوم الصور الخاص بالمطعم والذي احتوى على صور قديمة للمكان تعود إلى أكثر من مئة عام مضت على الرغم من حفاظ المطعم على طرازه القديم ذاته، ولقد دهشت حين اخبرنا مدير المطعم أننا نجلس على الكراسي والطاولات ذاتها التي استخدموها خلال السبعين عاماً الماضية·وبعد تناولنا وجبة الغداء وحصولنا على المعلومات المميزة، تابعنا سيرنا عبر الوادي نحو بوابة نهر إيزر الذي لا تزال ساحته العامة تحتفظ مظهرها نفسه الذي كانت عليه في القرن الرابع عشر، وتحتضن البوابة داخلها متحف صغير· تجولنا في الساحة ثم توجهنا نحو فيكتوالين ماركت، وهو سوق للمواد الغذائية يعتبر الأشهر في ميونخ حيث نقل من موقعه الأصلي إلى الموقع الحالي قبل مئة وخمسين عاماً ليستقر هنا فوق ساحة كانت مستشفى عاماً للناس فيما سبق· في هذا السوق تشعر بمتعة شراء الطعام وفرصة جيدة للتعرف إلى أنواع الأجبان والمخللات والمشروبات المعتقة التي يفضلها أهل ميونخ· وبعد تجاوز فيكتوالين ماركت، نصل إلى المَعلَم الأشهر والأهم في ميونخ ألا وهو كنيسة النساء فيروين كيرشه ذات الأبراج العالية والقباب المدوَّرة المبينة على نمط عصر النهضة هذا النمط الذي تفردت به ولاية بافاريا عن جميع المدن والولايات الأخرى في أوروبا، ويمكن مشاهدة كنيسة النساء بقبابها المميزة من مسافة بعيدة· وبمتابعة سيرنا في طقس ميونخ المنعش، ومع رذاذ خفيف من المطر، وصلنا إلى ساحة كارل بلاتز الذي يسميها أهالي المدينة ستاخوس، وعلمتُ أن هذه الساحة سميت تيمناً بالملك كارل تيودور، لكن ستاخوس الذي يطلق الأهالي اسمه عليها كان رجلاً يملك مقهى في هذا المكان · هذا ما حدَّثنا به صديقنا الألماني أثناء وصولنا إلى محطة القطارات الرئيسة هابنهوف لنستقل الـ (اس بان 5) متوجِّهين نحو مسكننا، حاملين معنا سعادة الجولة الأولى في ميونخ، مدينة الحياة والفن التي عرفت بكونها مركز الانسجام والانشراح، مدينة مقبلة على الحياة ومتشبثة بأجواء المتعة وثقافة الاحتفالات·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©