الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبوظبي تقف على فجرها

أبوظبي تقف على فجرها
9 فبراير 2011 19:17
طوال الطريق من أبوظبي الى العين كنت أتوقع ما سأراه من مكتشفات أثرية ولقى وغيرها من مألوفيات ما يحتويه معرض للآثار، لا سيما وقد سبق لي رؤية بعضها قبل ذلك... لكنني لم أتوقع أن أشاهد كل ما يتعلق بما فعلته واكتشفته أول بعثة حطت رحالها على ارض أبوظبي لكي تتقصى دفائنها وكنوزها وتسائلها عن ما تخبئه في باطنها من تاريخ... فكل ما يخص هذه البعثة بالتفصيل موجود في معرض “فجر التاريخ: الكشف عن ماضي أبوظبي القديم”، هذا المعرض الذي يتوفر على غنى دلالي لا تقتصر تمثلاته على الاسم فقط بل تنسحب على الفكرة والتصميم. هنا، على بقعة ذات دلالة تاريخية وفي محيط حصن الجاهلي العريق تسرد ابوظبي قصتها، تسترجع ما مرَّ على ترابها من الحضارات، تطوي الزمان لتقف عند فجرها الحضاري مصاغاً بيد خبيرة أتقنت عرضه وترتيبه وتبويبه. تظنون أن نشأتي بدأت في عام 1971 وأنني دولة حديثة. هذا صحيح في المفهوم السياسي لمعنى الدولة، لكن بدايتي أقدم من ذلك بكثير. إنها تعود إلى آلاف السنين فتاريخي عريق، ولي ماض موغل في القدم، وعلى أرضي عاشت أقوام عديدة في غابر الزمان، وعاصرتُ حضاراتي وادي الرافدين ومصر القديمة، وفي بطني أدلة كثيرة على عصور التاريخ الأولى التي تركت بقاياها في جنباتي: الحجري والبرونزي والحديدي، وفي داخلي امتدادات المكان والزمان تحملها حضارة ضمت الشواطئ كما احتضنت مساحات الداخل ثم انتشرت في البلاد، هكذا حكت لي أبوظبي وهي تشير بيدها إلى جبل حفيت الواقع على بعد شهقة من الحصن، لتضيف: وهنا بعض شواهدي تدلُّ عليّْ. على خطى الأسلاف على خطى أسلافهم القدامى في تصميمهم لمدفن الهيلي الشهير صمم الاماراتيون المعرض الذي تقيمه هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، بالتعاون مع متحف موسغارد الدانماركي ومؤسسة الشيخة سلامة بنت حمدان آل نهيان هذه الأيام ويستمر حتى الثاني من مايو 2011، ليضعوك منذ الوهلة الاولى في عبق التراث وحضرة التاريخ.. فكل ما أمامك وما حولك يدخلك في طقس تراثي وتاريخي، بدءاً من المكان الذي يقام فيه المعرض وهو حصن الجاهلي العريق الذي يصافحك من بعيد بعمارته التقليدية الجميلة، ومروراً بفرقة العيالة التي تستقبلك أمام الباب وهي تؤدي رقصاتها وعروضها التقليدية التراثية، وانتهاء بالمعرض نفسه الذي يدخلك في طقس غرائبي تجتاحك فيه مشاعر شتى تراوح بين التقدير والاعجاب والتأمل العميق. وحصن الجاهلي ليس فقط واحدة من العلامات والشواهد التراثية الشاهدة على جماليات العمارة التقليدية التي عرفتها المنطقة منذ زمن بعيد، بل هو أيضاً متحف دائم يستقطب الزوار والسائحين والفعاليات الثقافية المتنوعة منذ قامت هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بترميمه وتجديده. ويرجع الباحثون تاريخه إلى عام 1898، حيث بناه الشيخ زايد بن خليفة (زايد الأول) حاكم إمارة أبوظبي في الفترة الممتدة من 1855 إلى 1909، وجعل منه محل إقامته الصيفية وباشر منه بالعديد من المشاريع التطويرية بدءاً بالأفلاج وانتهاءً بالمباني الدفاعية. وتدل إحدى النقوش المكتوبة على البوابة الجنوبية للحصن على أن القلعة المربعة الداخلية تعود إلى تسعينيات القرن التاسع عشر ميلادي. وفضلاً عن كونه استراحة صيفية للعائلة الحاكمة، كان الحصن رمز الاستقرار السياسي الذي حققه الشيخ زايد بن خليفة خلال فترة حكمه الطويلة. الرؤية هي الأصل بالرؤية تبدأ علاقتك بالمعرض، أعني رؤية المغفور لهما باذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان والشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان التي كانت تقف وراء هذه الاكتشافات المهمة؛ فهما اللذان دعيا البعثة للتنقيب عن آثار أبوظبي، تلك الرؤية التي جعلت هذه الأرض تتكلم بعد صمت، وحولت تلك الرغبة الى حقيقة ماثلة على الارض التي كشفت عن كنوزها الدفينة تحت ضربات معاول الآثاريين الدنماركيين. بالصورة القديمة التي تظهر زيارة الشيخين لأولى تنقيبات أم النار في 1959 يبدأ أول فصل من فصول الحكاية التي يسردها المعرض، لتتلمس ما “كان لدى هذين الرجلين من معرفة عميقة ببلادهما وبالتقاليد الثقافية لشعبها وما كان يعتمل في عقليهما من فضول لاستكشاف اقدم الحقب التي مرت عليها”، كما يقول الكتيب التعريفي للمعرض. ثم، وفي لفتة وفاء للباحثين الأوائل، الذين دفعهم حب المغامرة العلمية ورغبة البحث والاكتشاف للمجيء إلى أبوظبي في فترة مبكرة كانت فيها المنطقة مجهولة لدى الأوروبيين، إذ أن النفط لم يكن قد تفجر بعد ولم تكن المنطقة منطقة جذب كما هي الآن، عرضت هيئة ابوظبي للثقافة والتراث صور لثلاثة من الآثاريين هم: البروفيسور غلوب وجيفري بيبي وكارين فريفلت وهي إحدى طالبات البروفيسور غلوب، إلى جانب متعلقات البروفيسور غلوب الشخصية: صور جواز سفره، بطاقات التذاكر، محفظته التي تضم صور عائلته، غليونه ومطرقة الآثاري الذين لم يكونا يفارقاه اينما يذهب، وِزْرَتَهُ وغترته وعقاله وزيَّه العربي الذي كان يرتديه بعد أن وجده مناسبا لطبيعة الظروف في الصحراء، فاعتاد عليه وتعلق به. وغير بعيد عرضت سيارة الجيب القديمة التي كان يتنقل بها الفريق فوق الرمال باحثاً عما تخبئه الارض في رحمها من كنوز. وفي محاولة منها لبناء صورة متكاملة لما كانت عليه الحياة في ذلك الوقت عرضت ايضاً نموذجاً للمخيم الذي كان الباحثون يخيمون فيه أثناء عمليات التنقيب والبيوت التي كانت من سعف النخل (العشيش). حيث كان من الصعب على الدانماركي الاكتفاء بالخيام البدوية وقماشها الرقيق لمواجهة الليل البارد في شبه الجزيرة العربية حين تنخفض درجة الحرارة بصورة مفرطة تقترب من الصفر... ولأن المتحف لم يكن موجوداً بعد فقد كانت اللقى والقطع الآثارية التي يتم العثور عليها توضع في صناديق خشبية يمكن للمشاهد أن يرى نماذج منها في ارض المعرض. ويبدو أن البروفيسور غلوب لم يأت للبحث عن الآثار فقط، بل كان مهتماً بتراث السكان وتقاليدهم وعاداتهم وأنماطهم الحياتية، ولهذا أحضر معه الى المنطقة علماء في الأعراق البشرية وكتاباً وفنانين تشكيليين وصناع سينما وأحد المختصين في علم موسيقى الأعراق، روفزنغ أولسن لتوثيق التقاليد المحلية في هذا المكان، والذي قال في العام 1958: “يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار وبصفة عاجلة توثيق كل ما يمكن حول هذه الموسيقى، والتي في سياق عرضها لتصورات الحياة وإشعاعاتها تمنحها قيمة فنية وإنسانية رائعة”. معاً في الحياة والموت في 1961 كتب الاثاري تي جي بيبي الى المغفور له الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان رسالة يقول فيها: “بوسعي أن ابلغ سموكم بأن الحفريات في أم النار تكشف عن حضارة جديدة تماما يعود تاريخها الى حوالي 2400 سنة قبل الميلاد”. مذاك، سيتداول الآثاريون هذا الاسم “أم النار” فيما بينهم وسيشيع في كتابات الباحثين المتخصصين في الحقل الآثاري “حضارة أم النار” وهي التسمية التي أطلقت على حضارة الفترة من 2700 - 2000 ق. م في دولة الإمارات العربية المتحدة. وسيمثل هذا الاسم ثقافة خاصة لتلك الفترة التاريخية، وسيقصد به الحضارة التي ترعرعت ليس في الجزيرة فقط ولكن في مناطق أخرى في الخليج العربي وعموم منطقة شرق الجزيرة العربية في ذلك الوقت. ولعل أهم ما يميز هذه الحضارة تلك القبور الجماعية الفخمة المبنية بطريقة فنية من الحجارة المنحوتة أو المدافن التي تم تصنيفها في ثلاث فئات: مدافن دائرية الشكل ومتعددة الغرف مبنية من الحجارة المنحوتة، ومدافن دائرية الشكل وقليلة الغرف مبنية من حجارة غير منحوتة، ومدافن دائرية الشكل وصغيرة ذات غرفة واحدة مبنية من حجارة غير منحوتة. وتعتبر مدافن منطقة هيلي أهم هذه المدافن وهي تمثل وجه حضارة ام النار الداخلي. وتظهر هذه المدافن أن سكان هيلي اعتمدوا في معيشتهم على الزراعة والتجارة بفضل توفر مصادر المياه التي كانت وفيرة في تلك الفترة في المنطقة، حيث يعتقد أن المنطقة كانت واحة في ذلك الوقت، وبنيت بيوتهم من اللبن المجفف في الشمس في حين بنيت مدافنهم من الحجارة. تتفرس في المعروضات الآتية من حقب التاريخ السحيق. تقرأ في نموذج لأحد هذه المدافن أهمية العلاقات الاجتماعية وقوتها التي جعلت سكان هذه الارض القدامى يتوحدون في الحياة وفي الموت، فالمدافن تدل على أهمية الوحدة داخل العشيرة أو القبيلة. وحسب المعلومات التي أوردها كتيب المعرض فإن “حجرات المدافن كانت فسيحة وتغطي مساحة تصل الى 80 متراً مربعاً وتضم أجيالاً من الموتى وتجهيزاتهم لمرحلة ما بعد الحياة. في إحدى الحالات، كانت ثمة حجيرات علوية توفر متسعاً لأكثر من مدفن. كانت الواجهات الخارجية مصنوعة من لبنات من الحجر الجيري الناعم المزخرفة بالصور في بعض المواضع. وكانت حجرات المدافن مقسمة الى جزأين يمكن الوصول إليهما عبر مداخل صغيرة. وتُظهر الهياكل العظمية المكتشفة في مدافن أم النار، أن الناس الذين عاشوا في هذه المستوطنة كانوا يتمتعون بصحة وافرة. وتعطي الكثير من العظام مؤشرات على الأعمال الشاقة التي تبينت آثارها على العظام كما كانت معتادة لدى البحارة وصيادي الأسماك”. تنفتح بين يديك القرون والسنون، وتمضي في رحلة استرجاعية الى عصور ما قبل الميلاد، ليسقط عليك ضوء الأدلة الأثرية لأم النار الذي اهتدى به الباحثون الى ثقافة السكان الأوائل للإمارات العربية المتحدة ونمط حياتهم. فتجد أنك أمام سكان مارسوا الصيد والتجارة وعرفوا صهر النحاس، ووصلوا في تجارتهم الى بلاد الرافدين ووادي السند. وتمكنوا من إقامة مستوطنات ممتدة نسبياً، عثر علماء الآثار على بعضها حيث وجدوا مقبرة تضم 50 مدفناً مبنياً فوق سطح الأرض. بعض هذه المدافن دائري الشكل يبلغ قطرها 6 - 12 متراً وعلوها بضعة أمتار، وهي مقسمة الى غرف يتم الدخول إليها من خلال مداخل صغيرة شبه منحرفة الشكل. وقد تم تصميم كل غرفة لإيواء عدة جثث. كانت المدافن في شكل قبب، مبنية بواسطة حجارة مهندمة وأحياناً تجد الجدران الدائرية للمباني الكبيرة مزخرفة بنقوش تمثل حيوانات المها والثيران والثعابين والجمال. أدوات الزينة الشخصية كالعقود والمجوهرات ودبابيس الشعر الذهبية، والأسلحة النحاسية والأدوات الفخارية الحمراء المستوردة، والتي كانت مصنوعة بمهارة كبيرة ومزخرفة بتصاميم دقيقة تقدم لك سجلاً غنياً بالرموز التي يمكن من خلالها قراءة شكل الحياة الاجتماعية والثقافة والاعتقادات التي كان يؤمن بها هؤلاء الناس، وما هي إلا عين خبير عرف أسرار الحجارة وأسلمته الفخاريات مفاتنها لكي تتبدى كل تلك التفاصيل الحياتية السائدة، فيما تمنحك صنارات الصيد وشباك الغطاسين معلومة مباشرة تؤكد اعتماد سكان الجزيرة الأوائل على البحر كمصدر للغذاء. ويتعزز ذلك مع وجود الأطوم، أو عجل البحر، بكثرة ما يعني أنه كان من المكونات الأساسية في نظامهم الغذائي الى جانب استعمال جلده وزيته. ويبدو أن الأطوم كان موجوداً بوفرة في ذلك الوقت بدليل اكتشاف الكثير من عظامه ضمن المواد العضوية الأخرى التي تم العثور عليها في الموقع. صغيرة هي جزيرة أم النار، لكنها تؤكد مرة أخرى أن الأثر لا يحتكم إلى المساحة وأن بلدان صغيرة قد تجترح من الأفعال المهمة ما لا تقدر عليه بلدان كثيرة، فالجزيرة الصغيرة في مساحتها تستطيع بفضل ثرائها التاريخي أن تأخذك، كما أخذت علماء الآثار من قبل، إلى أغوار سحيقة في التاريخ، الى الحضارة التي سادت في الخليج العربي وجنوب شرق الجزيرة العربية قبل أربعة آلاف سنة خلت. تاريخ على حجر الحجر، وما أدراك ما الحجر... تاريخ صامت لا يبوح بما في قلبه إلا لأصدقائه من الآثاريين الذين يبذلون كل ما لديهم لكي يعثروا على قطعة تؤكد أو تنفي لهم فرضية ما. حدث هذا مرات كثيرة من بينها واحدة في جبل حفيت وهيلي وقرن بنت سعود التي فتحت كتابها لهم وأطلعتهم على كنوز تم تقدير عمرها من خمسة إلى ثمانية آلاف عام. ويعد بعضها من اقدم الاثار البشرية في ابوظبي. وتمتد حقبة العصر الحجري في الامارات من الالف السادسة الى الالف الثالثة قبل الميلاد. وتشير آثار هذه الحقبة الى وجود حيوانات كانت تعيش في قطعان (ابقار وخراف وماعز) باعتبارها عماد الاقتصاد في اواخر العصر الحجري الحديث في شبه الجزيرة العربية. وتتسم هذه الحقبة بثلاثة مواقع مميزة من مواقع العصر الحجري الحديث: المواقع الصحراوية والمواقع القريبة من الجبال والمستوطنات الساحلية. أما المواقع الصحراوية فتدلك عليها قطع الصوان التي تم العثور عليها في الصحراء والتي تشير إلى أنها كانت مواقع مؤقتة على الأغلب كان الرعاة يستخدمونها وهم يتنقلون مع ماشيتهم بحثاً عن المراعي، وأما المستوطنات الجبلية فهي على العكس، اذ ان لديها منفذا دائما الى الماء وبعض المواد الاساسية مثل الحجر والخشب لغايات صناعة الادوات. ووفقا لذلك كانت هذه المستوطنات الاكثر ديمومة حيث تضم تجمعات سكانية كبرى ومن المحتمل انها مرتبطة بأهمية دينية ما، وأما المستوطنات الساحلية فيدل عليها وجود الخزف العُبيدي الذي يعتبر علامة على وجود نشاط تجاري كان سائداً مع المناطق المجاورة. بيوت الموتى على طول الطريق المؤدي إلى جبل حفيت وجدت البعثة مئات من أكوام القبور القديمة. كان ذلك اكتشافاً مثيراً بالتأكيد، وربما صرخ الآثاريون دهشة وسعادة وهم يقعون على كنزهم هذا الذي يقدم لهم الدليل على الروابط بعيدة المدى بين أبوظبي والمدن القديمة في بلاد الرافدين في تلك الحقبة من فجر التاريخ (5000 سنة). لكن الجبل الذي يعد معلماً طبيعياً هاماً بفضل طبيعته الجيولوجية البارزة، والذي يحتفظ على قمته ومنحدراته ببعض الأحافير البحرية التي يعود تاريخها الى 70 مليون سنة عندما انبثق الجبل عن المحيط، يشتهر أكثر بآثاره القديمة. فمنذ ما يقارب 5000 سنة اختار سكان المنطقة الأوائل الجرف الشمالي والمنحدرات الشرقية لهذا الجبل لدفن موتاهم. وقد تم العثور على أكثر من 500 قبر في هاتين المنطقتين. ورغم أن معظم القبور الموجودة في الناحية الشمالية قد اختفت اليوم بسبب التطور الذي شهدته المنطقة، فإن مجموعة القبور الموجودة في الناحية الشرقية محمية، ويتم متابعتها بشكل دوري كما تقول هيئة أبوظبي للثقافة والتراث. أنت الآن وجهاً لوجه أمام مدافن حفيت التي تُعرف أيضاً بمدافن مَزيَد وهو اسم القرية التي تقع بالقرب من المجموعة الشرقية حيث تمثل المدافن حقبة مبكرة من تاريخ الإمارات العربية المتحدة المعروفة بفترة حفيت والممتدة من 3200 الى 2700 قبل الميلاد. في هذه المدافن تتجلى فلسفة هؤلاء السكان في الموت واعتقادهم الغامض الذي جعلهم يضعون الموتى معاً في قبر واحد، ويُعتقد أنه كان يتم دفن نحو 10 موتى معاً في نفس القبر في مجموعات عائلية. وتحتوي بعض المدافن على قطع برونزية وأواني مصنوعة من الحجر الأملس بالإضافة الى خرزات تعود الى فترات لاحقة، مما يدل على أن المدافن قد استعملت خلال فترة لاحقة، خاصة خلال العصر الحديدي. وفي حين أنه لم يتم التنقيب عن معظم القبور، فقد تم ترميم مجموعة منها والتي أظهرت مختلف مراحل البناء الذي يتميز بتصميم يشبه خلية النحل والذي يعد أسلوباً خاصاً بهذه المنطقة على ما يبدو. لكن أيقونة هذه المدافن وأهمها على الإطلاق هو مدفن الهيلي الكبير الذي ما إن تقف أمامه حتى تتسلل إليك رائحة التاريخ، وتعتريك هزة الرهبة أمام الموت الماثل في الحجارة البيضاء التي بني منها المدفن الذي ينتصب وسط القاعة معلناً عن عراقته الحضارية والتاريخية. تتفحص هذا الأثر الكبير المبني من حجارة عملاقة بثلاثة صفوف عالية ترتكز على أساس موجه بعناية، وخلف الواجهة الحجرية جدار دائري داعم وجدران داخلية متقاطعة تقسمه الى جزأين متماثلين يمكن الوصول إليهما من الشمال والجنوب. تسأل المدفن أن يفتح لك قلبه ويروي لك شيئاً عن تاريخه، فيقول: أنا سيد المدافن في هذه الناحية، ليس فقط لأنني أكبرها من حيث المساحة حيث يبلغ عرضي 12 متراً وارتفاعي حوالي 4 أمتار، بل لأنني أيضاً أتمتع بجماليات هندستي المعمارية وجودتها وبنائي الحجري المتقن، ولهذا يعتبرني الآثاريون معلماً مهماً لعصور ما قبل التاريخ في الخليج ورمزاً لآثار أبوظبي وتراثها. تم بنائي من الحجر الجيري الصلب، وفي داخلي أربع غرف داخلية كل واحدة منها مخصصة لدفن عدد محدد من الموتى. وكما ترين أنا أتميز بوجود زخرفة منحوتة على المدخلين المؤديين إلي، حيث تم حفر مدخلي الشمالي في حجر ضخم مزخرف بثلاثة رسوم: الأول في أعلى الفتحة يمثل رجلاً يركب دابة وآخر يمشي خلفه، وفي اليمين يوجد شخصان متعانقان، وفي أسفل الفتحة يوجد حيوانان متقابلان يلتهمان غزالاً صغيراً أو بقراً وحشياً (ربما الفهد العربي). أما الزخرفة الموجودة على مدخلي الجنوبي فهي عبارة عن زوج من البقر الوحشي وآدميين واقفين بينهما. وإذا ما شاهدتني على الأرض ستجدين أنه تم سد كلا المدخلين بحجارة تسهل إزالتها لإعادة استعمالي. في المعرض كما في التاريخ كما على أرض العين يجاور المدفن الكبير برج هيلي (2500 - 2000 قبل الميلاد)، فبين الاثنين قرابة حضارية وجغرافية، وحسب قياسات المسافة فإن البرج يبعد 50 متراً الى الشمال الشرقي من المدفن الكبير، لكن وفق قياسات الروح فإنهما جسدان لكيان واحد. وبرج هيلي هو برج ضخم مبني من الطوب اللبن ومحاط بخندق عمقه من أربعة الى خمسة أمتار، ويبلغ قطره 24 متراً، ومدخله كان على ارتفاع كبير حيث عُثر على درج، بالإضافة الى بئر عميق ومؤن، تؤمن للسكان الصمود أمام الحصار لفترة زمنية طويلة. كما عثر الآثاريون حول محيط البرج على فخار شبيه لما وجد في مدفن هيلي الكبير وفي هذا اشارة إلى أن بناة هذا البرج ربما دفنوا في هذا المحيط. قرن بنت سعود في قلب الصحراء ينهض تكوين صخري ارتفاعه 40 متراً، وعلى مقربة منه علامة واضحة على الطريق القديم التي مرت عبرها القوافل. في المعرض يمكن للمشاهد أن يحدق طويلاً في هذا الأثر الذي يرجع الى (1100 - 600 قبل الميلاد). وفي فبراير 1970 كان هذا التكوين الصخري علامة دلت الفريق الدانماركي على وجود الآثار، حيث وجدوها مغطاة بمدافن حجرية. وكان أحدها غنياً بمكتشفات من العصر الحديدي. ونزولاً نحو الجهة الشرقية من الصخرة، عثروا على كهف فيه منحوتات قديمة ورسومات لرموز وحيوانات. وكما بدأت بالصورة تنتهي بها حيث معرض الصور التراثية الذي يجسد العادات والتقاليد الإماراتية، خاتماً القصة بصورة للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أثناء زيارته لموقع برج هيلي في عام 1971 مع عالمة الآثار كارين فريفلت... تغادر المعرض بجسدك فقط فيما روحك وعقلك سيظلان مسكونين لفترة من الزمن بما شاهدت. طوال الطريق من العين إلى أبوظبي كانت تترى على العقل خيالات أناس عاشوا في الأنحاء وتركوا آثارهم على الحجر لتخبرنا بأنهم مروا من هنا... فيما السؤال يدق بشراسة في رأسي: لقد تركت لنا الحضارات القديمة في كل أرجاء الأرض شواهد ما نستدل بها عليها وعلى كينونتها الحضارية وأسسها التي قامت عليها وتقاليدها والسمات الثقافية التي سادت بها ثم بادت، فماذا سنترك نحن، سكان الأرض في القرن العشرين والحادي والعشرين للأجيال التي ستأتي بعدنا؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©