الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بدأ كارهاً للعلم ثم أصبح مفتي مصر

بدأ كارهاً للعلم ثم أصبح مفتي مصر
14 سبتمبر 2007 23:32
الإمام محمد عبده أبرز رواد النهضة العربية الحديثة وصاحب الدعوة المدوية لتجديد الفقه والفكر الاسلامي، وساهم طوال حياته بعلمه ووعيه واجتهاده في تحرير العقل العربي من الجمود ونقله من قرون التخلف والخرافات الى آفاق الحداثة، كما شارك في إيقاظ وعي الامة العربية ودفعها نحو التحرر، وأحيا الاجتهاد الفقهي لمواكبة تطورات العلم ومسايرة حركة المجتمع في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية· وكان الإمام من أبرز المحرضين على ثورة عرابي، وحينما فشلت كان على رأس المطلوبين وقبض عليه ونفي الى بيروت ثم الى باريس ولكنه كان نفيا هينا مفيدا أشبه ببعثة علمية فكرية، ففي بيروت القى دروسا في الجوامع وتوثقت علاقته بعلماء الشام، وفي باريس التقى استاذه جمال الدين الأفغاني، ليعود الامام الى مصر أكثر خبرة وتصميما على دعوته الاصلاحية، ولكن بشكل أهدأ لا يسعى للصدام مع السلطات سواء كانت الخديو أو الانجليز ولكن يسعى الى تغيير جذري في المجتمع· وُلد الإمام محمد عبده في عام 1849 لأب تركماني الأصل وأم مصرية تنتمي إلى قبيلة ''بني عدي'' العربية، ونشأ في قرية صغيرة من ريف مصر هي قرية ''محلة نصر'' بمحافظة البحيرة، وعلى غير ما عرف عن طفولة العلماء من النباهة والذكاء والجلد، لم يكن في طفولته محبا للعلم والتحصيل، وخضوعا لإلحاح والده المحب للعلم التحق بكتاب القرية وتلقى دروسه الاولى وفي صباه ألحقه أبوه عنوة بالجامع الأحمدي -جامع السيد أحمد البدوي- لإتمام حفظ القرآن وتجويده ودراسة ما تيسر من علوم الفقه واللغة· في ذلك الوقت كان الإمام في نحو الخامسة عشرة من عمره، وظل يتردد على ''الجامع الأحمدي'' حوالي العام ونصف العام إلا أنه لم يتجاوب مع المقررات الدراسية أو نظم الدراسة العقيمة التي كانت تعتمد على المتون والشروح، فقرر أن يترك الدراسة ويتجه إلى الزراعة· ولكن أباه أصر على تعليمه، فلما وجد من أبيه العزم على ما أراد وعدم التحول عما رسمه له هرب إلى بلدة قريبة فيها بعض أخوال أبيه· وهناك التقى الشيخ الصوفي درويش خضر -خال أبيه- الذي كان له أكبر الأثر في تغيير مجرى حياته، فالشيخ درويش كان قاضبا صوفيا ورعا وكان شديد الايمان بالدعوة إلى الرجوع إلى الإسلام الخالص في بساطته الأولى وتنقيته من أي بدع وخرافات· عودة الى العلم واستطاع الشيخ درويش أن يعيد الثقة للإمام الصغير وحببه في العلم وفتح عينيه مبكرا على ضرورة رفع راية التجديد في الفقه والفكر والحياة، وشرح له بأسلوب لطيف سهل ما استعصى عليه من تلك المتون التي رآها مغلقة وعصية على الفهم، فأزال طلاسم وتعقيدات تلك المتون القديمة وقرّبها إلى عقله· وعلى الفور عاد الإمام إلى الجامع الأحمدي ليواصل دروسه بثقة واقتناع ونهم وصار أكثر فهمًا للدروس التي يتلقاها هناك، بل صار الطالب محمد عبده شيخًا ومعلمًا لزملائه يشرح لهم ما غمض عليهم قبل موعد شرح الأستاذ، وتهيأ له أن يسير بخطى ثابتة على طريق العلم والمعرفة بعد أن عادت إليه ثقته بنفسه· في عام 1877 حصل محمد عبده على عالمية الأزهر، وانطلق ليبدأ رحلة كفاحه من أجل العلم والتنوير، فلم يكتف بالتدريس في الأزهر وإنما درّس في ''دار العلوم'' وفي ''مدرسة الألسن'' كما اتصل بالحياة العامة· وكانت دروسه في الأزهر في المنطق والفلسفة والتوحيد وكان يدرس في دار العلوم مقدمة ابن خلدون، كما ألّف كتابًا في علم الاجتماع والعمران· وحينما تولى الخديو توفيق العرش وتقلد رياض باشا رئاسة النظار واتجه إلى إصلاح ''الوقائع المصرية'' اختار الامام محمد عبده لهذه المهمة فضم محمد عبده إليه سعد زغلول وإبراهيم الهلباوي والشيخ محمد خليل وغيرهم، وكان الامام هو محررها الأول· وظل يحررها حوالي عامين استطاع خلالهما أن يجعل ''الوقائع المصرية '' -التي كانت في منتهى البدائية- منبرًا للدعوة إلى الإصلاح· ورغم أن الامام محمد عبده كان يتميز بالهدوء والحكمة والنفس الطويل في الدعوة للاصلاح ولم يكن من المتحمسين للتغيير الثوري السريع، فقد انضم إلى المؤيدين لثورة عرابي وأصبح واحدًا من قادتها وزعمائها، فتم القبض عليه وأودع السجن ثلاثة أشهر، ثم حُكم عليه بالنفي ثلاث سنوات· وسافر الامام منفيا إلى بيروت عام ''1300هـ - 1883م''؛ وأقام بها حوالي عام يدرس في جوامعها ويجالس علماءها ويواصل دعوته الرائدة للاصلاح، ثم دعاه أستاذه جمال الدين الأفغاني للسفر إليه في باريس حيث منفاه فاستجاب لدعوة أستاذه، وهناك اشتركا معًا في إصدار مجلة ''العروة الوثقى'' التي صدرت من غرفة صغيرة متواضعة فوق سطح أحد منازل باريس؛ حيث كانت تلك الغرفة هي مقر التحرير وملتقى الأتباع والمؤيدين· وعقب احتجاب ''العروة الوثقى'' عاد الامام محمد عبده إلى بيروت عام ''1302هـ - 1885م'' بعد أن تهاوى كل شيء من حوله، فقد فشلت الثورة العرابية وأغلقت ''العروة الوثقى'' وابتعد عن أستاذه الذي رحل بدوره إلى ''فارس'' فتفرغ للقراءة والتأليف والتعليم، فشرح ''نهج البلاغة'' ومقامات ''بديع الزمان الهمذاني'' وأخذ يدرس تفسير القرآن في بعض مساجد بيروت· وبالرغم من أن مدة نفيه التي حكم عليه بها كانت ثلاث سنوات فإنه ظل في منفاه نحو ست سنين، فلم يكن يستطيع العودة إلى مصر بعد مشاركته في الثورة على الخديو توفيق واتهامه بالخيانة والعمالة، ولكن بعد محاولات كثيرة لعدد من الساسة والزعماء منهم سعد زغلول والأميرة نازلي ومختار باشا صدر العفو عن محمد عبده عام ''1306هـ- 1889م'' وآن له أن يعود إلى مصر· وعندما تُوفي الخديو توفيق عام ''1310هـ - 1892م'' وتولى الخديو عباس الذي كان شديد العداء للاحتلال الانجليزي سعى الامام محمد عبده إلى توثيق صلته به واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التي تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر برئاسة الشيخ حسونة النواوي وكان الامام محمد عبده عضوا فيه· وفي عام ''1317هـ - 1899م'' تم تعيين الإمام مفتياً للبلاد، ولكن علاقته بالخديو عباس كان يشوبها شيء من الفتور ويبدو أن الخديو الكاره للانجليز لم ينس للإمام حماسه لحضارتهم والحضارة الغربية بشكل عام والاهم مذكرته الاصلاحية التي رفعها للورد كرومر وازدادت علاقة الامام بالخديو توترا ونفورا خاصة بعدما اعتراض الإمام على ما أراده الخديو من استبدال أرض من الأوقاف بأخرى له إلا إذا دفع الخديو للوقف عشرين ألفا فرقًا بين الصفقتين· وتحول الموقف إلى عداء سافر من الخديو، فبدأت المؤامرات والدسائس تُحاك ضد الإمام الشيخ وبدأت الصحف تشن هجومًا قاسيًا عليه لتحقيره والنيل منه، ولجأ خصومه إلى العديد من الطرق الرخيصة والأساليب المبتذلة لتجريحه وتشويه صورته أمام العامة؛ حتى اضطر إلى الاستقالة من الأزهر في عام ''1323هـ - 1905م'' وإثر ذلك أحس الشيخ بالمرض واشتدت عليه وطأة المرض الذي تبيّن أنه السرطان وما لبث أن تُوفي بالإسكندرية في ''8 من جمادى الأولى 1323 هـ - 11 من يوليو 1905م'' عن عمر بلغ ستة وخمسين عامًا·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©