الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جنوب السودان: رياح السلام··· جافة إلى متى؟!

جنوب السودان: رياح السلام··· جافة إلى متى؟!
17 سبتمبر 2007 22:37
أين يكون بحق السماء هذا الصبي ''بانتار ماكار''؟ ذلك هو السؤال الذي علق بألسنة الجميع في تلك الحظيرة الخاصة بالماشية والأبقار ما أن مالت الشمس نحو الغروب، وبدأت أسراب البعوض تتسلل رويداً رويداً من الغدران والبرك المجاورة لتبدأ بالانقضاض على ضحاياها في الساعات المبكرة من الليل· وحتى ذلك الموعد لم يظهر بعد الصبي ''بانتار ماكار'' الذي لم يبلغ بعد من العمر 20 عامـــاً، واعتاد رعي ماشية عائلته وثروتها البالغة 150 رأساً من الأبقار· كان ''بانتار'' قد اختفى بين الأحراش منذ وقت مبكر من بزوغ الفجر وراح منشغلاً بهش الماشية وحثها على السير أمامه مستخدماً في ذلك عصا قصيرة، بينما كان رأسه بالكاد يظهر بين الفينة والأخرى بين الأغصان والشجيرات· ولكن ها هي الشمس قد غربت ولم يعد الصبي بعد، فأين يكون يا ترى؟ سيعود··· ''سيعود حتماً'' أجاب أبوه ''ماكار'' بصوت واثق· والحق أن قدمي ''بانتار'' قد غرستا عميقاً في طين هذه الرقعة من جنوب السودان، حيث تكون السيادة للأبقار بين أهله من قبيلة ''الدينكا''، حيث يعز عليهم مغادرة هذه المناطق والتضحية بثروتهم مقابل إغراءات المال وسهولة الحياة في المدن، بعد أن وضعت حرب الخمسين عاماً الأهلية أوزارها، وحل بديارهم السلام وهبت عليهم رياح التقدم والتنمية، كذلك هو حال القبائل الرعوية في هذا الجزء من السودان، على رغم تقدم عصرنا· ومهما يكن فإن الأيام كفيلة بأن تكشف ما إذا كان ''بانتار'' وغيره من آلاف الصبية سيجنون ثمار هذه التغيرات الإيجابية الجارية في مناطقهم بجنوب السودان أم لا· وفيما يتعلق بهذا الصبي فقد وعد أبوه بإلحاقه بالمدرسة، إلا أن هذا الوعد ربما كان أمنية أكثر من كونه تعبيرا عن رغبة حقيقية، فـ''بانتار'' الوحيد الذي يتولى رعاية الماشية بين إخوته، ويؤدي أعمالاً لعائلته طوال اليوم· فهو يبدأ بحلب الأبقار أولاً حيث يجد نفسه جالساً في أول الصبح بين أرجل حيوان يزن 700 رطل على أقل تقدير، بينما يغطي وجهه بطبقة لامعة من العرق والحليب، وهو يصارع ويواصل در الحليب من أثداء البقرة بيديه ليملأ به الإناء الكبير الذي يحمله بين ركبتيه· وبعد أن يفرغ من هذه المهمة الشاقة، يتعين عليه جمع روث الأبقار الذي يستخدم في إشعال نيران القطيع، وكذلك يهتم بجمع بولها الذي يصبغ به أخوه وأصدقاؤه الكبار شعر رؤوسهم· وعلى بانتار رعاية البقرة المريضة وتمريضها، مثلما عليه التغني والحداء لها متى ما ألم بها الاكتئاب والقلق· وكما سبق القول فإن الأبقار هي ألماس ''الدينكا''، فبها يتزوجون ويدفعون المهر، وبها يقدمون أنفس الهدايا وأغلاها لأحبائهم وأعزائهم· ولذلك فهي غالية عندهم لدرجة استعدادهم للتضحية بأي شيء من أجل الاحتفاظ بها· تأكيداً لهذا كانت آخر عبارات سمعت من ''بانتار'' في ذلك الصبح الذي قاد فيه الأبقار برفقة ثلاثة من مساعديه: إن أصبحت ثرياً في يوم ما، فسوف أشتري المزيد من الملابس والأبقار· فلـ''بانتار'' رداء واحد يلبسه يومياً هو قميصه وبنطاله القصير بينما يمشي حافياً على قدميه بين أشواك حادة، واسم بانتار -البالغ أثني عشر عاما تقريبا-يعني ''البيت الخالي''، نظراً لأنه ولد أثناء فرار عائلته من جحيم القصف الجوي الذي كانت تشنه القوات الحكومية على قريته· يذكر أن جنوب السودان قد شهد إحدى أطول الحروب الأهلية في زماننا الحديث هذا، إذ اندلعت فيه نيران التمرد على الحكومة المركزية في الخرطوم، حتى قبيل نيل السودان استقلاله الكامل في يناير من عام ·1956 وكما عرفت تلك الحروب في خطوطها العامة والعريضة، فقد كانت عراكاً طويلاً ودامياً بين جنوب مسيحي وثني أفريقي، وشمال مسلم عربي· ثم أخيراً قدر لهذه الحرب أن تضع أوزارها بعد أن أبرمت صفقة للسلام بين فصيليها الرئيسيين المتحاربين في العام قبل الماضي ،2005 تم بموجبها الاتفاق على تقسيم الثروة والسلطة بين الجنوب والشمال· وعلى رغم بدء تطبيق هذه الاتفاقية بالفعل في جوانبها الأمنية والعسكرية، إلا أن تطبيقاتها الاجتماعية والاقتصادية لا تزال تبطئ كثيراً في جنوب السودان· فهناك الكثير من المدن الصغيرة لا تزال تفتقر إلى الكهرباء والهواتف النقالــة، بينما يتناثر فيهــا قليـــل من الشوارع المعبـــدة هنـــا وهنـــاك، ولا تتوفر فيها الوظائف لآلاف الشباب العاطلين· أما في هذه القرية التي تسكنها عائلة ''بانتار'' فالاقتصــاد كله يقـــف على أقــــدام الأبقــــار الأربـــع ولا شيء سواها· الحقيقة أن هذه القرية قد تقلصت كثيراً وتضاءلت فيها أعداد الماشية مقارنة بفترات سابقة، ويعــود السبب في ذلك لتزايد هجرة الشباب والصبية منها إلى مناطق أخرى حيث يقيمون ويتزوجون، وبالنتيجة فقد انخفض سعر أجمـــل عروس في القريـــة إلى مائــة بقرة فحسب، بدلاً من مائتي بقرة في الماضي· المهم أنــه وفي السابعــة من مســاء ذلك اليوم أطل رأس صغير من بين الشجيرات، فكـــان ''بانتــار'' يتقدمــه قطيــع الأبقار، فزال القلق وتهللت أسارير الأب والجميع، ولكن إلى أين يمضي مصير ''بانتار'' وأمثاله بعد سنوات من حلول السلام في ربوع الجنوب السوداني؟ مراسل صحيفة نيويورك تايمز بجنوب السودان ينشر بترتيب خاص مع خدمة نيويورك تايمز
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©