السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بناء العريش.. حرفة من عصر النخلة الأم

بناء العريش.. حرفة من عصر النخلة الأم
16 سبتمبر 2007 04:58
''الخيادي، اللقط، الكرين، المظلة، الزوية، الصمايد، الماد، الصور''·· مفردات قد تبدو غريبة على سمع أبناء الجيل الحالي الذين لم يعاصروا فترات ما قبل قيام دولة الإمارات، ولكنها تحتل مكانة راسخة في ذاكرة ''الشواب والعيايز'' أو مَن نطلق عليهم ''الوالد'' أو ''الوالدة'' توقيراً لكبر سنهم· لقد عاش هؤلاء تفاصيل تلك المفردات برمتها، وتكونت بها شخصياتهم·· ومن هنا تساءل الوالد أحمد بن علي بن سالم العري ''70 عاماً'' من أهالي منطقة الحديبة برأس الخيمة بفضول عندما سألناه عن تلك المفردات: ''ما الذي ستفعلونه بكل هذه المفردات؟·· هل هي للتلفزيون أم للجريدة؟''· ولا عجب من استعار هذه الرغبة في ذهنه لمعرفة الوسيلة التي ستنقل أحاديثه، أو ربما صورته المغمورة، أو أكثر من ذلك الصور الذهنية التي لا يعرف كيف يخرجها من صندوق الذاكرة ويجسدها أمام أعين المارة على أرصفة المدن العصرية، دون أن تفقدها برودة العرض شيئاً من طراوتها الحية في روحه· فهل يجوز لنا بعد هذا اعتبار حياة أحدهم بأنها مجرد (مهنة تندثر)؟! في رأس الخيمة، كما في كل المدن والقرى الإماراتية، كانت النخلة للإنسان كل شيء تقريباً، منها مطعمه ومأواه وأثاث مسكنه، وهي منجم كل أدواته المعيشية، ومن هنا كان لابد لهذا الإنسان من أن يحترف التعامل مع هذه الشجرة الأم، فصار بنَّاءً ونجاراً ونساجاً ''سفافاً'' وصانع حبال·· الخ، وكانت كل هذه المهن، كما يؤكد الوالد أحمد العري، واحداً لا يتجزأ· فمن أجل أن يستطيع الإنسان أن يبني مسكناً من جريد النخل كان لزاماً عليه أن يتقن كل المهن كجرد الحبال من ليف النخلة، ونسج الحصر من سعفها، وصنع الدعامات ''الصمايد'' من جريدها، وعليه بشكل أساسي أن يتشرب الهندسة التقليدية للبناء· العريش ينقسم العريش إلى نوعين: ''خيادي ولقط'' أو''مقصص''·· وكلاهما مسكنان صيفيان، ويختلف حجمهما حسب الرغبة والمقدرة على التكاليف· وقال الوالد أحمد بن علي العري: إن العريش ''الخيادي'' يختلف عن النوع الآخر ''اللقط'' في الجهد والوقت اللذين يستغرقهما البناء في كل منهما، فالخيادي- وكما يبدو للناظر- أقل اعتناءً بجمالية المنظر من اللقط، وهذا لا يعني عشوائية البناء، وإنما بطبيعة الحال إشارة إلى اختلاف مستويات البناء الذي يعتمد على اختلاف دخول أصحاب هذه البيوت، وبالتالي أجرة البناء· ويواصل الوالد أحمد حديثه، مشيراً إلى أن العمل على بناء عريش خيادي يستغرق أسبوعاً على يد ثلاثة ''أساتيد''، ومفردها ''أستاد'' أي أستاذ، وهو صاحب الصنعة، بينما يستغرق بناء عريش ''اللقط'' 20 يوماً، ويعزو ذلك إلى استخدام جريد النخل في الخيادي كاملة دون قص، فقط يتم الاكتفاء بسحلها ''كوفدتها'' بأداة تسمى ''الكافود'' لتجريدها من السعف من أجزائها السفلية للتهوية، وأيضاً يتم تدعيم محيط العريش أو جدرانه بدعامات أفقية من الداخل والخارج، وتسمى هذه الدعامات ''صمايد''، وهي عبارة عن حزمة من الجريد العاري يتم ربطها معاً وتمتين جدران العريش بها والتي تسمى ''خيدة''، ويتم ربط الجدران بالسعف ''الخوص''، ومن هنا أخذ هذا العريش اسمه ''خيادي''· أما عريش ''اللقط'' فيتم اعتماد نفس نظام التهوية للعريش من الأسفل مع قص الأطراف العلوية للجريد المحتفظ بسعفه في الأعلى ومساواتها في مستوى ارتفاع واحد· وبالنسبة للدعامات الأفقية ''الصمايد'' فتكون في ''اللقط'' داخليةً فقط· وطريقة تثبيتها بجدران العريش تتم بواسطة حبل رفيع بها جمالية ملحوظة· ويقول الوالد أحمد: إن عريش ''اللقط'' جاءت تسميته من عملية لفّ الحبل على الصمايد بطريقة حلزونية جميلة وتثبيت الجدران بها لإعطائها متانة أقوى، وتسمى هذه العملية ''اللقط''، وهو ما لا يحدث في عريش ''الخيادي''· سقف العريش وبالنسبة للسقف، يرفع في ''الخيادي'' طولياً بعارض واحد يسمى ''ماد'' تقطعه أفقياً عارضتان خشبيتان تسميان ''صور''· ويستخدم ''الحصر جمع حصير'' في التغطية وأحياناً السعف· أما سقف ''اللقط'' فيرفع بعارضين كبيرين يسميان مادين، وتتقاطع معهما أكثر من عارضة تسمى ''صور''، وتستخدم لتغطيته ''الدعون''، وهي عبارة عن مجموعة من جريد النخل العاري تربط مع بعضها أفقياً بالحبال لتشكل جدار السقف، ولها استخدامات أخرى أيضاً كأرضية للنوم أو الجلوس· وتتوالى الفروقات على لسان ''الاستاد'' الوالد أحمد العري بين النوعين، ثم ينتقل بعد ذلك إلى أنواع أخرى من مساكن جريد النخل مثل ''الكرين'' وهو مسكن شتوي، و''المظلة''، وهي أشبه بالاستراحة لاحتساء القهوة وتبادل الأحاديث، وغيرها من فنون البناء الأخرى· وكصاحب حرفة مندثرة، لم يكن بإمكان الوالد أحمد بن علي العري التوقف عن الغوص في التفاصيل والتنقل ما بينها كطائر حر·· ولكن السرد والتشخيص لا يمكنهما إيفاء هذه المهنة حقها من التشخيص، وقبل ذلك، لا يمكنهما حمايتها من الاندثار·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©