الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

رؤى العالم 3 -3

رؤى العالم 3 -3
18 سبتمبر 2007 22:51
ظلت التقاليد الأرسطية العقلانية مستمرة، في مدى تاريخ نظرية الشعر الأوروبي· وبالقدر نفسه، ظلت التقاليد الأفلاطونية غير منقطعة، حتى في استخدام الأفلاطونية المحدثة ضد أفلاطون كما فعل شللي، الشاعر الرومانتيكي الذي جعل من الشعراء كهَّانا يتلقون وحيا مبهما، وأنبياء العالم غير المعترف بهم، القادرين على رؤية المستقبل في الحاضر· ولا يتباعد هذا المنحى الدلالي عن النظرية الرومانتيكية عموما، خصوصا الذين ذهبوا من المؤمنين بها إلى أن الإبداع رؤيا، وأن الشعر كشف عما لا يمكن الكشف عنه إلا به، وذلك بالقدر الذي رأوا به الإبداع كله توصيلا لنوع بعينه من الحقائق الكلية التي لا يمكن تجسيدها - كي تدركها أفهام البشر - إلا بواسطة الخيال الذي وصف كولرد نوعه الثانوي بأنه تكرار في العقل المحدود لفعل الأنا المطلق في المدى اللامحدود· واستمرت الرومانتيكية الأوروبية في هذا المدى بكل تنويعاته، متصدية للتقاليد الأرسطية التي سادت إلى نهاية القرن الثامن عشر، فيما عدا بعض الاستثناءات التي لا تغير قاعدة أن الشعر صنعة بشرية ومهارة يمكن اكتسابها بالتدرب عليها، واتباع قواعد الأساتذة السابقين فيها· ولم تنحسر التقاليد الأرسطية إلا في القرن التاسع عشر، بعد إرهاصات البداية في أواخر القرن الذي قبله، فانطلقت تقاليد أخرى مصاحبة للرومانتيكية التي أعادت الاعتبار إلى فكرة الإلهام، وما صحبها من مصطلحات الكشف والتجلِّي، وغيرها من المصطلحات التي صار الشعر بها - كغيره من أنواع الفنون - رؤيا روحية، حدسية، عرفانية بأكثر من معنى، تصل تماوجات دلالاتها إلى ما يجعل الشاعر من البشر، ولكن ليس مثلهم في صفاته، ولا في رؤاه، ولا في دوره الذي ينزله منزلة ''الأنبياء المجهولين'' الذين قد يرون مغزى الكون في حبة رمل، والأزلية في ساعة من الزمان، والمستقبل البعيد مدى البصيرة التي ترى ما وراء الغيب· ولم تحدث الثورة على الرومانتيكية إلا بعد تحولها إلى ذاتية مغلقة وهشاشة وعاطفية، فقدت قوتها الدافعة التي اقترنت بصعود الطبقة الوسطى المنادية بالحرية في كل شيء وكل مدى (دعه يعمل، دعه يمر، دعه يفكر) إلى أن غربت شمس المبادئ الثورية لهذه الطبقة، وأُطفئت من وهجها الأخير شموس أخرى مقاربة، أو مباعدة مناقضة بالكلية، فدخلنا عصرنا الحديث، والقرن العشرين الذي لم يصل إلى نصفه الثاني إلا وكان العالم قد انقسم إلى قسمين متقابلين، تقابل دلالتي ''الرؤية'' و''الرؤيا'' في المدى الإبداعي· وكانت النتيجة تنويعات ''الواقعية'' في مواجهة تنويعات ''الخلق'' في مدى النظرية النقدية· الأولى تنطوي على متصل، يبدأ من الواقعية النقلية والواقعية النقدية، وينتهي بالواقعية الاشتراكية· والثانية لا تخلو من تنويعات مناظرة في مدى العالم الذي انقسم إلى قسمين: رأسمالي واشتراكي، وما بينهما دول نامية حائرة، أو مذبذبة في انتمائها إلى أي من القسمين المتصارعين فيما أصبح يطلق عليه اصطلاحاً ''الحرب الباردة'' التي كانت تريد الفرار من جحيم الحربين الأوليين وكوارثهما، لكن مع الإبقاء على بذرة العداء المتبادل، والصراع الذي اختلفت أدواته وأسلحته الموازية للأسلحة التقليدية وما بعد التقليدية· ويمكن القول إن الرؤية العقلانية ظلت مستمرة، خلال النظريات الموضوعية التي وصلت إلي ذروة من ذراها، في الغرب الرأسمالي، مع نقد ت· إس· إليوت الذي أكد أن الإبداع ليس تعبيرا عن الشخصية، وإنما هو فرار منها، وأن الرؤية التي يصوغها العمل الأدبي هي معادل موضوعي لشيء يقع خارجه، وكان من الطبيعي أن يزدهر ما يسمي بالأرسطية الجديدة في المدي النقدي الذي ظلت تدور فيه دلالات رؤيا العالم، وذلك في موازاة ما أطلق عليه ''الإحياء الكلاسيكي'' الذي كان شعر إليوت نموذجا له، مع أقران له، وذلك في موازاة إعادة الاعتبار إلى شعراء ما بعد الطبيعة العقلانيين· ولم يكن من قبيل المصادفة أن يكتب ستانلي هايمن عن ''الرؤية المسلّحة'' في مجال النقد الأدبي، وهي نوع من النظرة التكاملية التي تحاول الإفادة من مذاهب النقد، وذلك على أساس أن قسطا كبيرا من التكامل ممكن في المجال النقدي، وأنه في قدرة أي ناقد أن يقيم توازنا موضوعيا في تكوين رؤية نقدية واقعية، يصفها هايمن بأنها مسلّحة لأنها لا تنطوي على سمو المُثُل الأفلاطونية، ولا على المدار المغلق لنظرية من النظريات، بل مدى مفتوح من التوفيق الذي يأخذ ما يناسبه من كل نظرية نقدية متاحة· وفي موازاة ''رؤية'' العالم التي كان يطرحها النقد الموضوعي الذي أطلق علي نقاده اسم نقاد ''نظرية الخلق''، انطلاقا من عدائهم لأي تصور يعود بالعمل الأدبي إلي سجن المحاكاة الخارجية (القديمة) والمحاكاة الداخلية (نظريات التعبير وما في حكمها) - أقول إنه في موازاة رؤية هذا النقد الموضوعي الوضعي (؟!) وفي مواجهة نزعاته، احتشدت النظريات الماركسية المعادية، بحكم طبيعتها، لأية نظرة متعالية أو مثالية إلى الفن· ولذلك استخدم النقد الماركسي مصطلح الانعكاس الذي يبدو وثيق الصلة - في تجاوب دلالته المجازية - بمصطلح الرؤية، فالعمل الأدبي انعكاس لموقف الأدب من الصراع الطبقي في مجتمعه· ويرتبط مصطلح ''الانعكاس'' بنظرية المعرفة في المادية الجدلية· وهي نظرية تنطلق من أن الموضوع المُدرَك موجود خارج الذهن، وهو سابق على صورته، وذلك بالقدر الذي تكون به الأعمال الأدبية ''رؤية'' تحدد موقف الأديب من الصراع الدائ حوله والمستقل عنه، بوصفه مُدْرَكا، حتي وإن كان مدعواً إلى المشاركة فيه برؤيته الأدبية المنحازة إلى أحد أطراف هذا الصراع على نحو مباشر أو غير مباشر· وإذا كنا نصف شعر إليوت وأقرانه بأنه شعر حداثي، يصوغ ملمحا من ملامح الحداثة في القرن العشرين، فإن هذا الملمح يظل في حدود ''رؤية العالم'' العقلانية، الذي يقع موقع النقيض من حداثة أخرى - في المدى نفسه من العالم الرأسمالي - تحتفي بالرؤيا لا الرؤية، منجذبة إلي الأجواء الديونيسية أكثر من انجذابها إلي النزعة الأبولونية التي لا تفارق الإحياء الكلاسيكي بأكثر من معني· وفي هذا المجال تبرز أسماء أعلام الحداثة الفرنسية الذين علّموا المتأثرين بهم من العرب البحث في القارة المجهولة للاوعي الفردي، والغوص عميقا في هذه القارة بما يصل إلي قرارة القرار من أعماق اللاشعور، وبما يجعل من الشعر كشفا عن ما يظل في حاجة إلي الكشف، ورؤيا حدسية إلى عالم لا يتوقف عن التغير، وفعلا إبداعيا حرا يؤكد الحرية المطلقة للفرد، خصوصا بمعناها الليبرالي الإنساني، المعادي للنزعات القومية بكل تجلياتها الاشتراكية·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©