الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ثقافة العنف الكولومبية

24 فبراير 2018 21:45
ذكرت تقارير صحفية كولومبية في الآونة الأخيرة أن طالبة تبلغ من العمر 12 عاماً في مدينة ميدلين تعرضت للطعن بمقص على يد طالبة أخرى تكبرها بعام واحد. إنها حالة أخرى من حالات البلطجة السائدة والمنتشرة، وإن كانت خطيرة دون شك. لكن القراءة الأعمق توضح أن هذه الحادثة نتيجة غير مباشرة للقتال الطويل الأمد الذي يمسك بتلابيب كولومبيا بعد نصف قرن من الصراع المدني. فقد هتكت الحرب النسيج الأخلاقي للأمة، وحالات مثل هذه من العنف غير المتناسب، والذي ينتهي فيه نزاع تافه في مدرسة إلى تهديد حياة فتاة، إنما تدل على الضرر العميق غير الملموس الذي مازالت الحرب الأهلية تلحقه بالبلاد. ورصدت دراسات علم النفس منذ سبعينيات القرن الماضي زيادة واضحة في إجمالي معدلات الجريمة بعد الصراعات المسلحة. وأوائل التقارير كتبها «دين آركر» و«روزماري جارتنر»، وقد كشفا فيه عن زيادة في عمليات القتل والاعتداءات في أكثر من 100 بلد عانى من حروب أهلية أو غزوات أجنبية. وقد ارتكب الجرائمَ أشخاصٌ عاديون وليسوا ضحايا دورات العنف والانتقام، وليسوا بالضرورة مقاتلين سابقين معتادين على العنف. وفي تسعينيات القرن الماضي، أطلق باحث علم النفس والرياضي النرويجي «يوهان جالتونج» على الظاهرة مصطلح «العنف الثقافي». ويُفهم من هذا حاليا مجموعة الأعراف والممارسات والمعتقدات الاجتماعية التي تدعم العنف باعتباره وسيلة ملائمة لحسم الصراع بدلا من المحاذير التقليدية التي تقيد هذا وتعتبره ملاذا أخيرا. وهذا تحول لم يعد فيه الإضرار بالآخرين محرما أو عملا مرفوضا ومحل ندم، بل عمل يتزايد قبوله ومصدر مرغوب للقوة والمكانة والمال والإشباع المعنوي. والعنف الثقافي ناتج عن التعرض الكبير لمستويات خطيرة من العنف ولوابل الرسائل التي تسوغ وتروج وتمجد العدوان. ويحدث العنف الثقافي من خلال مشاهدة العنف والتعود على مشاهده والاستماع إلى قصص العنف وإقناع المرء لنفسه بأن العنف جيد وضروري. ومن ثم يحدث تغير ثقافي نتيجة العنف المادي الذي يتجلى في إحصاءات العنف ونتيجة العنف الرمزي الذي يتمظهر في المحتوي اللفظي المؤيد للعنف. والدراسات الأحدث، مثل تلك التي أجرتها «كريستينا ستينكامب»، تلقي الضوء على دور التشريع في تطور العنف الثقافي. والتشريع باعتباره أداة للتحكم الاجتماعي وخطابا يحدد أولا الواقع ثم يفرض هذا التعريف على الواقع، ينطوي على قدرة كامنة لتعزيز العدوان بل ويقنع الناس بأن إلحاق الضرر بالآخرين أمر صائب تماما. وهذا المنظور يجعل الأعراف نفسها مصدراً للعنف الثقافي. والمجتمع الذي يمجد القوة وتدمير الأعداء باستخدام القانون يثير البلبلة في عقول الناس. وهذا يضفي مشروعية على أفكار التخلص من الآخرين وتشويههم أو النظر إلى الآخرين باعتبارهم أجساداً سامة بلا حقوق أو إنسانية أو صور نمطية للشيطان. وحالياً تعزز الأرقام بشأن العنف والأحكام العرفية هذه النظرية. والبيانات الحديثة الصادرة عن مكتب الطب الشرعي الرسمي والشرطة ومصلحة تسجيل الضحايا في كولومبيا، تشير إلى أن وفيات العنف في السنوات العشرين الماضية، ساهمت فيها الحروب بنسبة 40.8%، بينما ساهمت أحداث السرقة والجرائم ذات الصلة بنسبة تقل عن 15%، مما يعني أن 45% تقريبا من عمليات القتل سببها العنف الشخصي أو الأسري. والقوانين الكولومبية التي تنظم الصراع لها في المقابل تداعيات مباشرة على معدل الضحايا والاشتباكات، وعلى معنى وسياق الحرب، وبالتالي على المنظور الجمعي للحياة والموت. وعلى خلاف الأعراف المعمول بها في وقت السلم، رفعت شرطتنا العسكرية قيمة الانتصار على حساب حقوق الإنسان وفرضت تقسيمات في تصنيف المقاتلين. فالعالم منقسم بين أصدقاء وأعداء. وقواعد الحرب الكولومبية وممارسة القوات المسلحة في الاشتباك صَنَّفت المقاتلين المتمردين باعتبارهم كائنات ضارة تماماً وتهديداً دائماً ومميتاً في الغالب يتعين استئصاله أو إبعاده عن الرؤية. وحين تضع الحرب المعيار ويتبعها المجتمع، تصبح لدينا قراءة متشددة ومدمرة، لا تسعى لحسم الخلافات بل تسعى للعيش على حساب تدمير الخصوم، فيغيب الحوار ويمحي أي أثر للاعتراف. وفي كولومبيا، أصبح الصراع ساحة يعلق فيها المشاركون مستقبلهم المتخيل وشعورهم بالهوية على إفناء المنافس وليس على حل المشكلة. والنمو الاستثنائي للعنف الثقافي لا يصيبنا بالدهشة في بلد كانت فيه الحرب الحالة الطبيعية لفترة طويلة. ولم نعد نفزع من مواطن عدواني، بل نُعجب به ونستمتع بالضرر الذي ألحقه بأي شخص لا يروقه، مثل الفتاة التي وجدت في حقيبتها علاجاً بسيطاً وحاداً لمشكلة صغيرة تمثلت في شخص آخر يختلف معها. *محام في جامعة الأنديز وخريج جامعة هارفارد ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©